الأول من آيار والتشويه الرأسمالي لمضمونه


صادق إطيمش
الحوار المتمدن - العدد: 5859 - 2018 / 4 / 29 - 22:01
المحور: ملف الأول من أيار عيد العمال العالمي 2018 المعوقات والتحديات التي تواجهها الحركة العمالية والنقابية في العالم العربي     

الأول من آيار والتشويه الرأسمالي لمضمونه
حينما فرض التضامن الأممي للطبقة العاملة الأول من آيار كعيد تتوقف فيه عجلات العمل عن ألإنتاج ، فرض هذا التضامن بنفس الوقت تسجيل اروع ملحمة نضالية عالمية وحدت نضال الكادحين على المستوى الأممي من أجل رفع مستوى المعيشة وتحسين ظروف العمل وتقليص ساعاته وتنظيم ألأجور والتمتع بالإمتيازات ألإجتماعية والإقتصادية والسياسية التي تتناسب وكمية الإنتاج الهائلة التي توفرها الشغيلة ، خاصة في تلك المجتمعات التي تواصلت فيها وتائر الإنتاج دون إنقطاع وتطورت دون تلكؤ بحيث حققت تراكماً رأسمالياً على حساب القوى المُنتِجة التي كانت محرومة من أبسط الحقوق ، ناهيك عن إستغلالها البشع الناجم عن فائض القيمة بين العمل المُنتَج ومردوده المالي من جهة ، وما يتقاضاه العامل الأجير من جهة أخرى . وعلى مر ألأجيال إحتفلت الطبقة العاملة العالمية بيوم الأول من آيار الذي يتوقف فيه الإنتاج ليستعيد به الشغيلة تاريخهم النضالي الذي يحفزهم كل عام على تجديد ومواصلة النضال في سبيل حقوقهم المشروعة سياسيا واقتصادياً واجتماعياً .

إلا أن هذا التطور الذي حققه التضامن العالمي للطبقة العاملة لم يرق لتوجهات رأس المال الذي سعى للحيلولة دون إستمرارية هذا الزخم الذي بدا وكأنه يتواصل دون توقف ليسم طابع ألإنتاج الرأسمالي بسمات جديدة قد تزيد في تناقضات الرأسمالية التي بدأ روادها يضعون العديد من علامات ألإستفهام على مسارها وبالتالي على مستقبلها . وانطلاقاً من هذا الهلع والخوف بادر البعض بالهجوم على نمط الإنتاج هذا الذي أخذ مسارات لا تتناسب وقيمة ألإنسان كأثمن راس مال في الوجود .

يعتبر الفيلسوف جارلس تايلور ، أستاذ الفلسفة في جامعة مونتريال بكندا ، واحداً من أشهر الفلاسفة المعاصرين . لقد ناقش هذا الرجل الفكر الماركسي والفكر الليبرالي وموقفهما من الراسمالية ، ثم دوَّن قناعاته الخاصة التي يراها متمثلة بالمجتمعات الرأسمالية فيقول " لا نستطيع الحياة دون الرأسمالية ، حيث أن هذا الشكل من علاقات الإنتاج إخترق المجتمع بكامله ، إلا أننا لم نعد نستطع أن تنحمل الحياة مع الرأسمالية . " وبعد أن يشرح أسباب قناعته هذه ، محملاً الرأسمالية العالمية التبعات المترتبة على التلوث البيئي وانحطاط العلاقات الإجتماعية من خلال عدم ثبات سوق العمل وبسبب تدني الأجور المدفوعة في حالة توفر العمل أصلاً ، وغير ذلك من الظواهر السلبية التي يراها مرافقة لنمط الإنتاج الرأسمالي ، يخلص إلى القول " بكلمة واحدة : المجتمعات الرأسمالية هي مسرح دائم للتورط " معللاً ذلك بسياسة الدولة التي تتسم بالتغاضي عن مراقبة راس المال مراقبة حازمة خوفاً على هروبه وتأثيره بالتالي على مواقع العمل الإقليمية . لذلك لابد من وجود الحلول الوسطية ، كما يعتقد الفيلسوف ، التي ستتخذ طابعاً عالمياً . ( نص هذا المقال باللغة الألمانية منشور في الجريدة الألمانية الأسبوعية ـ الوقت ـ بتاريخ 04.05.2005 ) .

لقد تحققت نبوءة هذا الرجل بهروب رأس المال حتى دون أن تتخذ الحكومات المعنية أية إجراءات رادعة ضده . لقد توجهت الرأسمالية لعولمة رأس المال سعياً وراء الأيدي العاملة الرخيصة التي يسهل إستغلالها ، خاصة في تلك المجتمعات التي تفتح الأبواب على مصراعيها أمام الرأسمالية الإحتكارية وجشعها الذي لا يتوقف عند حدود.
لقد بدأ الكثير من المواطنين في الدول الرأسمالية الكبرى ، خاصة الشغيلة منهم ، يشعر بالخطر الذي يهدد مواقع عملهم كنتيجة لسعي الشركات الإحتكارية الكبرى توظيف رؤوس أموالها خارج دول المنشأ ، في تلك المناطق التي يتوخى منها الرأسماليون أرباحاً تزيد على ما يحققونه في دولهم ذاتها التي إستطاع نضال الطبقة العاملة فيها أن يحقق بعض المكتسبات التي وإن لم تكن تتناسب وحجم العمل المبذول وما يترتب عليه من تراكم رأس المال ، إلا أن هذه المكتسبات أصبحت جزءً من النضال الثوري الذي خاضته الطبقة العاملة مُمَثَلة بأحزابها ونقاباتها وتنطيماتها . لقد اصبح هروب رأس المال ظاهرة عالمية إرتبطت بالعولمة التي التي وضعت فيها الرأسمالية شعار : لا وطن لرأس المال .....، موضع التنفيذ الفعلي ، إذ أصبح وطن رأس المال هو ذلك البلد أو الموقع ألإنتاجي الذي يضمن أكبر ما يمكن من التراكم الرأسمالي ، أي اكبر ما يمكن من فائض قيمة العمل الذي تحققه الشغيلة ليذهب إلى جيوب الرأسماليين الكبار . لقد بدأت هذه الظاهرة تزداد وضوحاً في دول أوربا الشرقية والدول الآسيوية ودول أمريكا اللاتينية ، حيث أجور العمل المتدنية , وعلاقات الإنتاج التي تكاد أن تخلوا من أية ضمانات إجتماعية سبق وأن حققتها نضالات الطبقة العاملة في الدول التي يجري تهريب رأس المال منها حالياً .

واستناداً إلى هذا المفهوم الرأسمالي الإحتكاري لتوظيف رأس المال وتسيير العملية ألإنتاجية باتجاه زيادة التراكم الرأسمالي المقترن دوماً بالأجور المتدنية في مواقع العمل الجديدة ، إضافة إلى قلة أو إنعدام الضمانات الصحية والسياسية والإقتصادية للشغيلة في تلك الدول التي جرى تهريب رأس المال إليها , سعت الرأسمالية ألإحتكارية ، وتواصل سعيها هذا الآن بكل نشاط ، إلى إفراغ الأول من آيار من محتواه النضالي وجعله يوماً للعمل وليس للعمال .

يحاول الرأسمال العالمي أن يشتت مفهوم هذا اليوم وإبعاده عن محتواه وذلك بعدم النظر إليه كيوم تتوقف فيه عجلات الإنتاج عن الحركة ، وكيوم إستطاع نضال الطبقة العاملة العالمية أن يجعل منه يوماً للعمال حقاً وحقيقة . لقد أصبح هذا الإنجاز الأممي ، وبمرور الزمن ، عامل إزعاج ليس مادياً فقط ، بل ونفسياً أيضاً للرأسمالية الإحتكارية التي لا تريد لماكنة الإنتاج أن تتوقف ، ولو يوماً واحداً , حيث أن توقفاً كهذا يعني تناقصاً في التراكم الرأسمالي ، حتى وإن كان بنسبة ضئيلة جداً قياساً بمجمل التراكم الرأسمالي للعملية الإنتاجية على العموم وطيلة ايام السنة. فعمد منظرو الرأسمالية إلى خلق النظريات التي حاولوا من خلالها تغيير مفهوم هذا اليوم وتزييف محتواه بتفسيره على إعتباره يوماً للعمل , وليس للعمال ، ينبغي أن تتسارع فيه وتائر الإنتاج , حسب تفسيرهم لهذا اليوم ، ليسجل مستويات إنتاجية متميزة عن الأيام الأخرى ، واعتبروا الإحتفال به كيوم للتوقف عن العمل للتأكيد على نضال الطبقة العاملة ولتطوير مكاسبها نحو الأفضل ، إخلالاً بعملية الإنتاج وعرقلة للتطور الإقتصادي الذي لا يرونه إلا من خلال زيادة التراكم الرأسمالي . فدأبت وسائل إعلامهم بالترويج لمثل هذه النظريات التي إكتسحت الشارع فعلاً ، خاصة بين البسطاء من الناس ، في بعض المجتمعات الرأسمالية التي عتَّم عليها الإعلام فغيَّب عنها ماهية هذا اليوم ومحتواه الطبقي النضالي . لقد افرزت هذه الظاهرة التي تبنتها الرأسمالية العالمية في محاولاتها لجمع أكبر ما يمكن من الأرباح ليس من خلال نقل رؤوس الأموال من موقع إنتاجي إلى آخر أكثر ملائمة منه لتحقيق هذا الهدف فقط ، بل ومن خلال التأثير على إمكانية الحصول على موقع عمل أصلاً في المناطق التي تركتها وتركت خلفها الآلاف من العوائل التي أصبحت على كف عفريت بين يوم وليلة . ويمكن القول على العموم بأن ألإفرازات التالية أصبحت السمة الملازمة للإنتاج الرأسمالي العالمي في الوقت الحاضر :

أولاً : إرتباط إمكانية العمل بعولمة رأس المال الذي ربط مواقع توظيفه بتلك المواقع التي يتحقق فيها أعلى ما يمكن من ألأرباح .
ثانياً : إرتفاع نسبة البطالة في كثير من الدول الرأسمالية المتقدمة كنتيجة لسعي رأس المال وراء الأيدي العاملة الرخيصة ، حيث وصلت إلى مستوى الفقر أحياناً . وهذا ما توصلت إليه أحدث الدراسات في هذا المجال في المجتمع الألماني مثلاً .
ثالثاً : أدى هذا الوضع الناشئ عن تهريب رأس المال من جهة وقلة فرص العمل من جهة أخرى إلى وضع فرص العمل موضع المساومة بين صاحب العمل وطالب العمل . حيث تتجلى هذه المساومة بالشروط القاسية التي يفرضها صاحب العمل على الشغيلة المضطرة للحصول على العمل والتي لا تستطيع الإنتقال مع رأس المال إلى مواقعه الإنتاجية الجديدة . رابعاً : برزت ، وبشكل واضح جداً ، ظاهرة إبتلاع الشركات الكبرى للشركات الصغرى التي لم تعد تستطع مواجهة عولمة رأس المال وما يترتب عليها . لقد شكلت هذه الظاهرة مصدر قلق لدى بعض حكومات الدول الرأسمالية التي باتت تخشى إحتكار السوق في هذا المجال الإنتاجي أو ذاك من قبل هذه الشركات الكبرى التي قد تتحكم فيه كلياً في المستقبل بشكل يخرج عن سيطرة الدولة .
خامساً : من خلال ذلك كله تعرض ويتعرض نضال الطبقة العاملة للإحتفاظ بما حققته من مكاسب في مجال ألأجور وتحديد ساعات العمل والضمانات المرتبطة بالعمل ، إلى خطر الزوال ، أو العودة إلى ما كانت عليه علاقات ألإنتاج في العقود الماضية ، ناهيك عن صعوبة السعي باتجاه تحقيق مكتسبات جديدة تحت هذه الظروف. إلا ان نضال الطبقة العاملة المستمر في الدول الصناعية اصبح من الصعب جداً على الرأسمال تجاوزه او تجاهله.

ولمحاولة الحد من التأثيرات السلبية المترتبة على مثل هذه الظواهر ، يشتد نضال النقابات والأحزاب والتجمعات العمالية في المجتمعات الرأسمالية للمحافظة على المكاسب التي حصلت عليها والعمل على إغناءها بإنجازات أكثر تتماشى والتطور الرأسمالي . إن تحقيق ذلك ليس أمراً سهلاً تحت هذه الظروف التي يمر بها مجمل الإنتاج والإقتصاد الرأسمالي العالمي في الوقت الحاضر . وتصطدم نداءات الإصلاح التي تطلقها الأحزاب والنقابات العمالية بالجشع الرأسمالي الذي يهدد من جانبه بإتخاذ إجراءات معاكسة في حالة إصرار هذه الأحزاب والنقابات على المضي بمطالبها على هذه الوتيرة . وعلى هذا الأساس يبقى مجال المساومات والتنازلات مفتوحاً أمام الجانبين , والذي يسير غالباً بما لا يصب في المصالح الطبقية للشغيلة . فلم يعد أمراً غريبا اليوم في المجتمعات الرأسمالية ان تستمر المفاوضات بين ممثلي العمال وأصحاب العمل لعدة أشهر يوضع العامل فيها أمام خيار فقدان العمل ، وربما لما تبقى من العمروبالتالي إرتباط مصيره ومصير عائلته كلها بذلك ، أو خيار التنازل عن بعض المكاسب التي سبق وأن تحققت فعلاً ، أو التي يمكن أن تتحقق مستقبلاً . وفي كثير من هذه الحالات سيرضى العامل ، على مضض ، ببعض التنازلات عن حقوقه تجنباً للوقوع في براثن البطالة والفقر تحت هذه الظروف التي يمر بها مجمل الإقتصاد العالمي الذي لا يوفر مجالاً أوسع لحركة الطبقة العاملة في الوقت الحاضر ، خاصة في الدول الرأسمالية المتقدمة التي تتزايد فيها وتائر الجشع ً الرأسمالي وتوجهاته الإحتكارية .

إلا أن ذلك لا يمكن أن يعني الإستسلام لهذه الظواهر بأي حال من ألأحوال . هذه الظواهر التي تخلق نقيض هذا النظام في داخله . ويبقى الأمل حياً في التأكيد على الوعي الطبقي الذي يشكل القوة الأساسية التي تحاول نقابات العمال وقوى اليسار المؤيدة لها تأجيجه لردع الرأسمال عن المضي في استغلاله او تشويهه لنضال الطبقة العاملة.

الدكتور صادق إطيمش