خذلان وتأملات أمام المشهد البشري في أرض الكنانة


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 5854 - 2018 / 4 / 23 - 20:21
المحور: العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية     

"لكنها تدور...."

منذ أن عدت إلى أرض الكنانة بعد سنوات طويلة من الدراسة والعمل في إسبانيا وأنا أتأمل مذهولًا ما يدور حولي من تصرفات بشرية لا تليق بشعب صنع حضارة عظيممة لا تزال شاهدة على عظمته "قبل الزمان بزمان". مساحة الأرض والعقل ضاقت بما يصبو إليه كل نفس خيّرة وشريرة، لكنها تضيق أكثر أمام الأخيار، الباحثين عن يوتوبيا مشروعة رغم طبيعتها، عن مدينة فاضلة يقطنونها في حياة هي قصيرة بطبيعتها.
ضاقت الرقعة الجغرافية الصالحة للزراعة والسكن بعد عقود طويلة من التوالد كالأرانب وكأننا في سباق نحو تهلكة لا مفر منها سوى تحكيم العقل والمنطق لنصل إلى التطهير حسب المأساة عند أرسطو دون حاجة للولوج في رماد العنقاء المصرية.
لقد أصبحت أرض الكنانة كقفص دجاج وحشرنا أنفسنا فيه حشرًا، وأمام ضيقه أخذنا ننتفش ريش بعضنا، فتنزف دمائنا، في محاولة من كل واحد الحفاظ على مساحته المتناهية الصغر، بينما الريبة والتوجس والخوف من الجار، لهذا يسعى للقضاء عليه، متصورًا أن بقاءه لا يستوي إلى جانب الآخر. ومع التكاثر المضطرد ضاق القفص وضغفت النفوس وتردت الأخلاق وأخذت الغالبية تصنع قوانينها الخاصة بها منذ أن تتخطى عتبة البيت مرورًا بمحطات الحياة اليومية حتى العودة إلى المنزل، أي في قيادة السيارة وقضاء المصالح والعمل والتسوق. لم تعد هناك معايير جماعية إيجابية، فالكل يتصرف وكأننا يوم الحشر.
هناك نوع من القوارض يعيش في جزيرة في محيط، تتوالد بسرعة، وتعيش على العشب في تلك الجزيرة، وعندما تشعر بخطر نقص الطعام تُقدِم مجموعة كبيرة منها على الانتحار غرقًا في مياه المحيط، كي توفر العشب لبني جلدتها، دون أن تلجأ إلى التقاتل بينها على ما ضنت به الطبيعة، الغذاء الوفير. الحديث هنا عن حيوانات وليس عن بشر يتمتعون بالعقل والبصيرة، إدراك الخطر قبل حدوثه.
الخلل كبير وجلي يبصره الضرير. الكل ينكل بالكل، يترصد له، يراقبه تفاصيل حياته من منظورات كاذبة: الدين والوطنية والأخلاق، نتيجة إفلاس وخوف من ضياع المتر المربع الذي يسكنه كل فرد، فيعيش متوجسًا من الآخر. نظرة الريبة تعلو وجوه الجميع، لهذا ترتكب الموبقات كلها خفية رغم تشدق الجميع بالوطنية والدين والأخلاق. انتفى هامش الحرية في الحياة اليومية، لهذا سيطرت الإزدواجية، وفي الخفاء تترعرع المثالب.
كل هذا انعكس على أكثر العلاقات الاجتماعية حميميةً، العلاقة الزوجية، وأصبحت هذه الإزدواجية تخيم عليها، بعد احتراف اساءة استخدام وسائل الاتصال الحديثة، وعبرها تُرتكب تصرفات خفية تؤدي في النهاية إلى تمزق الأُسر، لتنخطى حالات الطلاق في الزيجات الجديدة نسبة تقترب من الستين في المائة.
من يريد أن يعرف أحد مطابخ الداء فليقترب من المنظومة التعليمية، فالطالب يصل إلى الجامعة وقد تأصلت فيه الأمراض الإجتماعية والمثالب الأخلاقية التي تلقاها في محيطه العائلي وصقتلها المدرسة التي لم تعد تُربي ولا تُعلم. ويفترض أن أساتذة الجامعة في غالبيتهم صفوة المجتمع ثقافةً وأخلاقًا، إلا أن الواقع أكثر بشاعة، إذ يمثلون استعارة قفص الدجاج السالفة الذكر، ولا يقتصرون بنتفش ريش بعضهم بل تحزبوا وقسموا أنفسهم إلى طوائف تقتل وتغتال معنويًا وعلميًا من يرون فيه منافسًا على المساحة الضيفة في القفص. أصبح هذا الاغتيال سمة شائعة بين من يُفترض أنهم يتبوأون أخر مرحلة في تلقين الطالب القيم والعلم قبل انتقاله إلى الحياة العملية. لقد نقل بعضهم قاعات الدرس للنيل من الزميل الذي يرتباون منه أو لا يشكل جزءًا من عضوية الطائفة.
تتجلى هذه الصراعات أكثر في الجامعات الخاصة، فكل من أشرف على موقع أو لجنة أو تولى منصبًا إداريًا زاد لديه شعور قفص الدجاج. وهنا تطفو الصراعات المضمرة على السطح وتؤثر على مسار العلية التعليمية. لا يدرك الزملاء في الجامعة أنهم أساؤوا إلى أنفسهم في أعين الطلاب فأصبحوا لا يكنون لهم الكثير من الاحترام احترامًا وإن تظاهروا بغير ما يضمرون. واليوم نادرًا ما يتحدث الطالب الجامعي عن أستاذه باجلال كما كان يحدث في الماضي القريب، ففي حواراتهم يتجلى هذا الأمر، ولم يعودوا يسبقون أسماءهم بألقابهم العلمية.
لا الدين ولا الأخلاق ولا الوطنية تحل هذه المشكلات، فالكل يتشدق بهذه العناصر الحيوية، بل الحل في الحرية والديمقراطية فهي القادرة على اصلاح جزء كبير من ضيق قفص الدجاج.