قمر الجزائر 7


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5851 - 2018 / 4 / 20 - 14:01
المحور: الادب والفن     

كانت الساعة حوالي السادسة. تفسخ شيء فيه عندما رأى صفًا طويلاً يتشكل أمام مخبزة تخبز خبزًا على الطريقة الفرنسية، وما لبث صف الانتظار أن ضرب أفرادُهُ بأفرادِهِ وأفرادُهُ أفرادَهُ، وصار وحشًا بألف رأس. تذكر ما كان يقوله الجنرال ماسو: "سيكون للعرب النصر لما يقفون بالصف أمام المخابز ككل الناس المتحضرين". وعن الأقدام السوداء: "في الوقت الذي يتعلم فيه العرب الوقوف بالصف أمام دور السينما عليهم أن يخشوهم". كان أولئك العرب يريدون شراء عصا من الخبز أو نصف عصا بثمن مرتفع رغم ذلك. آهٍ يا فرنسا! ستقول جماهير علي لابوانت الشعبية. آهٍ يا خبز فرنسا! آهٍ يا رائحة الوطن الأم! عندما يرتفع سعر الخبز قليلاً يعملون ثورة، لكن للحصول على خبز فرنسي، هم على استعداد ليدفعوا أي ثمن! آهٍ يا خبز فرنسا... وألف آهٍ! خبز فرنسا، رائحة فرنسا، رائحة الوطن الأم... وهذه المخبزة تبيع خبزًا دون توقف طوال النهار! وعندما تبحث عمن يختبئ وراء صاحبها تجد عسكريًا!
ما كانوا يدعونه ثورة الخبز، كان بالون تجارب، فتم قياس قوى الأحزاب السياسية، خاصة "الفيس"، الجبهة الإسلامية للإنقاذ. قوتها، ضعفها. كان الكل يعرف أهدافها: الشريعة، الحجاب، الدولة الإسلامية، الدولة بكل بساطة، الفالتة من سيطرتها، الغول الأسود للعسكر. بالون تجارب كان. البرهان على ذلك، ثمن الخبز القبل بقي ثمن الخبز البعد. تكسير الأدمغة كل يوم بقي على ما هو عليه. كساعة القضاء والقدر مثلاً: بعد الساعة العاشرة لا يعودُ خبزٌ هناك، أو، على التحديد أكثر، لا يعودُ خبزٌ هناك إلا لبعض المحظوظين. سعد لم يكن منهم، مذ حسبه الخباز عاملاً مغتربًا، فكما يعرف كل واحد، العمال المغتربون مكروهون فوق كل شيء. لأنهم يتكلمون كلمتين فرنسيتين أو ثلاث بنبرة تختلف عن نبرة سكان الجزائر العاصمة، ولأنهم، حسب الإشاعات، محشوون بالعملة الصعبة.
سأله:
- أعطني خبزة، وهو يشير بإصبعه إلى غابة من عصي الخبز على الرف.
- أعطيك حلوى؟ سأل الخباز باحتقار.
- خبزة، خبزة واحدة!
- ما كانش.
ثم توجه بالكلام إلى الزبون التالي، واحد وجيه:
- ماذا يمكنني أن أفعل من أجلك؟
- أريد ثلاث خبزات.
مدها إليه.
سأل الوجيه إذا ما زال الفران يشعل الفرن. كلام غامض...
- أنت تعلم، لطهو الطبق الذي تعرفه، أضاف الوجيه.
- سأشعل الفرن غدًا على الساعة العاشرة.
- إذن إلى الغد على الساعة العاشرة.
- إلى الغد. وكن هنا على الوقت.
صحيح إذن ما كان يقال: على الساعة العاشرة، كانوا يحضرون "البنات" لبيعهن، ولهذا كان الخبازون يتوقفون عن بيع الخبز على تلك الساعة.
لكن مرة ثانية، حالف سعد الحظ بغرابة. قال له صبي المخبزة الجديدة في حي حيدرا، حي الأثرياء والسفراء، إنَّ لا خبز لديه. لم يكن يعرفه، فجاء المعلم الذي يخفي نفسه من وراء ستار، وهو يراقب الزبائن، ويكايلهم.
- كم خبزة تريد، أيها الشاب؟ واحدة؟ اثنتان؟ ثلاث؟ عشر؟
- خبزة، خبزة واحدة.
- كل الحانوت.
هذه الخبزات هي الأرخص في العالم، فالدولة تساهم فيها، لتتزود الجماهير الشعبية "لخوي الكبير" بها كل ما بوسعها. في مادة الخبزات، لكل عائلة الحق في التزود بقدر ما تريد: عشر، عشرون، حتى ولو رمت نصفها. تعمل الدولة كل شيء للفقراء على سد حاجتهم إلى شراء الخبز، سلعة غذائية رُفِعَتْ إلى درجة موضوع العبادة الحقيقية. هكذا يجعلونهم ينسون اللحم، الغالي، الغالي جدًا. خبزة، خبزتان، ثلاث، عشر، الله، ما أكرم الدولة! لكن على الساعة العاشرة، كل شيء يتبدل. من لديه الحق في أكل الخبز؟ الفقراء، الأغنياء؟ الزبون التالي كان من نصيبه الصرف. كان رجلاً حسن الملبس، أوروبي الشكل. مع ذلك، كان صرفه أقرب إلى طرده. لا شأن لهذا مع الساعة العاشرة. فقط لأنه لم يدخل في مزاج ذلك الشخص الذي اسمه الخباز أو الفران. هل كانوا كلهم مزاجيين كما يريد الراديو والتلفزيون؟ من يقل راديو وتلفزيون يقل دولة. ومن يقل دولة يقل "إف إل إن"، جبهة التحرير الوطني. كان الجيش يختبئ خلفها، طالما يلائمه ذلك. بالمقابل، لم يخفِ سعدي فضوله. لم يتوقف عن النظر إلى داخل الدكان. ربما لم يزل الفرن مشتعلاً. بمفردات أخرى، تلك البنات، اللواتي كانوا يفضلونهن عن الخبز، كن ربما هناك. نظر جيدًا، حتى أنه ذهب من وراء الرف ليرى جيدًا، تحت النظرة المتسائلة للمعلم. لا شيء. لم تكن عاهرات هناك. من المحتمل ألا يكون كل الخبازين قوادين. على الأقل هذا ما خلص إليه الفضولي سعدي في ذلك الوقت.
توقف قليلاً على عتبة مقهى المِلْكْ-بار، قبل أن يغيب فيه، ويشرب كأس حليب بارد. هنا، قال لنفسه، وضعت جميلة بوحيرد أو جميلة بوعزة أو سامية الخضري أو زهرة ظريف أو حسيبة بنت بوعلي أو أية ملاكة من الملاكات القنبلة الموقوتة لا لشيء آخر غير التباهي. أنا التي فجرت شقراوات المِلْكْ-بار! لا، أنا! لا، أنا!... فلنسأل صانع أسهمنا النارية. هيه! أنا، علي؟ لم يقل علي لابوانت شيئًا. لم يكن يحب مضاجعة من يعمل معها. لم يكن سعدي ياسيف، رئيسه، من وضع القنبلة، لكن حسيبة، حسيبة الأخرى، حسيبة بنت بوعلي. كانت مفضلته. هنا، سقط أبرياء، رجال ونساء، أطفال كبار جاؤوا ليشربوا كأس حليب بارد! قُتِلوا بدمٍ بارد! لم يكونوا يعرفون أن الجزائر هي هذا كذلك! قُبلة قاتلة! لم يكونوا يعرفون أن الناس كلهم متشابهون عندما يموتون. كان عليهم أولاً أن يموتوا. قرأ الفاتحة على أرواحهم، وخرج ليمضي أمام التمثال المسخ للأمير عبد القادر. وهو يرى هذا الرجل الكبير صغيرًا، رغب في البكاء، نعم، في البكاء. تماهر النحاتون الإيطاليون، مع تواطؤ السلطات، في التحويل إلى عدم، كل ما له علاقة بتاريخ هذا البلد. كان من اللازم أن يكون تمثال الأمير المكافح من العظمة بالقدر الذي كانه تمثال جاريبالدي، حتى ولو كنا نحن المسلمون السنيون لا نعبد الأصنام، ولا ننصب التماثيل، قال سعدي لنفسه. سُنَّة وتماثيل يتعابدون عبادةً يفرضها إلحاد مؤمن لا يؤمن به الجنرالات قسرًا.