هل الفكر الديني شموليا خارج حدود الزمان والمكان أم إنعكاس لرؤية محدودوة... ح1


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5850 - 2018 / 4 / 19 - 22:46
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

من أهم أركان الفكر الإسلامي في إطار الفكر المجرد دون التوصيف الذاتي له، أنه كان عامرا بفكرتين جديرتين بالاعتبار والنظر أولهما الشمول الزماني والمكاني والنوعي المقرون بالحال, والنقطة الثانية أفتراض فكر القرآن أن الحدود التي يصلها هذا الفكر خارج إطار النموذج الأختزالي هي الأساس المعتمد في فهمه وسيرورته معرفة بشرية جديرة بالاعتماد والاعتقاد, بمعنى عام ورد في نص قدسي (أفإن مات محمد أو قتل إنقلبتم على أعقابكم), هذا النص أخرج الفكر من دائرة الشخص الواحد إلى ذاتية المضمون عابرا بذلك كل أشكال التجريد والالتصاق بين النص وحامله.
هنا ربط الإسلام وجوده الباقي وسر ما فيه من روحية فكرية تتعامل مع العقل ومعبرا عن الواقع وباسطا به ما يستخلصه بما يحمل الفكر من غائية وهدف وعلة, ليس مهتما أصلا بدائر الشخص الذي بشر به أو نقله أو أبتدعه, ولم يختزل هذا الوجود الكوني بتلك الشخصية العظيمة التي نجحت بتجرد أن تثبت بالواقع هذه الأساسية الفكرية وأشاعها عبر سلسلة من التصرفات التي تفصل بين الدين وبين الرسول, أما في الخصيصة الأولى فقد بين الإسلام كدين أنه ملك للإنسان بعيدا عن الزمن والمكان والحال النوعي ومسخر لأجل قضية أكبر مما نعرفه الآن من مظهرية, إنه منهج لبناء عقل قادر على الأخذ بيد الإنسانية نحو الكمالات البشرية النسبية .
لقد أولى الدين الإسلامي فكرة لم تغب عن كل الأديان ولكنها ضاعت في خضم التحولات والتبدلات التي رافقت وجود الدين وأثرت عليه, إنها فكرة الشمولية الخارجة عن حد التحديد الموصوف بنسبة محددة ووفق رؤية جزئية ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)),هذه الحالية التي خاطب بها النص الإنسان على أنه الناس تخطت أهم الأطر الدينية السائدة في عصر الأديان السابقة وكيف تم تقديمها للناس بأنحياز للعنوان وليس للمضمون ((قالت النصارى ليس اليهود على شيء .... , وقالت اليهود ليست النصارى على شيء )) .... .
عرف الدين الإسلامي المجسد بفكرة القرآن الذي فيه هدى للناس "التجرد" بين الشخص وبين الفكر وتخلص من ما يعرف بشخصنة الفكر منسوبا للمنشيء أو المعلم أو المؤسس، فلم يكن الإسلام مثلا كالبوذية التي ربطت فكرتها ببوذا المؤسس (المعلم) الأول ولا بالمسيحية أو النصرانية ولا حتى باليهودية الموسوية التي تنسب فكر الإنسان إلى محدد شخصاني واضح, كل الذي جاء به الإسلام مقابل ذلك فكرة التسليم للسماء وقيمها وارتباطها بعالم الرحمة والخير الذي حدده بالله, لذا فالعلاقة بين الإنسان المجرد وبين الله لا تمر عبر محمد أو غيره بل بالتسليم لله تسليم فعلي وانفعالي، وربط ذلك كمفهوم وجعله لكل الأديان التي سبقته والتي تسربلت بالشخصانية عندما قال (وهو الذي سماكم مسلمين) أي إبراهيم (وأنا أول المسلمين) عيسى عليه السلام, الإسلام لا ينتمي للفكر الملتصق بالصورة المجسدة ولا بالحضور المعبر عنه بأي صورة يطرحها الواقع, لم يكن فكرا ماديا بمعنى تطلبه لجوهر حسي ليكون معبرا بل بالفكر المثالي العابر للهوية .
الذي حدث أن مجرد أنتقال محمد " ص" إلى عالم أخر طهرت بوادر الشخصنة سريعا، بل ولم تمر ساعة أو أكثر حتى برز مفهوم التشخيص والشخصنة الفعلية كظهور أولى علامات التنازع بين الأنصار والمهاجرين على السطح مرة واحدة وبدون مقدمات, ليس كشعار تعريفي لتمييز بين طائفتين من المسلمين على مستوى واحد من الأنتماء وعلى درجة واحدة من الولاء للدين كما كانت, بل رفع هذا الشعار في تلك اللحظات الحرجة للتفريق بين من ينتمي لمحمد الشخص وبين من ينتمي لمحمد الموضوع, هنا كان دور العامل الأناوي قويا في تشكيل الإطار والخروج من مبدأ الشمولية والتجرد إلى معنى التحزب والشخصنة .
تزعم الفريق الأول من أهل مكة من القرشيين ومن الذين يرون في محمد ص شخصهم الذاتي أو عنوانهم الإيماني بدل فكر الإسلام الذي من الواجب أن يكون هو الغطاء الكلي للمسلمين, فاختاروا أن يستبدلوا صلة الإيمان بصلة القرابة وهذا التحدي هو المسئول الأول عن كل التداعيات الفئوية والعودة لديدن الأختلاف الذي جرى بين أهل الأديان السابقة, الأنا كانت هي القوة الدافعة في ظل نسيان المهذب لها والتغافل عما في الحكم الديني من ضوابط لذا نادوا بالقرابة, أما المجموعة المقابلة كانوا يروا في صاحب الفكرة وموجدها الظرف الموضوعي الذي ساهم في إنضاجها وبلورتها للواقع ليس لأنه كذلك بل لأنهم يرون في ذلك السلاح المتقابل للسلاح الذي أستخدمه الخصوم ضدهم, هذا التنازع هو أول طريق اختزال الإسلام بمجموعة بشرية وليس بقاعدة فكر خارج أطار الشخص الفرد .
نجحت السيرة الأنانية للبعض من الذين كانوا في عداد المؤمنين ومن الجيل المؤسس وتبلور ومنهج الاختزال في لحظة تأريخية حرجة، لتكوين بؤرة سياسية تحولت فيما بعد إلى أكثر من هذا الوصف أساسها العملي فكري في تحويل القاعدة الإيمانية (( كلكم من آدم وآدم من تراب )) إلى مفهوم سيادة النخبة المنتقاة ذات المواصفات الذاتية خارج مدار فكرة الدين, وجعل هذه النخبة محورا للفكرة المتبلورة حديثا والمهتمة بالحفاظ على رابط الفرد بالفرد وليس الفرد بالفكرة، والتي ولدت مشوهة ومنحرفة بقراءة خاصة لتكون قاعدة للدين السياسي الجديد بعد أن غادر الأكثرية الإسلام بوصفه دين العقل .
عندما أحتج المهاجرون بمحمد كونه منهم وينتسبون له وينتسب لهم ظهر الميل الذاتي للشخصنة، وهو ميل لا إيماني قد نبه الرسول محمد عليه من قبل بنص وبأحاديث كثيرة، معلنا أن الدين هو القضية الأولى وليس محمد هو محور الفكرة الرسالية, صار التنازع إذن مبني بين المؤمنين ليس على مبدأ الحق والباطل ولا النص وخلافه، بل هو ما يمكن أن نحتج به خارجهما من هو الأقرب لهم الذات ومستوى فعل الأنا المزاحمة، بدل الهم الفكري وهنا تبلور مشروع الاختزال بوضوح وصار التصريح به ليس محرجا ولا منافيا للنص الديني كما يظنون.
عمق هذا التطور المناداة المتقابلة بنزاع أساسه (منا أمير ومنكم أمير) على أعتبار أن كفي الصراع أو التنافس متساوين بالنتيجة المعتمدة في ساحة التنافس, لقد حدث بهذا الحال الشرخ الأول في فكرة تجرد الإسلام من الشخصية والفردية الذاتية المهيمنة، وأصبح الإسلام كدين توحيدي وواحد لكل الناس حدث انقسامي بدل عنوان جامع شمولي إلى عنوانين منقسمين على نفس الإسلام الواحد.
ولم ينجح أيا منهم بإعادة المفهوم الأصلي إلى مدار العمل الأساسي نتيجة الأعتزاز بالنتيجة التي أفرزها موضوع التنافس السابق, وحتى عندما جرت المرحلة الثانية من الأنتقال السلطوي لم يكن هذا الشرخ غائبا فأنتخب عمر على أساس الهجرة والقدرة على تجسيد الأنا عند المهاجرين, مما أضعف ميل الطرف الثاني بالعودة للمحور الأساس, ومن العوامل التي ساهمت وجذرت القضية لاحقا مفهوم الصحابة الأنصار والصحابة المهاجرين الذين تربعوا على سدة الحكم بعدها, ونجح مشروع الانفصال المنتسب الى دائرة الأنا المنتمية للشخص الفرد المنفصل عن الفكرة وخرج الفكر الإسلامي خاسرا، ليعود ويخرج من دائرة الفعل إلى دائرة التسخير عندما تحول شكل نظام الحكم إلى ملكي قبلي لا علاقة له لا بالإسلام ولا بقواعد التجرد .
لم تخلو السنوات الأربعون التي تلت فترة الوجود المحمدي ولا حتى الفترة التي أعقبتها من بروز نشاط محموم لمحور الأنا المتضخمة، ولا من تأثيراتها على الواقع الفكري والأجتماعي, وعلينا أن نعترف وبكل شجاعة أن طبيعة المجتمع العرباني والعربي المتأثر بالمفاخر الذاتية أولا والبيوتاتية بعدها والقبلية وصولا للشعوبية والعنصرية أثر مهم في نمو النفاق الفكري والأجتماعي، وزدها عمقا موضوع العنصرية والعودة للجاهلية وأحكامها التي تحرر منها الإنسان بعد ظهور الإسلام كدين شعبي إنساني لا يؤمن بالشخصية بل بالسلوكية .
من رحم النفاق الفكري الذي ظهر مباشرة بشكله السافر مع ظهور دعوى الانتساب لمحمد ولقريش ولمكة وتبلورت بعدها ظواهر الأنانية الأجتماعية، ولدت السياسة الحزبيه لأول مرة في مجتمع ما زال في طور التشكل والصيرورة وحتى لم يكتمل توجهه النهائي, كل ذلك كان مدعوما وبخفاء بتوجهات فكرية من رحم واقعها وجدت نفسها في مواجهة فكر أحدث منها وأرقى في النظرة الكلية وبعيد جدا عن المواصفات المتبناة منه، لتدخل معه في صراع وجودي متسلحة بإرث فكري وفلسفي وخزين ضخم من المعرفة اللاهوتية والناسوتية التي يجهلها المسلمون في الغالبية العظمى منهم .
لذا كان العمل الواجب والمستهدف أساسا من كل هذه التوجهات الفكرية هو زعزعة الطور النامي للفكرة الأصلية، بحرف طريق التكوين المرسوم له على معنى الصراط المستقيم وإثارة خصيصة الذات المقدسة, وهدم فيها قاعدة التجرد وعدم الاختزال في شخصية النبي محمد لتحل محلها كل ما يناقضها سلوكيا وأعتقاديا, هذا المنهج الراصد لحركة التحول والمشجع الأساسي لها بما يملك من خبرة ومعرفة اجتماعية عميقة ودينية متأصلة، قبال مجتمع ما زال طفلا يحبو ولم يكن مؤهلا لفترة حرجة من تلمس خيارات بهذه الضخامة والأهمية على حاضره ومستقبل الدين .
هذا الخلل مكنه من أن يستثير الغرائز الأناوية بين أفراده وباعتماد على الطبيعية العربانية الجانحة دوما نحو التفلت من القوانين والقيم الضابطة، ونجح أيضا بتغيير مسارات فهم العرب والعربان للدين مما ساهم ببروز حاد لصراع عربي عربي وإسلامي إسلامي، بين جناحين محافظ على القيم القديمة وأخر يحاول أن يستند للقيم الجديدة, ومن أبرز ما حققه هذا التيار المتعايش مع العربانية الأجتماعية ومجتمع عربي قائم على ذكورية الانتساب والمفاخرة بالحسب والسطوة التي يمثلها رأس القبيلة وهيبة القبيلة لديه، أن أفرخت أحاسيس وأمنيات العودة بالفكر الجديد للقبيلة والعشيرة وحتى المكان، وساهم أيضا وجود قوي ماديا وسلطويا لزعماء انتموا حديثا للإسلام ولم يكن العامل الديني قد صحح الكثير من مفاهيمهم القديمة لديهم.
لقد أورد الأدب الإسلامي في شقيه الروايات والقصص كيف أن البعض من يوصفون بالسادة وأعيان العرب والأعراب، كانوا ينظرون لأقرانهم من المسلمين وحتى بعد إسلامهم الشكلي على أنهم مجرد تفاهات ساقتها الأقدار لتكون أنداد لهم, منسوبا ذلك لسوء الحظ والدين الذي يسلبهم العبيد والأتباع ليجعلهم في مرتبة واحدة إنسانيا, لم يدخل الإيمان بعد قلوب الناس ولم يباشر التثقيف الفكري دورا مهما في حبس الطموحات الأناوية عند حدود الواجب والملزوم الفكري, لقد لعبت هذه الحالية التي سماها القرآن الكريم بالجاهلية دورا مباشرا في شرخ البنيان الفكري بعد التأسيس نحو الاختزال الذاتي والشخصنة المحورية .
من خلال مفهوم الأنتماء المجتمعي المحدود بتأثيرات الأنا المتحررة من قيد الإيمان بالإنسانية التي بشر بها الدين الجديد وصل الشرخ التفضيلي لعمق الفكرة المحمدية وطولها, وانتهك مبدأ التجرد الأصل وصارت مثلا مسألة حماية حدود ومميزات العنصرية القرشية هدف أساسي من أهداف الفكر الإسلامي بالقراءة الجديدة اللا منتمية للفكر المحمدي, وأصبح ديدن الدين الجديد بدل من حماية الإنسان والحرص على تقديم الشمولية الخيرية له كعنوان غائي ومرادف لإنسانيته إلى موضوعية أن العرب سادة الأمم كافة، وإن كانت إسلامية تحت نفس العنوان والهدف وأن قريش سادة العرب وبني هاشم سادة قريش ووووو الخ .
من التقسيمات هذه والتوصيفات الفردية التي اعتمدت القاعدة الذاتية الإعتباطية ولدت فكرة الأنتماء للشخص، قد يكون العنوان نبي أو صحابي أو إمام وحتى لو كان إنسانا من عامة الناس ولكنه أرتبط بجهة ما مع الدين، ووصلت لمرحلة أن من جمع الأحاديث النبوية وإن لم يكن ممن حمل هوية محمد الذاتية مقدسا ومشخصنا بعنوان الدين كله, هذه الكيفية هي التي أخرجت فكرة الحياد والتجرد من التحكم لتكون شخصانية تتبع لموقع المعلم الرسول والانتماء النسبي له بديلا عن الأنتماء للتسليم, وتحول مفهوم كلكم من آدم إلى كلكم لقريش والقريشي الجيد في الجاهلية قريشي جيد في الإسلام، وأخرجوا مفعول الدين الفكري الجامع ليتحول إلى فاعل القرابة ومفعول الولاء للدم كمعيار مفرق .