تكامل الدين والعلم في تكوينية العقل الإنساني وجودا ونتاج


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5850 - 2018 / 4 / 19 - 22:45
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

الله تعالى عندما تدرج في خلق الأشياء بناء على قاعدة تسابق الأهم والمهم والفصل بين العلة والمعلول والأساس على ما يبنى عليه، يعرف تماما أن النظام المحكم خيار بدي للانتظام ولا بديل عنه منعا للاختلاف والبطر والعبثية التي لا تليق بعالم حكيم لذا قال (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت)، بل وعلى فرض أن هناك علل خفية لا يمكن لعقل الإنسان الوصول لها الآن، سيكون من المطلوب بشريا أن يحاول البحث من خلال التفكير والتدبر في آيات وعلل وأسباب الخلق وإن لم يصرح بها الله في كتبه, لا تخرجها من المعقول والمفترض الأساسي إلى حال الافتراض الغير قابل للبرهان والتجربة .
الدين الذي جعله الله وفقا لكونية الوجود المحكم بضوابط وقوانين وأفلاك ومدارات منضبطة لا تقبل العبث بها أو تجاوزها، جاء هو أيضا محكما ومتوازنا ومستقرا في الرؤية على ذات الوجهة التي بنيت فيها شمولية الكون, ولكي يكون الوجود متسقا مع الدين والدين متلائما مع الوجود لا بد من أن نؤمن بفرضية وحدة الإحكام التي تضبطهما معا, وهذا يقودنا لنتيجة أن أفتراض العبث أو اللا نسقيه في الدين فكرة تتناقض مع إيماننا بأننا جزء منضبط من حركة الكون، ولا بد للعقل البشري الذي هو مفتاح الشخصية أن يضع في حساباته الأساسية والأولية أنه منضبط في عمله أو يحاول أن يكون على البرنامج المنضبط الذي أراده الله ليكون .
عندما نقرأ الدين الرسالي وهنا أركز على مسألة النقاء المعنوي في قراءة النصوص وفي القصديات والمبادئ الأساسية للدين قبل أن يخربها الإنسان من البناء إلى الواقع العملي التعبدي, ونتفحصها بتجرد وكأننا أجهزة ميكانيكية للقراءة أو أجهزة ذكية تحلل وتقرأ وترمز وتفرز وتقرر حقيقة هذا النصوص، نجدها تخرج بنتائج مذهلة قد لا تتوافق وتصل إلى حد التعارض والتناقض مع الفهم البشري الطبيعي لها, بسبب أن العقول البشرية تتحسس لكل إنفعالات النفس ووتوهمات العقل وتتحكم لردات الفعل أكثر من قدرتها على أن تكون مجردة تماما من هذه النوازع .
لذا فكلما قرأ الإنسان منتج فكري لغيره سواء أكان الغير باعث الرسالات الدينية أو حتى النصوص المعرفية البشرية، تجده يتشتت ويغرب ويشرق عن النص حسب ما يبني عليه من خزينه المعرفي المكتسب خارجا والمتبنى داخليا, وينتج أفكارا وموارد فهمية قد تخرج المراد النصي من إطاره أو تقصر في بلوغه, ولكنه في جميع الأحوال يعتقد أنه وصل لحقيقة وجوهر النص ويقف مكتفيا بهذا القدر من المعرفة ليتحول فهمه من النص إلى واجهة تغطي حضور النص وتغطي وجوده وكأنه صنع بديلا له, بل يصل الأمر في بعض الأحيان أن النتيجة البشرية للقراءة تزيح مفهوم النص والقصد وتتربع على الواجهة كأنه حكم نهائي لا يقبل النقاش .
من هنا يمكننا فهم الأختلاف بين الدين كرسالة وبين الدين كواقع, الأول يمثل الفكرة وهي خام غير مدنسة بالتدخل البشري وهي القاعدة التي تتوافق مع كونية وشمولية الوجود، وعند دراسة الوجود مثلا دراسة علمية حرفية لا نجد ولا أثناء نظرنا (للدين كنص أو مفاهيم أسية) أي تعارض مع الوجود، وهذا ملخص نهائي لأنهما يتبعان منهجية تكوينية واحدة, ولكن عندما ندرس الوجود كظاهرة مادية تخضع لقوانين العلم والمنطق ومقارنتها بالمفاهيم الدينية والنتائج التي توصل لها العقل البشري من هذه القراءة، سنجد التعارض والتناقض واضحا ويتسع كلما أبتعدنا كثيرا عن النص الديني، أما بالتأويل أو التفسير لأن عوامل التدخل البشري سوف تتقدم على حقيقة وجوهر النص الديني المجرد .
قد يعترض قائل أن الدين مجردا يعني أن يكون فهمه وإدراكه فقط في علم الديان، ومعناه حرمان البشر من حق التفكر والتدبر لأنه هو المخاطب وهو المكلف به وعليه أن يفهم بالطريقة التي تمنحه القدرة على التيقن أولا ومن ثم القدرة على التعبد, وبدون هذه القدرة لا يمكن أن يخضع البشر للنص الديني لأنه يكون غريبا عن عالمه ومنتمي لعالم بعيد أو مطلق المثالية وهذا خلاف المنطق العقلي .
الجواب والاعتراض في الظاهر صحيح ومقنع كنتيجة للكثيرين ولكن الحقيقة التي تغيب عن الأذهان هي أولا أن العقل البشر السوي والذي يعد معيارا للقياس والمقارنة عندما يفكر أو يتدبر النص الديني عليه أن يختار منهجية ملزمة ومتلائمة مع كونية وشكلية وماهية النص هذا أولا، وثانيا أن يكون بالقدر الفهمي الذي لا بد أن يغوص عميقا في النص ويستخرج ما هو الأقرب لروحه، وبالتالي ليس من حق أي كائن بشري أن يتولى التفكير والتدبر وتبني النتائج خارج هذه المعادلات, حاله حال بقية العلوم الوضعية فليس من المناسب أن يقوم مؤرخ مثلا بشرح نظريات الكيمياء بأعتباره مالك لعقل متفكر ومتدبر ما لم يحصل على ملكة ومقدرة أولية بناءة ومبنية على أن تتناول هذه المهمة .
أذن المسألة في التعاطي ليست مزاجية بالمرة ولا هي انتقائية لأن ذلك مخالف للقاعدة الأساسية وهو وجوب الإحكام في التكوين ولا يمكن إدراك المحكم إلا بمنهج مشابه له, هنا نؤكد حقيقة مهمة تتعلق بطرفي المعرفة العلم والدين، إن من يؤمن أن الله عالم وهو من علم الإنسان ما يعلم وهو أيضا من دعا الإنسان للتعلم، لا بد أن يؤمن بالحقيقة الرابعة والمكملة لهذه الثوابت الدينية الثلاث وهي أن نتائج العلم الذي أنزله الله كما يقول النص لا يمكن للدين أن يعارضها أو يقف في الجانب المضاد لها، لأنها نتاج طبيعي لقاعدة أسسها الله وأمر الإنسان أن يبني عليها وبالتالي فهي من حيث التكوين إلهية أيضا .
فليس من المعقول أن الله ينزل معرفة وعلم وفكر وأوامر مترابطة بالهدف والنتيجة البعيدة لا تؤدي إلى نتائج متطابقة مع إرادته في الدين والعكس صحيح, فأما أن نؤمن بالعلم كما هو وبتجرد ونعامل الدين أيضا بنفس الطريقة أو نكفر بالعلم ونكفر بالدين معا، لأنهما من مصدر واحد كما ندع أو يدع النص الديني, وهنا علينا أن نبحث عن الخلل في فهمنا لا في الدين ولا في العلم وخاصة إذا جردنا الاثنان من العوالق البشرية التي تحيد بهما عن الأصل الأفتراضي لهما .
بعيدا عن معتقد اللا ديني والملحد عموما والذي يؤمن بحقيقة ذات وجه واحد هو أن العلم هو الحقيقة الوحيدة في الوجود, وأن الدين مجرد تصورات ذهنية تولدت نتيجة عجز العقل عن التفسير والتبرير لمواجهة تساؤلات وإشكالات عميقة بقيت دون حل لليوم, هذا الذي يعني أن العلم وحده الذي يجب أن يكون المجيب الوحيد لهذه التساؤلات والإشكالات وبالتالي أن نعود للقاعدة التي يؤمن بها المتدين، وهي أن العلم أولا والدين ثانيا هما من فيوضات الله على الإنسان ليست إلا خداع عقلي يراد به انتزاع أعتراف تام للوهم على أنه ممكن أن يكون مجيب أيضا وقابل للمساعدة .
يرى المتدين الحقيقي والمؤمن بالعلم والدين معا أن الأول مسخر لكي يتلاءم الوجود مع ذاته بعيدا عن الإنسان, والثاني أي الدين معطى إلهي للبشر كي يتوافق بوجوده الذاتي مع الوجود, فيكون الدين هنا تابعا للعلم من حيث أنه يفسر ما يربط الإنسان بوجوده وكيف يتعامل مع هذا الوجود كظاهرة مرتبطة بوعيه, عكس العلم الذي يفسر للوجود كيف يعمل ولماذا يعمل ويرسم له الطرق التي بها يصل الوجود للغايات النهائية, هنا أنا أتكلم عن القوانين المجردة الماء في التفسير العلمي أتحاد ذرتي هيدروجين مع ذرة أوكسجين واحدة, وهو قانون مجرد لا يمكن أن نعدل به أو ننفيه .
الدين هنا غير معني في تفسير ذاتية الظاهرة العلمية ولا مخول بالحديث عن قوانين النشوء والتكوين، لأنه غير معد لأن يكون بديلا عن صاحب الوظيفة الأصلي (التقرير)، وبعيدا عن حيثية ووظيفة الدين العقلية الإرشادية التي تهيء الإنسان للتعامل مع العلم كمعطى وجودي والوجود كمعطى علمي بذاته, لا يمكنه أيضا أن يتدخل في هذه الجزئية نفيا أو تعديلا ولكن يقر بما وصل له العلم وأسبابه وتعليلاته، ولكنه يتناول غائية وجود الماء كمسخر لخدمة وجود الإنسان فقط ويلحق هذا ما يبنى على شيئية الماء كوجود متصل بالإنسان.
إذن لا بد أن نتعامل مع الدين على أنه حقيقة علمية بذاتها وليس بكونيتها الوظيفية أي أنه موجود ومفسر وقابل للقياس والتنبؤ, إضافة إلى كونه خطاب إرشادي للعقل كي يضعه على الطريق الصحيح ويحفظ له سويته, هذا الدور التقديري للعلم لا ينتقص من وجود الدين ولا يحل محله، فليس من وظيفة العلم إرشاد العقل مثلا للخيرية والأحسنية كمعيار مثالي وتقويمي، ولكن وظيفة العلم مع العقل تتركز على تأصيل النظام العملي وإثارته الإيجابية ومحاولة تضخيم طرق الأنتاج والإدراك والوعي بما يضيف العلم من حقائق مكتشفه متلاحقة .
وحين يتناول العقل البشري السوي قضية حياتية سواء كانت معرفية أو حسية محضة، ويجد أن هناك شيء من عدم التوافق بين ما يفهمه من الدين ومتعلق بها وبين ما يقرره العلم، يصبح عليه أن يجري مقارنات بين الحقيقة العلمية المتوفرة وقربها من اليقين ثم يعمل ذات الشيء مع الحقيقة الدينية التي أحرزها بفهمه وإعادتها للأس الذي بني عليه هذا الفهم ويخرج بنتائج ما, فأما أن تشير معادلات العلم إلى خلل أو نقص في اليقين وبالتالي تكون الحقيقة الدينية هي الأقرب للواقع أو العكس يحدث، وعلى العقل البشري هنا أن يعود لفحص حقيقة الحقيقة الدينية التي يتبناها ويراجع الدين باحثا ومستكشفا من جديد بفرض جديد هو أن الفهم السابق لا يصح التعويل عليه .
نعود لغاية البحث بعد سوقنا الطويل للمقدمة ولكي نثبت أن الدين كما هو حقيقي يمكنه أن يكون علميا، بمعنى أستخدامه للمنهج العلمي في الاستدلال والبحث, في واحدة من أهم التناقضات التي تجري بين العلم والدين وهي مسألة التفاوت بالتقدير بين نبي ونبي وبين رسول ورسول وبين إنسان وإنسان, وقد يكون هذا الموضوع غريب في الطرح لاسيما وإذا تجاوزنا هذا الموضوع إلى مسميات أخرى، مثل الأماكن والأيام وحتى المأكولات والأشجار والنباتات والليالي مما جرى إيراده نصا أو بناء على القياس أو الرواية التي لم ترد بنص صريح .
مثلا حول تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض كما نجده في الكثير من النصوص ورادا, السؤال هل التفضيل متعلق بالذات أو بالموضوع أم بمعيار أخر؟, وما هي وسيلة التفضيل المعتمدة والنتيجة التي أرادها الله من التفضيل؟, وأسئلة أخرى قد أجاب النص الديني عنها بكل وضوح وفي أكثر من مكان وفي أكثر من دليل, لكن المتحصل الذي وصلنا لم يكن مطابقا لهذا الجواب وبالتالي لم يكن الجواب المتوفر علميا, التفضيل يأت بالدرجة الأولى من باب الكيفية التي يساهم بها المفضل على غيرة كإضافة إيجابية في جملة نظام الكون الشمولي وليس نتيجة لشيء أخر.
الكون الذي يعني جزء محسوس من وجود مدرك بالحس الطبيعي وجزء منه غير مدرك ولكنه معلوم كما قلنا, كائن موزون ومقدر بالحساب الذي يمنحه سر الديمومة والتواصل ويمنع عنه الإفراط في التغير أو التفريط بالمتغيرات الضرورية, وكل عناصر الكون محكومة بهذه الحقيقة المطلقة, مثلا عندما نقيس نسبة فلز معين في التربة الأرضية ونجد أن هذا الجزء من المادة له حضور متعلق ارتباطا بهذه النسبة فلابد من وراء ذلك علة ما يعرفها العلم ويقدرها، أن أي تغيير في هذه النسب قد يحدث تغييرا جوهريا في الأداء مما يسبب أضطرابا للحركة الوجودية الذاتية ولحركة الوجود الظاهرة .
الأوكسجين مكون من مكونات الوجود المدرك نسبته في الهواء المحيط تتغير حسب بعض الأماكن والأوقات مما يسبب تغيرا في كيفية الحياة ونمطها، ولكن بالعموم تبقى النسبة كعموم في تركيبة الكون الأساسية ثابتة لو تغيرت بالزيادة أو النقصان تسبب بما يعرفه النص الديني بالفساد، والعلم يسميه الخلل البيئي المؤثر على الحياة العام, النص الديني عندما يتناول التفضيل من المؤكد يتبع نفس القاعدة في التفضيل، فلا يمكن المساواة والتساوي بين الأشياء المتشابهة وإن أدت وظيفة واحدة لما يبدو للناظر الخارجي من أثر، لكنها تتبع نفس القاعدة العلمية الأنفة الذكر .
في المقدمة التي أوردناها نخلص إلى قضية مهمة جدا وهي أن العلم من حيث فهمنا الديني له أو كما يرده الدين كحقيقة واحد من القضايا التي لله تعالى يد حقيقية في تكوينها وأستمراريته وفقا لمؤديات فكرة الله تعالى عنه, وبالتالي من ينكر قضايا العلم ينكر قضيتين مهمتين وجوديا، أما أن العلم شيء خارجي وضعي لا علاقة لله به وإنه واحد من معطيات الوجود الإنساني بالكامل, فما ينتج منه أي من كونية العلم المجرد بمصدره هو نتاج بشري خاضع بالكلية له, وهنا علينا أن نتبع سطوة الفهم الديني هذا ونجعل لما يتعارض مع الدين كأنه رجس من عمل الشيطان يجب أن يرمى به بعيدا عنا وعن وجودنا.
وهذه النتيجة خلاف العقل السوي وخلاف النص الديني المعتمد وقصدياته والتجربة التي أخبرنا بها الأنبياء سواء بالقصص الديني أو بالمفاهيم الكلية للنصوص, أو أن نلجأ إلى تبرير أخر هو أن هذا العلم الذي نسميه علما بأصوله ونظرياته وأصنافه ليس هو العلم المقصود بالنص الديني, وهذا أيضا يلحق بالنتيجة الأولى كنتيجة، وهي نكران العلم كموجود مرتبط بالله تعالى ومعترف به دينيا, أما القضية الثانية أن الله تعالى لا يعرف هذا العلم ولم يتوصل إليه وهو جاهل به وعليه لا موقف حقيقي لله منه, وهذه النتيجة تتعارض مع قاعدة دينية أخرى أن الله عالم بما كان وما يكون وما هو كائن من يوم أبتدع الوجود إلى أخر لحظة .
أزمة الفكر الديني ولا أقول أزمة الدين أنه لا يستطيع أن ينكر مقدماته التي لو طبقها كما هي لتغير مجرى الصورة لدية نحو قناعات لا تتوافق مع واقع التدين واقعا, وهنا عليه أما أن يجنح لتصحيح هذه الاعتقادات وبالتالي يصل لمرحلة نقد عملي للكثير من أركان الفكر الديني المتعاطي بشكل عام, أو يصر على محاولة التفتيش عن أعذار وتخريجات يظن أنها يمكن أن تساعده في التوفيق بين رؤية ثابتة وحقيقية ومكتسب اليقين النسبي بها كقانون مجرد, وبين أفكار تتعارض مع هذه اليقينية وتتعال عليها بحجة أنها دينية وأنها تكتسب قداسة لصلتها بالله .
النقطة التي تغيب عن صاحب الحل الأخير أنه ينسى أو يتناسى أو يتجاهل حقيقة تتجلى في مقدمات وأسس تفكير الدين من أن العلم من الله, وهو العالم الأول وهو من علم الإنسان ما لا يعلم بما فيه الحقائق التي يستنكرها ويحاول أن يجد حلول توافقية ليعيد مجد فكرته الذاتية المتبدلة والمتغيرة من فرد لأخر على حساب الحقيقة الكلية التي جاء بها الدين وأمن بها الإنسان على أنها حقائق تنطق من لسان الله الحقيقة الكبرى والأبدية .
هذه الأزمة التي يعتبرها البعض جزئية ولا علاقة لها بما نتعرض له من صلة الدين بالدنيا، أجد من الضروري التركيز على أنها من الأهمية بمكان أن تعد مفتاحا مهما من مفاتيح إعادة العلاقة الحقيقية التي تشوهت بسبب الإعتباطية البشرية في التعاطي الديني مع قضية الوجود, القضية التي هي في المعنى الأخر مفهوم الحياة الدنيا كمفهوم ديني صريح ومتكرر ودائم الحضور في الفعل التديني, صحيح أن الله أشار إلى وجود عالم الآخرة وركز كثيرا في تذكير الإنسان بها وسعى إلى أن يكون العمل في الدنيا بمعنى التوافق بين الإنسان والوجود مبني على قواعد الصحة والأنضباط لأن في ذلك تحصيل لما في أمر الآخرة .
ولكن هذا لا يعني أن الله أرادنا أن نكرس الدنيا كلها وبجميع أوجهها للعمل المرجو في الآخرة وحصاد نتائجه على حسابها, ولكن من وجهة نظر علمية أن الله أرادنا أصلا أن نتوافق على مبدأ أن نعيش الوجودين متسقين ومتماهين تماما معه دون أن نحاول خرق القواعد التي تحكمه, لأن في خرق القواعد منح فرص الاضطراب أن تتوسع وبالتالي نسف فرصة الوجود أو التأثير على الحركة الشمولية التي لا تعنينا وحدنا ولا ملكنا وحدنا لأننا جزء من كون واسع ومتسع, الله يريدنا أن نكون إيجابيين (مصلحين ) ولا يريدنا فاسدين أو مفسدين (سلبيين), هذه العلاقة النهائية هي التي يبنى عليها العلم ويتوق لتطبيقها الدين في الدنيا .
بالعودة إلى نتائجنا السابقة علينا وأقول مخاطبا من يعتمد الدين منهج حياتي أولا أن يركز في تعاطيه مع الدنيا على النقاط التالية، والتي تمثل جزء مهم من رسالة الله للإنسان وعماد المنهج الذي يريده أن يكون سبيلا للفوز والنجاة وهي :.
• أن التكامل والتماهي والتوافق بين العلم والدين ليس أفتراض ولا هي محاولة بشرية ولا يمكن للإنسان أن يتجاوزها, بل عليه أن يسعى إلى ترجمة إيمانه إلى أن ما في الوجود من علم ومعرفة ودين، هي بالنتيجة وسائل حاول الله تعالى فيها أن يحسن من فرصة الإنسان للإستغلال الأمثل للوجود أي الفوز في الدنيا .
• الوجود الشامل محكوم بالتكامل ولا يمكن لميزة أو نظام خاص أن يكون مقياسا كاملا وتماميا في تفسير وتقرير العلاقات الوجودية, فكما العلم مسؤول عن التفسير لحركة الوجود الذاتية وتعليل ما تسببه هذه الحركة بموجب قوانين وقيم تجريبية الجانب الأخر من المعرفة ونقصد به العلم يقود الإنسان أولا لفهم هذه النتائج وربطها بكيفية التسخير البشري لها، وثانيا يجعل الإنسان أكثر حرصا على المحافظة على هذه القوانين ودفعها لأن تكون عاملة بحدود قانونا الطبيعي الكينوني .
• إن النهايات الغائية للعلم والدين تلتقي في نقطة واحدة وهي بلوغ الأخيرية والأحسنية وهي الوظيفة الأساسية التي جعلها الله لكل منهم, وبالتالي كما هما أصلا معطى واحد بالتكوين هما أيضا نتيجة واحدة لا تقبل التجزئة أو الأفتراق, وعلى من يقدس الدين لأنه بالأعتقاد الجزئي أنه يوصل للفلاح، عليه أيضا أن يؤمن الإيمان بالعلم والخضوع لمنطقة جزء حقيقي من حالة الفلاح, وعليه أن يحترم المسارات كافة التي يريدها الله ويسعى لها الإنسان بعمله وفكره وإيمانه .
من هنا نؤسس لفهم مشترك حقيقي يربط جناحي المعرفة الإنسانية برابط حقيقي وليس وهما صرفا نريد تعميمه خارج قوانين الوجود ولا مبنيا على التناقض والتضاد, بل هو جوهر الحلقة المفقودة التي أسست إشكالية الرفض وعدم التوافق وبنيت عليه ألاف الفرضيات التي لم تحسم لليوم، لا بنقض حقيقي ولا بتسليم حقيقي لأنها تبتعد عن منطق الدين الأصل ومنطق العلم الأصل، وتتجنب في كثير من الأحيان أن تتجرد في الحكم لتقرر ما هو واجب, أما ظنا بأنها تنتصر للدين وبالتالي يعني الأنتصار لله أو يظن آخرون أن الأنتصار للعلم هو أنتصار للبشر، في غياب فكرة قبول أن الله موجود وسابق لوجود البشر وبما يعني أن ما كان للإنسان اليوم هو أصلا من تراث الله علمه للإنسان بطريق أو أخر .


الفكر الإسلامي والاختزالية بين دائرة المقدس