الزنادقة أو الهراطقة


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 5849 - 2018 / 4 / 18 - 02:39
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

كان الدكتور طه حسين في كتاب (حديث الأربعاء) أول من أرجع ظاهرة الزندقة إلى الحركة الشعوبية التي تحط من العربان وتنال من ديانتهم.
وفي تعريف كلمة الزنادقة، قيل إنهم هم ( الأشخاص الَّذِين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر )، ولكن هذا التعريف غير دقيق لكونه يصفهم من الناحية الدينية وحدها، بينما يؤكد التاريخ بأن معظم من يتم الاصطلاح عليهم بأنهم (زنادقة) كانوا علماء متأسلمون ويعيشون في معارك طاحنة مع الجهلة الأصوليين والمتشددين، الذين لديهم دائمًا خصومة مع العلم والفلسفة والمنطق والرياضيات، واعتبارها ضرباً من ضروب الزندقة والكفر التي يجب استئصالها. والعجيب أن المتأسلمين يتفاخرون بهم دائمًا وأبدًا، مما يشير إلى مدى الفُصام النفسي والسلوكي الذي يعانون منه.
ظهر الزنادقة مبكرًا منذ عصر الرسول، فكانوا يسمون بالمنافقين الذين (يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر)، بحسب وصفهم في القرآن وكتب السيرة والتراث، وجاء ظهورهم كرد فعل طبيعي وكنتيجة حتمية للسلوك الديني - السياسي الذي انتهجه نبي الأسلمة وصحابته، وفي العصر العباسي الذي انتشرت فيه الخرافات والهلوسات الدينية والتاريخية السياسية، فأطلق عليهم لفظ الزنادقة وهو مأخوذ من الفارسية. وكان من أشهرهم الحسن ابن الهيثم أبو يوسف ويعقوب بن اسحاق الكِندي وأبو بكر الرازي وإبن سينا وإبن رشد وأبو حيّان التوحيدي وبشار بن برد الذي جعل تعريف الزندقة قريبا من الزرادشتية في قصيدة مشهورة يقول فيها:
إبليسُ أفضلُ من أبيكم آدم فتبينوا يا معشر الفجـار
الـنارُ عـنـصــره وآدم طــيــنة والطٓـين لا يسمو سمو النارِ
وكذلك كان من الزنادقة عبد الله بن المقفع المولود في خراسان، والذي قتله العباسيون قتلة شنيعة في الثلاثين من عمره، حيث قطع والي البصرة (سفيان بن يزيد) أجزاء جسده وهو حي وألقاها قطعة قطعة في النار أمام عينيه وأمره بأكلها بعد شيِّها… حتى مات من شدة التعذيب. ومن الروايات ما يقول أن ابنه كان قوياً وصبر على التعذيب وقال لقاتله أثناء احتضاره: إذا مات مثلي مات بموته خلق كثير، وأنت تموت ليس يدري بموتك كبير ولا صغير.
يوصف ابن المقفع بأنه شاعر العقل في تاريخ الأدب العروبي، إذ عُرف عنه إعلاؤه لقيمة العقل فوق العادة والتقاليد وثقته في قدرة الإنسان على التمييز بين الخير والشر دون الحاجة للدين. وهو القائل:
يرتجي الناس أن يقــوم إمام ناطـق في الكتيبة الخرساء
كذب الظن لا إمام سوى الـعقل مشيراً في صبحه والمساء
إنمـا هــذه المـذاهــب أسـبابٌ لجـذب الــدنيا إلى الـرؤساء
كما ذهب إلى إنكار الكتب السماوية:
ديـن وكــــفــر وأنــباء تقـــص وفــرقـــان وتــوراة وإنجـــيل
في كل جيل أباطيل يدان بها فهل تفرد يوماً بالهدى جيل؟
ومن أشهر الزنادقة على الإطلاق كان أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي المعروف باسم (ابن الراوندي) المولود (عام 210ع) في قرية راوند الواقعة بين إصفهان وكاشان. وكعادة الرواية الرسمية في تسفيه الخصوم، تزعم بأن الراوندي كان يهوديًا أسلم ثم الحد في اخر حياته.
يعتبر كتابه (الزمرد) قمة ما كُتِب في فكر الزندقة أثناء حكم العباسيين، ويمكن تلخيص بعض ما جاء فيه بالنقاط التالية:
❉ اعترض فيه على تفضيل اللغة العربية على غيرها من اللغات، وخاصة الفارسية.
❉ نقد الشعائر الإسلاموية ووصف الحج والطواف ورجم الشيطان بأنها عادات وثنية وطقوس هندوسية وإنها كانت تمارس من قبل العرب في الجاهلية. وقال إن الطواف حول الكعبة كالطواف حول أي بيت.
❉ تساءل عن عدم قدوم الملائكة لمعونة المتأسلمين يوم معركة أحد.
❉ اعتبر غزوات الرسول محمد سلبًا ونهبًا وقتلًا.
❉ تهكم من وصف الجنة فقال: "فيها حليب لا يكاد يشتهيه إلا الجائع والزنجبيل الذي ليس من لذيذ الأشربة والإستبرق الذي هو الغليظ من الديباج"
❉ قال إن الذي يأتي به الرسول إما أن يكون معقولا أو لايكون معقولا فإن كان معقولا فقد كفانا العقل بإدراكه فلا حاجة لرسول وإن كان غير معقول فلا يكون مقبولا.
❉ نقد القرآن من ناحية كونه فريدا حيث كان ابن الراوندي مقتنعا حسب رأيه بان القرآن ليس فريدا ويمكن كتابة نص أحسن منه وإن عدم مقدرة أحد على محاكاة القرآن يرجع إلى انشغال العرب بالقتال.
كما كتب ابن اللاوندي كتبًا أخرى كثيرة منها كتاب "الطبايع" وكتاب "الإمامة"، وغيرهما. ويمكن تلخيص أفكاره بوجه عام على النحو التالي :
❉ ليس بواجب على الله أن يرسل الرسل أو يبعث أحداً من خلقه ليكون نبيه ويرشد الناس إلى الصواب والرشد، لأن في قدرة الله وعلمه أن يجعل الإنسان يرقى ويمضي إلى رشده وصلاحه بطبعه.
❉ إن تصورات الإنسان عن الخالق والمبدأ محاطة بالأوهام والأساطير، لأن فكر الإنسان يعجز عن إدراك الخالق أو معرفة أوصافه.
❉ أن سر الموت لا سبيل إلى معرفته، فالإنسان منذ ما خلق وهو يبحث عن سر الموت لكي يحول دون وقوعه، فأخفق حتى الآن في هذا السعي، وقد لا يوفق في الاهتداء إلى سره إلى الأبد والناس جميعاً لا يعلمون كيف يموتون، ولو جرب الإنسان الموت ما أدركه أو عرفه حق المعرفة، وإن معاينة موت الآخرين لا تعلم الإنسان شيئاً عن أسرار الموت.
❉ كون "الإنسان عاجزاً عن إقناع نفسه بأنه سيموت، وبأنه سينعدم من هذا الوجود، فلدى الإنسان شعور بأنه لن يموت أبداً، وأنه حين يثوي في قبره سيعيش ويبقى حياً، وإن يكن ذلك بطريقة أخرى وبنشأة تختلف عما كان عليه في هذه الدنيا".
❉ ان الملائكة الذين انزلهم الله يوم معركة بدر كانوا "مفلولي الشوكة وقليلي البطش" فلم يقتلوا أكثر من 70 رجلا ولم ينزل أي ملاك يوم معركة أحد عندما "توارى النبي بين القتلى فزعا".
من الواضح أن الزنادقة تبنوا فكرًا عقلانيًا تجاه الخرافات والأساطير التي وصلت حد الهذيان والهلوسات فى المرويات الإسلاموية. وأن فكرهم مازال قائمًا حتى الْيَوْمَ لدي كل من يستعملون عقولهم، ومن ثم يتهمون بالزندقة وتستحل دماؤهم.

من كتاب: الإسلام جاء من بلاد الفرس ، سوف يصدر قريبًا