العرب الضاربة والعرب الهاربة.


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5844 - 2018 / 4 / 13 - 20:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

من محاسن التأريخ أنه ومهما طال الزمن فأنه مستعد دوما ليفضح نفسه بنفسه طالما أن هناك من يبحث عن الحقيقية مهما كانت مرة أو جدلية، قسم المؤرخون الأعتباطيون العرب وأظنهم لم يفرقوا بين العرب كأصل ثقافي لغوي نشأ في بلاد النهرين وما حواليها من حواضر حضارية ساهمت في بناء وجود الإنسان وتأسيس أولى حضاراته، وبين الأعراب الذين عاشوا على هامش الوجود مكتفين بالقليل الذي يحفظ وجودهم إلى عرب عاربة وأخرى مستعربة، وكأن القوم يريدون أن يقنعوا ذاتهم أولا أن ولادة كلا الطائفتين من منبع واحد ربطوه بخرافات تأريخية لم يجدوا لها مبرز تأريخي ولا حتى دليل علمي يؤكد ما جاء في تصنيفهم إلا رغبات مبنية على ظرفيات حاولوا بكل صورة أن يجعلوا منها حقائق ثابتة.
فالعرب في كل الأحوال ككيان ثقافي وحضاري تشير الدراسات الحضارية والتأريخية العلمية كانوا قبل إسماعيل بمئات السنين، منذ عهد جادو العربي ملك طرطوس في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد ومرورا بعرب العراق الذين هم جمجمة العرب ورأس وجودها، فاللغة العربية التي نتكلم بها اليوم ما زالت تحتفظ بنحو ثلثي كلماتها وجذورها من اللغات العراقية القديمة السومرية والأكادية والبابلية، وتتخذ من نفي نظام الإعراب الذي أنشئته تلك اللغات لأول مرة في التأريخ، فهي اللغات الأولى التي فيها أعراب وفيها أشتقاقات الفاعل والفعل والمفعول به، لذا فالعربية ليست قومية لها جذر عنصري واحد، بل منظومة ثقافية وحضارية عمادها الحرف والفكر والعمل الحضاري، ولو أجرينا مقارنة بين اللغات تلك وبين اللغات التي يزعم المؤرخون أنها جذر اللغة العربية اليوم قد لا نجد بين الأخيرة والعربية التي أكتمل تطورها بنزول القرآن الكريم أي توافق أو أرتباط حقيقي، إلا ما نقل عن الأولى وتأثرت به لغات القبائل الإعرابية نتيجة الهجرات والعلاقات التجارية وما نشأ من أختلاط حضاري بين الأعراب والعرب.
بعيدا عن التأريخ وفضائحة المتكررة وما تم تلفيقه باسمه نجد العرب اليوم كمسمى عام لمجتمعات عديدة أنضوت تحت هذا العنوان، وطغت اللغة العربية على وجودها نتيجة وجود الإسلام كدين مشترك وأرتباطها تأريخيا مع الدين والقرآن الكريم بأعتباره قاسم مشترك، غلب بثقافته الفكرية على المنظومة المعرفية العامة وتوفر السلطة السياسية التي تعاملت معها على أنها ركيزة أساسية لربط شعوب مختلفة وثقافات وحضارات متباينة في جذورها ومعطياتها الفكرية، حاولت أن تتأقلم وتتشارك في صورة توحي للقارئ أو الملاحظ أنها كيان متوحد على أساس ثقافي وفكري وديني، هذا ليس عيبا ولا يشكل تعارضا مع كون العربية لغة وثقافة وفكر يستوعب ويتأقلم أيضا مع موارد ونابع أخرى طالما أنها تواصل فعلها التأريخي، العيب في أن نجعل التأريخ الزائف منصة فخر وقهرا للحقائق الوجودية بعنوان عنصري أو لأهداف لا تمت للفعل الحضاري الإنساني العام.
من ينظر الواقع العربي على أساس من الواقع الذي تعيشه هذه الشعوب سيلمس بدون ريب أن العرب اليوم لا يجمعهم إلا ما يفرقهم، فكل ما فيه يوحي على أنهم ليسوا من نسق الأمم التي تهتم لمصالحها ووجودها ومستقبلها على أنها مسألة وجودية وعليهم العمل على الأقل في الحد الأدنى الحفاظ على هذا الوجود وتدعيمه، فهم في غياب شبه تام عت الفعل الحضاري والأنتاج الإيجابي الذي يعزز من فكرة العرب أمة واحدة، وبعيدا أيضا عن العواطف القومية الزائفة نجد أنهم في الواقع أكثر المجتمعات تفرقا وأبتعادا عن فهم ماذا تعني القومية وما تفرضه من شروط للإحساس بها، هذا ناتج من قضيتين أساسيتين لا بد من التصريح بها دون تردد أو مجاملة على حساب الحقيقة.
القضية الأولى كلما إنكشفت أوراق تأريخنا الذي يقال أنه تاريخ مشترك تتضح هول الجريمة التي أرتكبها التأريخ والمؤرخون حين زجوا بمفاهيم كلية على حالات فرضت بالقوة لتغير مجرى الحقيقة، والقضية الثانية أن الشعوب لا تقاس بمقدار شعاراتها البراقة بقدر ما تقاس بعطائها وثمرة وجودها في التأريخ، أمم قد تكون صغيرة ولا تتناسب مع تعداد العرب وما يمتلكون من مصادر قوة وموقع جغرافي في وسط العالم وعلى مفترقات الطرق الأستراتيجية التي تربط الشرق والغرب، لها وجود وحضور وفعل حضاري وفكري وعقلي لا يتناسب أبدا مع المقياس المادي الكمي مع العرب ولا مع أنتاجهم إن وجد، هذا يدل على أننا في توهم مستمر وتقدير غير علمي وعملي لوجودنا ولأهمية هذا الوجود وقدرته لم تم تسخيره وأحترامة بلطريقة التي تعاملت معها الأمم الأخرى، لوجدنا حالنا على غير ما في الواقع من حقيقة.
البعض يظن أن هذا الكلام شتيمة للعرب ولتأريخهم وماضيهم وحقيقتهم ولن يأخذوا الكلام من باب أن الحقيقة يجب أن تقال مهما كانت صعبة ومحرجة، فنحن أمة يعوزها الكثير من الوعي بذاتها إذا أتفقنا على أن ننخرط تحت مسمى أمة، أو إذا أردنا فعلا تجاوز المأزق التأريخي الذي فرض علينا بعوامل السيرورة ومقتضيات واقع حدث ولا مجال للعودة عنه أو ما فيه، العرب الأن منقسمون على كل شيء وفي أي شيء ولأجل أي شيء مهما كانت المخاطر وأيا كانت الأسباب والدوافع والمعطيات على الأرض، فهم أما عرب ضاربة بعضها أو مستعدة دوما لأن تتلقى الضربات بمناعة مستكينة تنتظر المزيد دون أن تحرك ساكنا أو تظهر ردة فعل عكسية، أو عرب غائبة عن وعيها وتمتهمن نبش القبور لتبحث عن سرخلود زائف، يمكنها البقاء لعالم الغد وحتى بأي صورة المهم أنها تبقى لتعيش دور الطفيلي الذي لا يهمه أن يكون شيء أو لا يكون.
قد يكون من حق الشعوب والمجتمعات أن تنتمي لهوية خاصة أو تعتز بعنوان يجمعها على هدف مشترك ولغاية تبرر لها هذا الأنتماء، لكن هذا لا يكون حقيقيا إلا عندما تعبر عن ذلك بسلوكها الحر وأختيارها الأصيل النابع من قناعات وحقائق على الأرض، وأيضا لا مانع أن تعمل كل ما يمكن لتجسيد هذا الهدف طالما أنها تعمل لأجل ذاتها ولأجل مستقبلها ووجودها، ولا مانع أيضا أن تختار حرة أن تسلك مسالك الأمم الأخرى لتثبت أحقيتها بهذه الهوية والأنتماء، إذا الأصل الذي يساهم في تحقيق كل ذلك كان دوما الحرية في أن تكون مختارة، العرب منذ أن عرفوا هذه الهوية بالقرون الوسطى وساروا تحت العنوان لم يتمكنوا يوما من التعبير عن حاجتهم للحرية إن عبر البعض جوبه بحرب لا هوادة فيها، مرة باسم الله ومرة لغاية في نفس القوى الحاكمة، أكثر ما نجح العرب فيه أنهم عاشوا حرية السلطان في إذلالهم كشعوب وكوجود دون أن يرفعوا الغطاء عنه لأنه مقدس أو مستمكن لقوة التخلف فيهم وبذلك نجح في تغييب الحرية عن الوعي الجمعي لديهم.
ما مر على العرب اليوم نجح في تقسيمهم إلى عرب هاربة من الحلول ومستعدة لمبادلة أي شيءلأجل أن لا تنكشف عورتها أمام الأمم الأخرى، ولا تدري أنها لا تستتر حتى بورقة توت صغيرة، وعرب ضاربة مخربة وخاربة لكل شيء لأنها تملك المال والبترول ولديها صكوك غفران من رب العالم الجديد، كلاهما اليوم هم عنوان العرب وصورتهم التي تخجل من نفسها، أما الشعوب التي نامت نومة أهل الكهف فهي مستعدة دوما أن تمنح المزيد من التأييد المطلق لهم حتى لا تفيق ويطلب منها الذهاب للعمل الحقيقي، قلة قليلة من العرب اليوم تصرخ وتعمل كل ما يمكن أن يكون واجبا عليهم ولكنهم أيضا مختلفون فيما بينهم على درجة الصراخ أو نوع النغمة المطلوبة للتنبيه، فمن أقصى يمين اليمين إلى أقصى تطرف اليسار نجد العرب مشتتون في قبائل وعشائر وأحزاب وأتجاهات لكن لا جامع بينها إلا أنها جميعا تتفق على أن الأتفاق محال، وأن الشعار المطلوب اليوم يا أمة العرب نامي فليس للأحلام الجميلة من وسيلة غير النوم الهادي وليسقط كل شيء ما دام هناك من يصنع لنا كل شيء ويفكر عنا بكل شيءويدبر أمرنا لأجل كل شيء، وعاش عاش وليسقط من يسقط فلا نملك من الأمر شيء ولا بد من أنتظار المخلص الذي سيأتي من أعملق الصحراء حاملا معه أكسير الحياة الخالدة التي وعدنا بها من قبل.