كيف يعتقدون ؟ – الإمتثال الإجتماعى


سامى لبيب
الحوار المتمدن - العدد: 5842 - 2018 / 4 / 11 - 17:33
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

- لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون (45) .
- تحليل الحالة النفسية والذهنية لأصحاب الفكر الإيمانى - جزء رابع .

لم يعد العلم الحديث يعتمد فى بحثه على قدرة الباحث على الرصد والتحليل لتؤول الأمور إلى التجربة العلمية المدروسة الملموسة التى تفسر سلوك الإنسان , كما لا تكتفى الأمور بهذا النحو بل يغوص علم النفس باحثاً في دهاليز الدماغ وأسراره وكيمياء الهرمونات التى تنتج السلوك والإنفعال , فالأمور مادية فى البداية والنهاية .
تعجبنى برامج ناشيونال جيوجرافيك وما يماثلها من برامج تعتنى بالبحث والفهم العلمى للحياة والوجود , ومن ضمن هذه البرامج سلسلة ألعاب العقل التى تقدم بصورة لذيذة ومبسطة معلومات ومفاهيم عميقة لآلية عمل الدماغ وكيف ينتج السلوك .
فى هذا المقال سأتناول مشهد من مشاهد عمل العقل وآلياته وتفاعلاته وردود فعله على الأحداث أى كيف نفكر وننتج السلوك لأسقط هذا على العقل الدينى فهذا ما أبحث عنه وأريد الخوض فيه , بأن العقل والفكر الدينى هو عقل إنفعالى عاطفى عفوى يعانى من مشاكل وإحتياجات نفسية عميقة .

الإمتثال .
https://www.youtube.com/watch?v=wI4ei2tLOr8
هذا الفيديو يفسر ظاهرة الإمتثال والإنقياد ولعلميته الشديدة فهو لا يعتنى بإسقاط بحثه على العقلية الدينية فهو يتناول ظاهرة الإمتثال فى العموم , ويمكنك من خلاله تفسير الحالة الدينية أو الإجتماعية أو السياسية أو أى معترك فى المجتمع , لتفهم وتفسر جنوح الإنسان نحو الإمتثال والخضوع .
يبدأ المشهد فى عيادة للعيون لتكون هى مكان التجربة , ويتم إعداد مجموعة من الممثلين ينتظرون فى العيادة ليكون دورهم ممارسة أداء معين بالوقوف عند سماع صوت صفارة فى القاعة وذلك عند حضور فتاة موضع التجرية .. تنطلق الصفارة فينهض كل الممثلين وقوفاً عند سماعها لترى هذه الفتاة ذاك المشهد الغريب وتنتابها الدهشة والإستغراب .. تتكرر الصفارة مرة ثانية فينهض الممثلون , ومازالت القتاة فى حيرة من هذا المشهد ولكنها في المرة الثالثة تقوم لتشارك الممثلين الوقوف عند سماع الصفارة ! .. يتكرر المشهد بالوقوف دوماً عند سماع صوت الصفارة .!

ينصرف الممثلون بالخروج من القاعة فرادى ومازالت الفتاة تمتثل بالوقوف عند سماع الصفارة إلى أن تصير بمفردها لتحافظ على نفس القاعدة وهى الوقوف عند سماع الصفارة .!!
تستقبل القاعة عدة مرضى ليس لهم علم بهذه القاعدة لتنطلق صفارة فتقوم الفتاة عند سماعها , فيستغرب الحضور هذا المشهد ولكن عند سماع صوت الصفارة فى المرة الثانية والثالثة يمتثلون بالوقوف .!
تفسر الفتاة سلوكها أنها أحست بأن هناك قواعد معينة فى هذا المكان فإمتثلت لسلوك الآخرين عند سماع الصفارة , ليتم هذا السلوك وفق فكرة الإمتثال للمجموع كون الإنسان كائن إجتماعى ينخرط فى المجموع .

مشهد آخر فى نفس الفيديو عندما يقوم مقدم البرنامج الرائع جايسون سيلفا بخداع الحضور فى الاستديو , ليذكر بعض الهراء عن أشياء مختلفة بلا ترابط ولا علاقة مع بعضها مما يثير إستغراب الحضور وإمتعاضهم , ولكن بعد إنتهاء كلامه الهزلى يقوم إثنين تم زرعهم بين الحضور بالتصفيق الحاد فيندفع كل الحضور فى وصلة من التصفيق الحاد بالرغم أنهم لم يفهموا أى شئ من كلام سيلفا .! لأضيف ملاحظة جانبية أن الشرقيين ليسوا الوحيدون الذين يصفقوا بحرارة عمال على بطال .!
فلنتعامل مع هاذين المشهدين فى هذا الفيديو بإسقاطهما على الفكر وسلوك المتدين فلن نجد أى صعوبة في الإسقاط , بل على العكس سنتلمس حضور قوى بدون دهشة وإستغراب بعد المشهد الأول , فبمجرد حضور الدينى لصلاة أو طقس معين فسيمتثل مباشرة للمجموع دون أن ينتابه الدهشة والسؤال لماذا يفعلون ذلك ؟ فقوى الإمتثال حاضرة بقوة كذا إنعدام قوى الممانعة والتوقف واالدهشة .

أتذكر فى طفولتى عندما كنت أحضر صلوات الكنيسة المملة لأظل جالساً على الكرسي محدقاً فى السقف ثم أجد بعض الحضور يقفون لأمتثل للمجموع وأقف فهكذا هو النظام , وأتصور أن هذا حال كل المؤمنين أثناء أدائهم صلواتهم وطقوسهم فهم يمتثلون للمجموع بالسجود والقيام والتبرك ألخ , ثم يصير هذا الإمتثال والخضوع نظاماً معتاداً وثقافة , فهكذا هو الإيمان .
كما أتذكر مشهد طريف عند حضورى مجاملة لعزاء أحد الأصدقاء المسلمين لأجد الشيخ يتلو القرآن بصوت جهورى غير واضح الألفاظ ليرجع هذا إلى ميكرفون سيئ أوعدم حفظ الشيخ تلاوة آيات القرآن جيداً أو وجود لحمية متضخمة لدى الشيخ , ليقوم ما يقال عنه مطيباتى يأتى حضوره خصيصاً وتكون وظيفته الإعلان عن إستحسان تلاوة الشيخ كقوله الله يفتح عليك ياشيخنا .. ثم ما يلبث الحضور بإعلان إستحساتهم لتلاوة الشيخ والقرآن بالرغم أن الصوت غير واضح , علاوة على صعوبة فهم آيات القرآن فى وسط مجموع جاهل يفتقر للفهم والتفسير .!

المشهد الثانى للمذيع جايسون سيلفا بترديده بعض الهراء فقد حظى على تصفيق حاد بعد أن زرع إثنان من الحضور أيضا لتحية كلامه المهترئ , ثم نجد كل الحضور فى الإستوديو يسارع بالتصفيق الحار بالرغم أنهم لم يفهموا كلامه وإمتعضوا منه , فهكذا الحال موجود فى عالمنا الشرقى بقوة فيكفى وجود نفر من الجماهير متحمسين لأقوال السياسى أو الداعية أو الكاهن لترى إحتفاء كبير بكلماته حتى لو كانت منزوغة من العقل والمنطق والترابط , وهكذا أيضا تجد الإحتفاء بنصوص غير منطقية ساذجة غير مترابطة فهناك الإمتثال للمجموع .
هناك مشهد يمكنك ملاحظته عندما تتوجه للسوق وتجد الكثير من الزبائن يلتفون حول بائع للطماطم بالرغم من وجود باعة كثيرون للطماطم , لتجد نفسك تلقائياً تنضم لهم ظة لتعزى هذا بأن المجموع غير مخطأ فى إختيار بائع الطماطم هذا , وهذا شكل من أشكال الإمتثال الإجتماعى .

https://www.youtube.com/watch?v=WJfdXePalNs
هذا فيديو آخر عبارة عن مجموعة من الممثلين يركبون أسانسير مًوَجهين بأن يتخذوا إتجاه واحد فى الوقوف معطين ظهورهم لباب الأسانسير وكأنهم فى وضعية صلاة , ليدخل فرد واحد موضع التجربة فيتخذ فى البداية وضعية وقوف حرة مخالفة لوضعية الجماعة , لنجده بعد دقائق يغير وقفته لتتطابق مع نفس إتجاه الجماعة .!
هذا المشهد يأتى بعفويته فى سياق الإمتثال الإجتماعى , لذا نحن لا نسأل لماذا الصلاة تجاه الشرق أو جهة البيت , فالله يُفترض وجوده فى كل مكان فهكذا كنت أسأل فى طفولتى , ويمكنك التوقف عند عشرات الأسئلة كالطواف مثلا , لتجد أنك لو كنت حاذقاً فستسأل ثم تمتثل لفكر وأداء المجموع , ولكن للأسف الغالبية العظمى لم تفكر بل إمتثلت وإنقادت دون تفكير وهذا ما يطلبه الإيمان .!

إن موضوع الإمتثال يبحث عن الذوبان فى المجموع والإنخراط فى المجتمع وعدم التوقف أمامه وعدم التصادم بغية أن يحظى المرء على الهوية الجمعية والسلام , لذا فالإمتثال له جوانب سلبية تتمثل فى التغافل عما هو غير منطقى وعاقل لينحاز الإنسان ويمتثل للهراء دون أن يكون له موقف ناقد وقوى .
هناك تعامل طفولى مع موضوع الإمتثال فليس معنى التوقف أمام هراء وتهافت المجموع أن هذا يعنى التصادم مع الجماعة والإنسلاخ عن الهوية الجمعية المشتركة , فهذا فكر طفولى غبى غير ناضج , فليس معنى الإختلاف مع الجماعة فكرياً هو الخصومة والتشرذم الإجتماعي لأعزى هذا إلى ثقافة الإسلام وتبريرها قتل المرتد مثلا فهو الخارج عن الجماعة كما فى أدبيات الإسلام .
تزداد الأمور تعقيداً عندما يتحول الإمتثال والتلقين إلى الزجر والتعنيف عند وجود أى إختلاف أو إنحراف ولو بسيط عن المطروح , فالفكر والسلوك الدينى يختلف عن التجربة التى نحن بصددها , فالذين إندهشوا ولم ينساقوا للإمتثال بالوقوف عند أول مرة لم يواجهوا التعنيف من الحضور , بينما الحالة الدينية فهى ستواجه الغير مُمتثل بالتعنيف لفظاً وقولاً وفعلاً .

الإمتثال ينتج مفاهيم الطاعة والخضوع والتسليم لإرادة وفكر ومفاهيم المجموع , فلا يرى البعض أن هذا سئ , ويرى آخرون أن الإمتثال فيه بعض الفضيلة وبعض القبح , لأرى أن فكرة وسلوك الإمتثال كله خطأ وخال من الصحة , فهو يعتنى بالخضوغ والتسليم لإرادة المجموع كما فى مشهد أخير بالفيديو عندما يسأل مقدم البرنامج عن أى ضلع فى لوحة تحتوى على ثلاثة أضلاع يساوى طولاً ضلع آخر فى لوحة أخرى , ليحضر عشرة أشخاص تسعة منهم ممثلون يتفقون على ضلع خطأ ليكون جواب الشخص العاشر موضع الإختبار نفس الإجابة الخاطئة , ليعلن أنه كان لديه الإجابة الصحيحة ولكن تغاضى عنها عندما وجد إنحياز التسعة , فلم يرد أن يشذ عن المجموع .!!

هذا من قبح الإمتثال والإنحياز للمجموع أن يتغاضى العقل عما يفكر فيه ويعقله ويمنطقه لينحاز إلى فكر المجموع , وهذا هو سبب شيوع العادات والتقاليد والخرافات فى المجتمع , فالعقل سينحاز لفكر ورؤى المجموع حتى لو كانت لديه توقفات خاصة فى ذهنه تجاهها ليشيع التخلف والقيم والمفاهيم المقلوبة فلا تجد من يتوقف عندها وينقدها ويثور عليها .
من قبح الإمتثال أيضا هو شيوع روح الطاعة والخضوع والإستسلام للمجموع , فنحن أمام حالة نفسية إنهزامية تستعذب الخضوع والإنقياد للمجموع وتبرر قبحها بالطاعة كفضيلة , بينما الطاعة المؤسسة على التسليم والإنبطاح بدون تفكير وجدال هي قمة القبح والعبودية حتى لو كانت تجاه الوالدين .

من قبح الإمتثال الإجتماعى هو خلق كيانات بشرية هشة خاوية تفتقد الثقة فى ذاتها , فتهمل تفكيرها لتنصاع للفكر الجمعى حتى لو كان خاطئ , فهى كيانات ضعيفة تتمرغ فيما هو شائع ومضمون مهملة العقل مقابل فكر ومنظومة المجموع , وهذا مآخذنا على الأديان والفكر الدينى فهى تسحق عقل الإنسان مقابل بقاء خرافاتها وسذاجتها فلا يهم العقل , بل ترتفع رايات النقل قبل العقل في كل الأديان وليس الإسلام فحسب ليكون الإمتثال لفكر ورؤي وتنظيرات القدماء .

تجد ظاهرة الإمتثال حضور فى منطق العقل الجمعى الذى لا يفكر , وإذا إنتابته الحيرة والشك فسرعان ما يلجأ لفكرة المجموع وحجة المشاهير , فهو لا يُفعل عقله وبحثه وأسئلته بحجة أن هناك ما يتجاوز المليار أو المليارين الذين يؤمنون بنفس إيمانه فليس من المعقول أنهم على خطأ وشكوكه على صواب , كما هناك بعض المشاهير من علماء وأدباء وفنانين يؤمنون بنفس إيمانه فليس من المعقول أن عقولهم خاطئة وعقلى أنا على صواب .

الفرق بين المؤمن والملحد هو أن الملحد وقف بقوة أمام الإمتثال أى حافظ على موقفه وحرية عقله وقناعاته بعدم الإذعان لأفراد المجموعة فهو لن يقف عند سماع صوت الصفارة طالما الأمور غير مقنعة , كما سيمتنع عن التصفيق لهراء مقدم البرنامج ليحافظ على مصداقيته مع نفسه بعدم الإذعان للهراء طالما هو غير مقنع .

نحن فى حاجة أن نتعامل مع أطفالنا بنزع روح الإمتثال لفكر وتوجهات الجماعة البشرية , وليبنوا مواقفهم على التفكير والجدل بدلاً من الإنسياق والتقليد والمحاكاة , أى لنجعل الإمتثال يتم عن قناعة وتفكير وجدال وليس عن إنسحاق وتبعية وتقليد هذا إذا كنا حريصين على وجود أطفال متحررة من الضعف والقولبة والتقليد , ولكن هل توافق النخب والساسة ورجال الدين على هذا النهج ؟!

دمتم بخير .
لو بطلنا نحلم نموت .. طب ليه ما نحلمش .