نقاش متعدد الجوانب مع أفكار كريم مروة حول اليسار


كاظم حبيب
الحوار المتمدن - العدد: 5836 - 2018 / 4 / 5 - 12:01
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


منذ أن تعرفت على كريم مروة في منتصف الستينيات من القرن الماضي في بيروت وأنا في طريقي إلى بغداد بصورة سرية, ومنذ أن بدأ حوارنا بشكوك مشروعة حينذاك حول مدى صواب ما طرحه الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي وتبنته الحركة الشيوعية العالمية عن إمكانية ولوج طريق التطور اللارأسمالي وتجاوز مرحلة الرأسمالية صوب الاشتراكية أو ما سمي بطريق التوجه الاشتراكي ونظريات الانتقال إلى الاشتراكي في البلدان النامية, ومنها البلدان العربية وحين تمادى البعض, (فالتر أولبريشت), وأطلق على مصر بأنها تسير في الاتجاه الاشتراكي, منذ ذلك التاريخ بدأت متابعتي لنشاط الحزب الشيوعي اللبناني ولكتابات ومواقف كريم مروة. كنا جميعاً من مدرسة واحدة هي المدرسة الماركسية–اللينينية. وكنا نشترك بذات الأحلام، والكثير منها كان أوهاماً يجمعها نوايا حسنة. كان ينقصنا إدراك لمخاطر تلك الأخطاء. ومع ذلك فقد كانت تلك الفترة مليئة بالحركة الدائبة وبالتضحيات الجسام والبطولات النادرة التي اجترحها الشيوعيون والتقدميون والديمقراطيون في البلدان العربية, رغم الحصيلة الضعيفة لذلك النضال التي اقترنت بانتكاسات سياسية واجتماعية كبيرة على صعيد الحركة الشيوعية العالمية والمنظومة الاشتراكية، طاولت عموم منطقة الشرق الأوسط, ومنها البلدان العربية.
ومنذ ما يقرب من عقدين, وقبل وقوع الزلزال الكبير الذي هزَّ العالم المتمثل بسقوط الاتحاد السوفييتي وبقية الدول الإشتراكية. وهو زلزال شببيه، في شروط تاريخية مختلفة، بالزلزال الذي هز العالم لدى قيام الدولة السوفييتية في أعقاب انتصار ثورة أوكتوبر في عام 1917, منذ ذلك التاريخ الجديد المشار إليه بدأ التفكير لدى مجموعة من مناضلي الحركة الشيوعية والحركة اليسارية في البلدان العربية بضرورة التمعن في ماضي الحركة الشيوعية وأحزابها السياسية وماضي حركة اليسار وحاضرها وآفاق المستقبل, ومتابعة جادة للتحولات الكبيرة الجارية في العالم والتغيرات الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط واستيعاب الواقع المتحرك والمتغير سلباً أو إيجاباً في البلدان العربية.
لا شك في أن حركة البريسترويكا في الإتحاد السوفييتي منذ العام 1984/1985 قد حركت المياه الراكدة في أوساط وأحزاب الحركة الشيوعية العالمية، ودلت على عمق الأزمة التي يعاني منها الفكر الماركسي-اللينيني وتعاني منهاحركة اليسار على الصعيد العالمي. وهي الأزمة التي دفعت برفاق في الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية إلى التفكير بعقلية نقدية لماضي ولحاضر الحركة الشيوعية والعمالية ولسياسات أحزابها ولممارساتهم الفعلية, ومنها الحزب الشيوعي اللبناني- وإلى التطلع في مشروع جديد نحو المستقبل. في هذه الفترة بالذات كنا في الحزب الشيوعي العراقي نتابع أوضاع الحزب اللبناني والصراعات الفكرية والسياسية التي كانت تجري داخله، والمواقف المتباينة إزاء الكثير من الأحداث، وبروز تيار تجديدي فيه يحمل رؤية جديدة ويطرح أفكاراً جديدة للمشكلات التي تعاني منها البلدان العربية. ولم تكن كل تلك الرؤى والأفكار موضع ارتياح أو تقبل من جانب العديد من الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية, ومنها الحزب الشيوعي العراقي. ولم يكن ذلك الجديد في الفكر وفي السياسة كله على صواب, إذ لم يكن قد بني على أسس وقواعد متينة وواضحة حينذاك.
كان كريم مروة أحد أبرز وأنشط من اجتهد لتكوين رؤية جديدة ونقد للكثير من مواقع الفكر القديم الذي كان راسخاً في أذهان غالبية الرفاق في الحركة الشيوعية في لبنان وفي سائر البلدان العربية. وكان يستند في عرض أفكاره تلك إلى معرفة نظرية جيدة وإلى استيعاب لمكونات المنهج المادي الجدلي وسبل استخدامه، وإلى قراءة مدققة للواقع المتحرك وتجربة غنية ومتراكمة عبر عقود من العمل الفكري والسياسي ومن العلاقات الواسعة مع قوى حركة اليسار على الصعيدين العربي والعالمي.
ومنذ ما يقرب من 15 سنة, وأنا أتابع كتابات الأستاذ كريم مروة ومواقفه الجديدة من الحزب الشيوعي اللبناني وفي الحركة الشيوعية في البلدان العربية ومن محاولاته في بث روح التجديد في الحركة اليسارية في بلداننا, كما كنت أتابع الرفض والمقاومة الشديدة التي كان يواجهها من قوى متنفذة في الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية من جهة, والرضا والقبول من جانب قوى يسارية تتطلع للجديد وللتجديد من جهة أخرى.
علينا باستمرار أن نتذكر بأننا كنا, كشيوعيين, نعمل في حركة شديدة التماسك والإنغلاق الإيديولوجي على الذات والإنضباط الحديدي الذي لم يفسح في المجال للفكر من الإنطلاق بحرية ومبادرة حيوية. كانت المدرسة قد التزمت بالنظرية الماركسية–اللينينية التي تحولت بمرور الزمن إلى أشبه ما يكون بـ"دين" وإلى قيد شديد على فكر وحركة وحرية الإنسان الشيوعي وقدرته على ممارسة الإستقلال الفكري. كما كانت التربية وحيدة الجانب ومتعالية على المدارس الفكرية الأخرى. بعكس ما كان يفترض أن تكون عليه. ولهذا كنا, نحن أعضاء هذه المدرسة الفكرية, شديدي القناعة بنظريتنا دون أن يكون لدينا أدنى شك وقلق حول تحليلاتنا واستنتاجاتنا، بعكس ما كان يتطلبه الموقف العلمي الرصين من الغوص في أعماق الأحداث وتحليلها بعناية واستخلاص المقولات. كنا نستهلك ما ينتجه السوفييت من مقولات واجتهادات, دون أن نمتلك الحق عملياً في المبادرة الفكرية وطرح ما نفكر به. ومن هنا نشأ الجمود في حركتنا. وبدأت مظاهر الأزمة الفكرية والسياسية في الحركة الشيوعية وفي حركة اليسار على الصعيد العالمي منذ زمن بعيد. ثم تراكمت وتشابكت وتفجرت تلك الأزمة في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وأحدثت ذلك الزلزال, الذي لا تزال مفاعيله تبرز بصيغ مختلفة.
لا شك في أن الحركة الشيوعية في البلدان العربية قد لعبت دوراً متميزاً وملموساً في النضال ضد الإمبريالية وضد السيطرة الأجنبية ومن أجل تعزيز الإستقلال والسيادة الوطنية وتنشيط عملية التنوير الديني والإجتماعي والدفاع عن مصالح الكادحين والمحرومين. وقدمت في نضالها الكثير من التضحيات الجسام قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها. لكنها كانت في الوقت نفسه قد ارتكبت الكثير من الأخطاء التي خلفت عواقب غير قليلة على الصعيدين الفكري والسياسي وعلى صعيد الممارسة العملية. ويبدو لي إن واحدة من أبرز تلك الأخطاء الفكرية والسياسية للمدرسة الماركسية–اللينينية, التي كنا جزءاً منها, هي القناعة الإيمانية غير المبررة بأننا كنا دوماً على حق وأن الحقيقة كانت إلى جانبنا وأن الصواب كان يقترن بتحليلاتنا وتقديراتنا للواقع وللمهمات التي كانت تواجه شعوبنا. واستندنا في تلك القناعة إلى إننا كنا نستخدم المنهج المادي الجدلي بشكل صحيح, ولم يكن الأمر هكذا دائماً. بل كنا في تلك القناعة على خطأ كبير. لقد كانت رغباتنا وطموحاتنا تسبق تحليلاتنا. وكانت هي الموجهة الفعلية لتلك التحليلات وليس الواقع القائم باعتباره أساس وقاعدة التحليل الفعلية. أورد مثالاً واحداً على ذلك. لقد توصلت الحركة الشيوعية في وقت مبكر إلى القناعة بأن الرأسمالية كانت تقترب من نهايتها, إنها كانت في المرحلة الثالثة من أزمتها العامة, وأنها كانت على قاب قوسين أو أدنى من مرحلة لفظ أنفاسها ممهدة بذلك لمرحلة جديدة في حياة البشرية, مرحلة الإشتراكية الخالية من الإستغلال والحرمان والعبودية لرأس المال. وقد بلغ الأمر بسكرتير عام الحزب الشيوعي السوفييتي, نيكيتا خروشوف, أن طرح مقولة وهمية خادعة مفادها "أن أفق بناء الشيوعية في الإتحاد السوفييتي لم يعد بعيداً، بل هو أصبح قريباً جداً!, في وقت كانت الأزمة السياسية والإقتصادية والإجتماعية قد بدأت منذ سنوات العقد السابع من القرن العشرين تشدد من خناقها على رقاب شعوب الإتحاد السوفييتي وتلقي بظلالها على الحياة اليومية للإنسان السوفييتي. لقد تم إنكار واقع وجود تناقضات وصراعات اجتماعية وسياسية في المجتمع السوفييتي, باعتبار أن الإشتراكية لا تعرف التناقضات, وبالتالي لم يتحركوا باتجاه حلها, مما زاد من فعلها وعمق من تلك التناقضات وشدد من الصراعات وكاد يحولها إلى نزاعات. وسرنا مع الإتحاد السوفييتي في ذلك التصور الحالم. وكنا واهمين وارتكبنا بذلك, كحركة وكأحزاب وكأفراد, سلسلة من الأخطاء الفادحة كان يفترض فيها, ومنذ فترة غير قصيرة, أن تدفعنا إلى إعادة النظر بحركة اليسار عموماً, وبالأحزاب الشيوعية منها بشكل خاص، من أجل استخلاص الدروس والعبر من الماضي واستيعاب حركة الحاضر واستشراف المستقبل. ولا بد لنا أن نعترف هنا مرة أخرى بأننا كنا مستهلكين للتنظير السوفييتي الذي كان في الغالب الأعم إرادي النزعة وسطحي التحليل في التعامل مع المادية التاريخية. ولم نكن مبادرين وفعالين في التحليل المطلوب لأوضاعنا المحلية وللأوضاع على الصعيدين الإقليمي والدولي, مما أوقعنا في أخطاء ومطبَّات كثيرة وكبيرة.
والآن وللأسف الشديد نلاحظ حراكاً ضعيفاً في صفوف الشيوعيين باتجاه إعادة النظر الجادة بالماضي وبسياسات الأحزاب الشيوعية, مما ساهم بتقسيم حركة اليسار إلى جزء قديم وآخر يطمح للتجديد. وإذ يتمثل القديم بتلك الأحزاب التي تعيش بين مدينتي "نعم ولا" وفق تعبير جميل للشاعر الروسي يفجيني افتوشنكو, أي بين الخشية من التغيير والتعثر في ما جرى تحديده, وهو قليل, وبين عدم القدرة على متابعة التغيرات الكبيرة الجارية في عالمنا الراهن, والعجز بالتالي عن فهم ضرورات إجراء التغيير والتجديد الفكري والسياسي والتنظيمي والتجديد في العلاقة مع فئات وقوى المجتمع داخل حركة اليسار في البلدان العربية. أما الجديد في اليسار فلا يزال في بداياته. فهناك تيار التجديد الذي يتمثل بإفراد وجماعات صغيرة أخذت على عاتقها طرح رؤيتها الجديدة حول الأفكار والإحداث والسياسات السابقة, قدمت تحليلاتها للواقع الجاري ومهمات المرحلة الراهنة والسعي لاستشراف المستقبل. ولا شك في أن كل ما هو جديد لا يصطدم بالقديم فحسب, بل ويُحارب بقوة من جانب حاملي المشروع القديم. إذ يتهم أصحاب المشروع الجديد باليمينية وبالمساومة مع الإمبريالية والبرجوازية وما إلى ذلك. ومثل هذا التوجه يلحق الضرر البالغ عملية التجديد المنشودة في حركة اليسار ويعطلها, ولكن الجديد سيفرض في المحصلة النهائية نفسه عاجلاً أم آجلاً.
نحن اليوم أمام محاولات واجتهادات جادة لتجديد فكر ومشروع اليسار في البلدان العربية. ونجد لذلك نواتات في الكثير من البلدان العربية, ومنها لبنان والعراق على سبيل المثال لا الحصر. ويحتل كريم مروة مكانة مرموقة ومتميزة بين دعاة التجديد في فكر ومشروع اليسار الديمقراطي في لبنان والبلدان العربية. ويتجلى ذلك في النشاط الدءوب, وهو ابن الثمانين عاماً, في مجموعة الكتب والمقالات واللقاءات الغنية التي نشرت التي يتحرى فيها الكاتب بجهد مثابر ومسؤولية عالية عن سبل تجديد حركة ومشروع اليسار. ومن بين ابرز ما كتبه إلى الآن يتصدر كتابه الأخير "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي". وهو كتاب يستحق القراءة والمناقشة بجدارة.(دار الساقي, بيروت, 2010)
إن الإنطلاق بحركة اليسار نحو آفاق جديدة وتجديد فعلي لفكرها ومشروعها السياسي يتطلب الإلتزام بالقواعد التالية:1- ضرورة الإستخدام السليم والعلمي للمنهج المادي الجدلي في البحث والتحليل والتدقيق في الظروف الملموسة لواقع هذا البلد أو ذاك؛ 2- الإنطلاق من واقع الحياة اليومية للناس ومن المتغيرات الجارية على الإقتصاد والمجتمع وعلى فكر ووعي الفرد والمجتمع أولاً, وكذلك التغيرات الحاصلة على الصعيدين الإقليمي والدولي ثانياً, من أجل تحديد المهمات والأهداف المرحلية والإبتعاد عن محاولة القفز فوق المراحل أو حرقها؛ 3- تأمين الربط العضوي بين عملية التغيير في البنية الإقتصادية والإجتماعية في هذا البلد أو ذاك, وبين تطور وعي الفرد والمجتمع وسعيهما المشترك لصالح حرية الإنسان وحقوقه المشروعة وسعادته والعدالة الإجتماعية, واستخلاص مدى الإستعداد الفعلي للمشاركة في عملية التغيير. 4- تشخيص دقيق وسليم للقوى الإجتماعية التي يهمها إنجاز مهمات المرحلة التي يفترض أن تتبلور في مجالين أساسيين: أ- مجال تحديد المهمات في إطار برنامج تستوجبه طبيعة المرحلة؛ ب- أن تكون المهمات المطلوب تحقيقها متطابقة مع القوى الإجتماعية والسياسية المعنية بالنضال لتحقيق المشروع الوطني والديمقراطي.
في هذا الإتجاه يحدد كريم مروة بعض المرتكزات العامة التي يفترض أن تسود في العلاقات السياسية, بعد أن غابت عنها طويلاً، مثل الأخلاق والصدق والشفافية واحترام الرأي والرأي الآخر ورفض العنف وسياسة القوة، والتحول صوب التنافس الديمقراطي في تحقيق المهمات، والتداول الديمقراطي السلمي والبرلماني للسلطة، وفصل الدين عن الدولة، وحرية وحقوق الإنسان وحرية المرأة...الخ, ثم يخلص إلى تأكيد مرتكزين أساسيين. في المرتكز الأول يؤكد مروة أن المفاهيم العامة في الفكر السياسي والإجتماعي, وفي الفكر عموماً, هي مفاهيم متغيرة, أي غير ثابتة عنده (ص 74). في حين يتلخص المرتكز الثاني في كون ".. بلداننا هي جزء من عالم يتغير وتجري فيه تحولات كبيرة, وأن علينا أن نكون جزءاً من هذه التحولات, في الإتجاه الصحيح فيها, ضد الإتجاهات النقيضة لمصالح بلداننا ولمصالح البشرية عموماً." (ص 74/75). وهما مرتكزان يفترض ألا يغيبا عن ذهن من يعكف على دراسة الأوضاع السائدة في بلداننا وفي العالم المعاصر.
إن الإستناد إلى المنهج المادي الجدلي في دراسة أحداث السنوات المنصرمة تجعلنا وجهاً لوجه أمام جملة من المسائل المهمة التي يمكن تلخيص أبرزها فيما يلي: 1. القفزة الهائلة في مستوى تطور القوى المنتجة المادية والبشرية على الصعيد العالمي. وهي نتاج الثورة العلمية-التقنية, ثورة الإنفوميديا, التي ساهمت في نقل الرأسمالية إلى مرحلة جديدة في تطورها, هي مرحلة العولمة في جميع مجالات الحياة باعتبارها عملية موضوعية لا مرَّد لها, حولت العالم إلى قرية كونية متلاصقة في دورها ودروبها. وقد أسهمت هذه الثورة في توفير إمكانية أفضل للرأسمالية على الصعيد العالمي في معالجة مشكلاتها وأزماتها الإقتصادية بمستويات جديدة ترمي بثقل عواقبها على الفئات الأكثر ضعفاً عند شعوب الدول الرأسمالية المتقدمة وعند شعوب البلدان النامية على نحو خاص. وهو ما تشير إليه وتؤكده الأزمة المالية والإقتصادية الجديدة الجارية، التي تفجرت في نهاية العام 2009، وتفاقمت في بداية 2010 ولم تصل إلى نهايتها حتى الآن. لكنها توفر، في الوقت نفسه، توفر إمكانية جديدة لدفع عملية التطور في البلدان النامية إن أحسن تجاوز السلبيات التي تنشا عن السياسات العولمية التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة إزاء البلدان النامية. 2- إن الإنهيار الكبير للاتحاد السوفييتي وبقية بلدان مجلس التعاضد الإقتصادي قد نشأ بفعل عوامل داخلية وتراكمات كثيرة ارتبطت بالواقع الذي انطلقت منه تلك البلدان ومن التراكم الذي كان يتم على ذلك الأساس الهش من البناء, إذ لم تتوفر لروسيا القيصرية في حينها القاعدة المادية ولا الوعي الفردي والإجتماعي الكافيين والضروريين للتوجه صوب بناء الإشتراكية. وهو ما حصل بالفعل في البلدان الأخرى التي لحقت بالاتحاد السوفييتي في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتبنت نموذجه للإشتراكية. وعليه فأن العوامل الخارجية لم تلعب سوى الدور المساعد لتعجيل الإنهيار. 3 - الإنتكاسات المتلاحقة لحركة التحرر الوطني العربية التي اقترنت بعدد كبير من العوامل, بما في ذلك مشروع الأحزاب الشيوعية وحركة اليسار عموماً, إضافة إلى الحركات القومية والدينية المتشددة, التي يعود بعض أسبابها لطبيعة المهمات التي رفعتها تلك الحركات التي لم تكن متناغمة مع طبيعة المرحلة ومع مهماتها ولا مع أساليب وأدوات النضال. 4- تبلور قراءة جديدة أكثر واقعية وفهماً وأكثر تدقيقاً في مسألتين مهمتين, هما: سبل التعامل مع الفكر الماركسي ومنهجه المادي الجدلي من جهة, والإستناد إلى الواقع الذي تعيش فيه شعوب البلدان النامية, ومنها البلدان العربية, عند استخدام هذا المنهج المادي الجدلي لإعادة النظر في الماضي وفهم الحاضر واستشراف المستقبل من جهة أخرى.
نحن إذن أمام قوى لا تزال تحمل القديم وتتشبث به وترفض التنازل عنه ولا تريد أن ترى الجديد أو هي عاجزة عن رؤيته لأي سبب كان, وأخرى قرأت الجديد واستوعبت ضرورة وعي القوانين الموضوعية المحركة لعمليات التحول الإقتصادي والإجتماعي في هذا البلد أو ذاك، التي على ضوئها يمكن رسم المهمات التي يفترض النضال من أجلها في المرحلة الجارية.
في هذا الإطار يضعنا كريم مروة أمام مجموعة من القضايا الجوهرية التي ربما ليس عليها خلاف كبير في الظاهر, ولكن الإختلاف حولها يبدأ في الممارسة العملية.
إن الدراسة التي يقدمها لنا كريم مروة غنية ومتعددة الجوانب سأحاول أن التقط منها بعض النقاط المهمة لإبداء الرأي بشأنها: 1- طبيعة المرحلة والموقف من بناء الدولة الديمقراطية الحديثة. ذلك السؤال الذي يواجهنا في المرحلة الراهنة هو تحديد المهمة المركزية في النضال الذي تخوضه شعوب الشرق الأوسط بشكل عام وشعوب البلدان العربية على نحو خاص؟ هنا أجد نفسي متفقاً مع الكاتب حين يؤكد أن المهمة التي تواجه شعوبنا ليست تحقيق الإشتراكية, بل هي مهمات وطنية وديمقراطية, تقع في إطار مرحلة انتقالية تتطلب إقامة العلاقات الإنتاجية الرأسمالية في اقتصاديات ومجتمعات البلدان العربية, رغم الإختلاف في مستويات تطورها. إننا إذن أمام مهمات التخلص من بقايا العلاقات ما قبل الرأسمالية وبناء الرأسمالية التي يفترض أن تكون غير منفلتة لكي تشكل القاعدة المادية لتطور جديد مناسب للقوى المنتجة المادية والبشرية, إضافة إلى ربط ذلك بمستوى تطور وعي الإنسان الفردي والجمعي المجتمعي.
فشعوب البلدان العربية لا تزال تعيش في ظل علاقات إنتاجية واجتماعية متنوعة تتراوح بين البداوة والفلاحة, علاقات أبوية وعلاقات إنتاج شبه إقطاعية متخلفة وعلاقات عشائرية, وبين مجتمعات نمت لتوها علاقات إنتاج رأسمالية حديثة التكوين وفي مجالا ت التجارة والعقار, وأخرى نمت فيها علاقات الإنتاج الرأسمالية نسبياً, كما في كل من مصر وسوريا والمغرب والعراق, وأخرى قائمة على الإقتصاد الريعي النفطي. وفي جميع هذه البلدان يلاحظ وجود نظم سياسية غير ديمقراطية واستبدادية وغياب الحياة الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الإجتماعية واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. كما تلعب المؤسسات الدينية دورها البارز في التأثير على فكر الإنسان وعلى الكثير من سلوكياته وتصرفاته إزاء نفسه وإزاء الآخر.
نستخلص مما تقدم استنتاجاً جوهرياً يؤكد بان مهمة شعوب هذه البلدان, مهمة أحزابها اليسارية على وجه الخصوص، لا تكمن في رفع شعارات اشتراكية تتجاوز حدود المرحلة الديمقراطية, بل يفترض لهذه الشعارات أن تتطابق مع طبيعة المرحلة ومهماتها الأساسية, التي بلورها كريم مروة في المشروع الذي طرحه كبرنامج مرحلي لليسار العربي, رغم التباين الذي يمكن أن يحصل حين يجري الحديث عن كل بلد بشكل ملموس.

إن هذا الإقرار يقود إلى الرؤية التالية:
1- إن المرحلة الراهنة ليست مرحلة انتقالية من الرأسمالية إلى الإشتراكية أو تجاوز المرحلة الرأسمالية, بل هي بالتحديد مرحلة انتقال من علاقات ما قبل الرأسمالية، وهي علاقات متشابكة, علاقات رأسمالية حديثة التكوين وضعيفة، الإنتقال إلى علاقات إنتاجية رأسمالية متقدمة. 2- هذه الرؤية الواقعية لا تعني بأي حال إيقاف النضال من أجل مواجهة محاولات تشديد استغلال العمال والفلاحين والكسبة والحرفيين والمثقفين في هذه البلدان, بل يفترض أن يتواصل النضال من أجل الحد من هذا الإستغلال بقوانين اقتصادية واجتماعية ملزمة.
إن هذا الواقع يطرح علينا سؤالاً مشروعاً: إذا كانت المهمة الراهنة ليست اشتراكية ولا شيوعية, وإذا كانت ذات طابع وطني وديمقراطي, تقود إلى إرساء قواعد ومبادئ الحرية الفردية وحرية المجتمع وسيادة الديمقراطية ودولة القانون والحق والمؤسسات الدستورية.. الخ, فأن هذا يفترض أن يتجلى في ثلاث مسائل جوهرية بعيداً عن الهروب إلى أمام:أ- إن على البرامج الجديدة التي يفترض أن تطرحها قوى اليسار للنضال مع قوى الشعب من أجل تحقيقها مرحلياً التي يفترض أن تتناغم مع فهم الواقع واستيعاب مهمات وأساليب وأدوات تغييره. ب- إن اسم هذا الحزب اليساري أو ذاك ينبغي أن ينسجم مع طبيعة المهمات المرحلية. جـ- إن تحديد الأدوات والأساليب السلمية والديمقراطية التي تختارها قوى اليسار للنضال من أجل تحقيق تلك الأهداف, ينبغي أن تكون بعيدة عن العنف والقوة والسلاح وعن الإنقلابات.
إن هذا التوجه يحصن قوى اليسار من الهروب إلى أمام, كما حصل في بداية ثورة أكتوبر 1917. ففي الوقت الذي استنتج فيه لينين في كتاب "الدولة والثورة" في العام 1916 بأن روسيا غير جاهزة للبناء الإشتراكي بأي حال, فإنه سرعان ما قرر بعد الثورة مباشرة السير بالبلاد تحو بناء الإشتراكية! ثم عاد عن ذلك في العام 1921 في "برنامج السياسة الإقتصادية الجديدة (النيب) انطلاقاً من قناعته بعدم واقعية ذلك البرنامج. وكان ستالين منذ العام 1922 تقريباً قد هيمن على قيادة وسياسة الحزب والدولة ودفع بهما صوب تنفيذ النهج المتطرف الأول في بناء الدولة السوفييتية الجديدة بعد أن فرض العزلة الفعلية على لينين المريض حتى مماته. وقد انتهت هذه الدولة في العام 1989/1990 إلى النهاية المأساوية المعروفة لنا جميعاً. وعلينا أن نتذكر البرامج الطموحة التي طرحتها الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية خلال العقود المنصرمة التي عجزت عن تحقيق الكثير والأساسي منها, وساهمت عملياً, في خلق أجواء الإحباط السائدة في الوقت الراهن، بسبب انهيار التجربة الإشتراكية. وكانت الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية تنطلق في وضع برامجها السياسية والإقتصادية والإجتماعية من المقولة التي سادت حينذاك بأن العالم يعيش مرحلة الإنتقال من الرأسمالية إلى الإشتراكية, وكان الصراع بين الإشتراكية والرأسمالية هو المؤثر المباشر على تفكيرنا وتحليلنا, في حين أن الرأسمالية كانت ولا تزال تمتلك مقومات البقاء متجاوزة أزماتها الدولية. إذ هي كانت ولا تزال ضرورة موضوعية لاقتصاديات مجتمعاتنا. ولهذا يمكن القول بوضوح إن برامجنا في العديد من القضايا الجوهرية والأساسية لم تكن متطابقة مع واقع بلداننا حينذاك ومع الواقع القائم في العالم.
ومن هنا جاء مشروع البرنامج الذي طرحه كريم مروة في كتابه " نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" مطابقاً بخطوطه العامة والأساسية, كما أرى, لمهمات المرحلة والواقع الراهن في البلدان العربية, مع ضرورة جعل فقراته أكثر ملموسية بالارتباط مع واقع كل بلد. لقد هربنا إلى أمام في برامجنا السابقة ولا بد من العودة إلى أرض الواقع بعيداً عن الأوهام, ولا بد أن تكون لقوى اليسار أن تبني أحلامها التي تعطي لنضال الإنسان حيويته والمجتمع وتشبع طموحاته المشروعة, أحلام العيش في أجواء الحرية والديمقراطية والمواطنة المتساوية والعدالة الإجتماعية والسلام.
ماذا يقدم لنا كريم مروة في مشروع برنامجه الجديد؟
ابتداءً يمارس كريم مروة, وقبل تقديمه مشروعه, نقداً موضوعياً وواعياً لتجربة الحركة الشيوعية في العالم العربي خلال العقود المنصرمة، التي جاءت في أعقاب الحرب العالمية الثانية, وبشكل أكثر ملموسية منذ العقد السابع من القرن الماضي. إذ بدون مثل هذه الرؤية النقدية للتجربة المنصرمة بما لها وما عليها لا يمكن التقدم خطوات ثابتة وقوية نحو الأمام لتحقيق نهضة جديدة في حركة اليسار. فمن يعجز عن القيام بدراسة نقدية لماضي الحركة وحاضرها بجرأة ومسؤولية واستخلاص دروسها, يصعب عليه تحقيق التجديد ووعي مهمات الحاضر والدفع السليم باتجاه مستقبل أفضل. ومن الجدير بالإشارة إلى أن كريم مروة لا ينسى بأنه كان من المشاركين الفعالين في وضع تلك البرامج القديمة ومن مواقع القيادة أيضاً, وبالتالي فهو ينتقد نفسه من موقع المسؤولية في قيادة الحزب الشيوعي اللبناني حينذاك. ويؤشر ذلك إلى مصداقية النقد الذي يمارسه.
بعد ذلك يقدم لنا كريم مروة مشروع برنامج نضالي ديمقراطي متوازن يتضمن عشرين بنداً يعالج فيها قضايا النضال في ظروف المرحلة الراهنة التي تستهدف بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة التي يتمتع فيها الفرد بحقوق الإنسان والمواطنة الحرة والمتساوية, سواء أكان رجلاً أم امرأة, دولة حق وقانون ديمقراطي, دولة مؤسسات ديمقراطية, دولة ينمو في إطارها المجتمع المدني الديمقراطي الحديث، وليس المجتمع الأهلي القديم. دولة مدنية تفصل بشكل واضح بين الدين والدولة وتحترم جميع الأديان والمذاهب. ويطرح مروة في هذا الجزء من الكتاب بقية بنود البرنامج الذي يقترحه بجوانبه الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والبيئية, من دون أن يغفل الموارد الطبيعية وسبل استثمارها. كما يعطي مكاناً خاصاً للضمانات الإجتماعية، ويدعو إلى احترام حقوق الأقليات القومية في البلدان العربية، ويشدد على ضرورة النضال لتحرير بلداننا من أنظمة الإستبداد ومن المظالم التي تفرضها على شعوب البلدان التي تسود فيها هذه الأنظمة.
ولم ينس مروة القضية الفلسطينية, إذ أفرد لها فقرة خاصة باعتبارها واحدة من ابرز القضايا التي تشكل مصدر القلق والتوتر والحروب في منطقة الشرق الأوسط. ومن حقه أن يحمل أربعة أطراف مسؤولية الوضع في فلسطين, وهي إسرائيل وسياسات الإحتلال والقمع والغطرسة التي تمارسها بإصرار وعناد, وعجز الدول الكبرى والمجتمع الدولي عن المساهمة في حل هذه المعضلة, وكذلك الحالة المزرية السائدة في معسكر القوى الفلسطينية والبلدان العربية. كما يفترض أن يضاف إلى ذلك عامل التدخل الفظ في شؤون الشعب الفلسطيني من جانب دول المنطقة وبشكل خاص إيران وسوريا التي ساهمت في نشوء الواقع الراهن عموماً والمشكلة الناشئة عن انقلاب حماس في غزة ورفضها حل الخلاف مع الحكومة الشرعية في الضفة الغربية.
ويتطرق مروة إلى موضوع التكامل الإقتصادي بين البلدان العربية والتنسيق السياسي لصالح الدفاع عن القضايا العربية الملحة والعادلة, ثم يطرح بصورة دقيقة أهمية العلاقة بين الدول العربية والعالم, إنطلاقاً من أن بلداننا هجزء من هذا العالم ولنا فيه مصالح ولنا قضايا يستوجب حلها وجود مثل تلك العلاقات مع جميع دول العالم لمساعدتنا في حل الإشكاليات الإقليمية التي لم تحل إلى الآن, ومنها القضية الفلسطينية ومشكلة الإرهاب..الخ. وأخيراً يضع كريم مروة أمامنا بوضوح الموقف الذي يفترض أن تتخذه قوى وحركة التغيير الديمقراطي في العالم العربي من قوى وحركة التغيير على الصعيد العالمي, داعياً إلى تحقيق التعاون والتنسيق في النضال من اجل الوصول إلى قواسم مشتركة فيما بينها لتعمل من اجل تحقيقه تغيير فعلي في سياسات الدول الكبرى في الكثير من القضايا الملحة السياسية منها والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والبيئية والعسكرية, ورفض التهديد باستخدام القوة أو الحروب الإستباقية من جانب الدول الكبرى وحل المعضلات بالطرق السلمية الديمقراطية, ورفض الإرهاب الدولي المتصاعد الصادر عن قوى الإسلام السياسية المتطرفة وإدانته ومعالجة العوامل التي تتسبب في بروز ظاهرتي التطرف والإرهاب على الصعد الإقليمية والدولية.
في الختام أود أن أشير إلى ثلاث نقاط مهمة: 1- حول العولمة
علينا أن نميز بوضوح, بخلاف ما يطرح من جانب بعض قوى اليسار, بين العولمة كعملية موضوعية باعتبارها مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية لا مرد لها, وهي مرتبطة عضوياً بالتطور الهائل الحاصل في القوى المنتجة المادية والبشرية على الصعيد العالمي, وهي ذات طبيعة رأسمالية وتسري عليها قوانين المرحلة الرأسمالية في تطور المجتمع البشري, وبين السياسات العولمية التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الرأسمالية المتقدمة وخاصة السبع الكبار + واحد التي تعبر عن محاولة جادة للهيمنة على الاقتصاد العالمي والتحكم بتطور البلدان النامية واستغلال شعوبها. وإذ تشكل بلداننا جزءاً من العالم المعولم موضوعياً حيث يفترض في هذه البلدان الإستفادة القصوى من الجوانب الإيجابية في هذه العولمة لصالح تطورها المستقل, فأن على شعوب هذه البلدان العمل الجاد للتخلص من الجوانب السلبية الناشئة عن سياسات الدول الرأسمالية المتقدمة التي تسعى باستمرار إلى التضييق على وجهة تطور هذه البلدان ورمي ثقل أزماتها على عاتق الفئات الكادحة من شعوبها وشعوب البلدان النامية. 2 - حول الأحزاب الشيوعية, لقد تشكلت الأممية الثالثة في العام 1919 جاء في أعقاب ثورة أكتوبر 1917 ونشوء الإتحاد السوفييتي ومحاصرته من جانب الدول الرأسمالية المتقدمة حينذاك والحرب التي شنت ضده من قبل 22 دولة رأسمالية وحاجته إلى دعم دولي من جانب حركة شيوعية جديدة في مواجهة أحزاب الحركة الإشتراكية للأممية الثانية. وإذ انتقلت بعض الأحزاب الإشتراكية أو أجنحة فيها إلى الأممية الثالثة, فقد تأسست في سنوات لاحقة مجموعة من الأحزاب الشيوعية في العالم العربي بقرار من الأممية الشيوعية. وعبر تشكيل الكومنترن الذي لعب دوراً كبيراً في هذا المجال وربط الحركة الشيوعية بمركز توجيهي واحد هو الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفييتي, أصبحت الحركة الشيوعية عموماً مستهلكة للفكر السويفييتي بدلاً من أن تقوم تلك الحركة بصفاته المختلفة بانتاج أفكارها انطلاقاً من واقعها الخاص. لقد تمت روسنة الفكر الماركسي في فترة مبكرة من تأسيس الحركة وجرى تعميمها وترويجها وبشكل خاص في فترة هيمنة ستالين على مركز الحركة الشيوعية العالميةً تحت مصطلح الماركسية-اللينينية. إن تأسيس الأحزاب الشيوعية في العالم العربي جاء استجابة لحاجة تضامن دولية بين أنباع الماركسية-اللينينية من جهة, ووجد استجابة محلية حينذاك بسبب السيطرة الإستعمارية والتخلف الشديد والبؤس الواسع النطاق في البلدان العربية والدور السلبي للمؤسسة الدينية في التنوير الديني والإجتماعي من جهة ثانية. إن إدراك هذه المسألة والسعي للتخلص من احتمال إقامة أي مركز قادم للحركة اليسارية هو السبيل لتطور الحركة وتقدمها فكراً وممارسة. إن هذه الوجهة تحقق استقلالية الحركة في كل بلد من البلدان, وهي ضرورية لوضع سياسة تتطابق مع , أو تقترب جداً من, الواقع وهي لا تتعارض مع الحاجة الفعلية إلى التضامن والتشاور والتعاون والتفاعل في ما بين الأحزاب والقوى اليسارية على الصعد المحلية والإقليمية والدولية. 3. القضية الثالثة التي تهمنا نحن الذين نعاني من تراجعات حادة وانكسارات شديدة في حركة التحرر الوطني وبناء الدول الوطنية الديمقراطية الحديثة التي يثيرها بوعي ومسؤولية عالية كريم مروة, هي العلاقة الجدلية بين النضال من أجل الحرية والحياة السعيدة في الماضي منذ عهد سبارتاكوس مروراً بثورة الزنج في العراق وانتهاء بالواقع الراهن, وبين الفشل الذي أصيبت به تلك الحركات الذي تعود بعض أسبابه إلى عدم توافر الشروط الموضوعية للنجاح، إضافة إلى عدم امتلاك الوعي الضروري لدى تلك الحركات بالواقع الذي لم تدركه تلك الحركات جيداً ولم تستوعب حركة التاريخ وسبل التعامل الواعي مع القوانين الموضوعية. إن العالم يتحرك بمجمله نحو الأمام والإرتدادات الحادة التي تصيب أجزاء من هذا العالم لا تؤثر كثيراً إلا بمقدار ما تساهم في تعديل المسيرة العامة. ومن هنا فأن انهيار الإتحاد السوفييتي والمنظومة الإشتراكي يجسد مجموعة من الحقائق التي تؤكد بأن البدايات لم تكن صائبة والواقع لم يكن مدركاً بشكل جيد وأن ما كان قد جرى قد تناقض مع ما كان يفترض أن يكون, وبالتالي اصطدم الفكر الإنتقائي بواقع الحال. كل ذلك يستوجب من قوى اليسار الجديد إعادة النظر في دراسة التجربة والعوامل التي تسببت في انهيارها وسبل الخلاص منها من خلال دراسة واقع العالم والمتغيرات فيه في ضوء المنهج العلمي المادي الجدلي.
إن انهيار النظام السياسي في الإتحاد السوفييتي وفي غيره من الدول لا يعني ثلاث مسائل جوهرية: لا يعني انتصار الرأسمالية على الإشتراكية أولاً؛ ولا يعني فشل الفكر الإشتراكي أو فكر العدالة الإجتماعية والحرية والديمقراطية للإنسان الفرد والمجتمع ثانياًَ؛
++ كما لا يعني أن على قوى اليسار في العالم, ومنها قوى اليسار في البلدان العربية, أن تتوقف عن الحلم بعالم جديد خال من الإستغلال والبؤس والفاقة شريطة أن تعي مراحل تطور المجتمعات التي تعيش فيها وتنأى بنفسها عن الأوهام وتشخص المهمات والأهداف بصورة دقيقة وتستفيد من دروس التجارب السابقة منذ كومونة باريس في العام 1871 إلى الوقت الحاضر ثم تواصل النضال من أجل الأهداف الإنسانية النبيلة وفق تلك المراحل وليس بالقفز فوقها.
لقد كان الفضل الكبير لماركس وإنجلز أنهما وضعا أو استكملا وضع منهج علمي للبحث والتدقيق واستخلاص الإستنتاجات الضرورية للممارسة السياسية من قبل الأفراد أو الجماعات أو الأحزاب السياسية, إنه المنهج المادي الجدلي. واستخدام هذا المنهج بوعي ومسؤولية في دراسة الواقع القائم في كل بلد من البلدان أو على الصعيدين الداخلي والخارجي أو الإقليمي والدولي, يساعدان على معرفة الماضي وفهم الواقع القائم والعوامل الفاعلة والمؤثرة فيه والمتغيرات الحاصلة عليه والسياسات التي يفترض انتهاجها وفق المرحلة التي يمر بها هذا المجتمع أو ذاك. إنه الطريق الأسلم لوضع المقولات وتحديد المهمات والأهداف بعيداً عن الإتكاء على النظرية التي هي ليست بالأساس سوى تجريد وتجسيد الواقع القائم وصياغته في مقولات. من هنا جاء تشخيص إنجلز حين قال "الماركسية ليست عقيدة جامدة, بل نظرية مرشدة". فحين يتغير الواقع الذي نعيش فيه, تتغير المقولات النظرية أيضاً. لا بد إذن من صياغة مقولات جديدة في ضوء العلاقة بين الظواهر الجديدة الفاعلة. ومن هنا يمكن القول بأن الكثير من المقولات النظرية التي تحدث بها ماركس وإنجلز في حينها لم تعد سارية المفعول حالياً أو شاخت, ولكن دراستها تساعد في فهم طريقة التعامل مع الواقع وتحليله ليس أكثر. لكن القوانين التي تم اكتشافها بصدد الرأسمالية مثلاً فهي لا تزال فاعلة لأنها مرتبطة بتشكيلة اجتماعية اقتصادية, رغم أن فعل هذه القوانين متباين من بلد إلى آخر وفق مستوى تطور البلدان وعوامل أخرى.
وإذا كان الجزء الأول من كتاب كريم مروة يتمتع بهذا الغنى الفكري والسياسي, فأن الجزء الثاني منه تضمن نصوصاً منتقاة من ماركس وإنجلز ولينين وبليخانوف وروزا لوكسمبورغ وغرامشي. وهي نصوص مهمة يطرح أصحابها في زمانهم رؤية جديدة ومهمة يتبناها وليلتقي عندها الكثير من قوى اليسار في البلدان العربية. لكنها لا تزال غير مؤثرة في الساحة السياسية العربية والشرق أوسطية, وهي مهمة جداً من أجل تحريك المياه الراكدة في هذه المنطقة من العالم, رغم حركتها السريعة في أماكن أخرى من العالم. إن المشكلة التي يمكن تشخيصها بالنسبة لقوى اليسار في العالم العربي هي أن ساعة هذه القوى, ونحن منها, لا تزال متوقفة تقريباً, في حين أن الزمن يجري وبسرعة ولا يقتصر الأمر على عدم تقدمنا خطوات إلى أمام, بل إلى واقع تراجعنا عن حركة الزمن وعن المسيرة والتقدم والحضارة العالمية.