نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي

كريم مروة
الحوار المتمدن - العدد: 6078 - 2018 / 12 / 9 - 22:10
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

بقلم كريم مروة
مقدمة الكتاب
2018 / 4 / 5
كنت أفضل، بل كنت أتمنى، لو كلف أحد سواي بمهمة التعريف بكتابي محور النقاشات التي يضمها هذا الكتاب الذي هو بين أيدي القراء. إذ أن ذلك كان سيجعل التعريف أكثرموضوعية مني، أنا مؤلف الكتاب. لكن صديقي الدكتور عبد الغفار شكر هو الذي طلب مني القيام بالمهمة الصعبة، فلبيت طلبه. وها أنا منخرط في غمارها، مغامراً في اقتحام صعوباتها.
وأعترف، في البدء، بأن عليَّ وعلى شركائي في هذا الكتاب الذي بين أيديهم، والذي يضم نقاشات واسعة وقيمة متعددة الإتجاهات لكتابي الآنف الذكر، أعترف بأن للقراء علينا حق إعلامهم بالأفكار الأساسية التي تضمنها كتابي. لكن هذا التعريف بالكتاب وبأفكاره الذي سأحاول القيام به لا يغني القراء عن الإطلاع على الكتاب ذاته، لكي يكونوا قادرين على تحديد مواقفهم، ليس فقط من الكتاب ذاته، ولا من الآراء والأفكار التي سيجدونها في النقاشات، بل، خصوصاً، ليكونوا أكثر استعداداً لتحديد مواقفهم من القضية الأساس التي هي محور الكتاب ومحور النقاشات حوله. والقضية الأساس هذه إنما تتمثل في البحث عن مستقبل جديد وواقعي لليسار في عالمنا العربي. وهي مهمة راهنة وملحة تهدف إلى تجديد اليسار، تجديد أفكاره ورؤاه وقواه ووسائل نضاله، لكي يكون قادراً على الخروج من أزمته، واستعادة دوره الضروري والأساسي، الدور الذي ساهمت الإنكسارات الكبرى من كل الجهات والإتجاهات في تراجعه إلى حدود التهميش، لا سيما في أعقاب انهيار التجربة الإشتراكية في مطالع العقد الأخير من القرن الماضي. وفي الواقع فإن كل ما نكتب، كيساريين، وكل ما نطلقه من أفكار، وكل ما يدور في رؤوسنا وفي مشاعرنا من أحلام، إنما يرمي إلى تحقيق هذا الهدف الكبير. ذلك أن اليسار هو حاجة موضوعية، وحاجة راهنة، ليس في بلداننا وحسب، بل في العالم المعاصر بمكوناته المختلفة.
وقبل أن أدخل في مهمة التعريف بكتابي موضوع النقاشات التي يضمها هذا الكتاب، أود أن أشير إلى أن هذا الكتاب الذي هو بين أيدي القراء يضم جملة قيمة من النقاشات تعددت اتجاهات أصحابها، وتعددت مواقفهم وآراؤهم وأفكارهم، حول ماضي اليسار وحول حاضره وحول مستقبله. وهذا أمر طبيعي. وقد تمحورت هذه النقاشات، في قسم أساسي منها، حول كتابي الآنف الذكر. لكنها أظهرت، في تنوعها، هماً عاماً مشتركاً يتصل بمستقبل اليسار في بلداننا، وبكيفية إخراجه من أزمته.
يتألف هذا الكتاب من أربعة أقسام. يضم القسم الأول منها وقائع الإحتفال الذي نظمه المجلس الثقافي للبنان الجنوبي احتفاءاً بالكتاب، بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية في إطار "بيروت عاصمة عالمية للكتاب". وقد أقيم الإحتفال في القاعة الكبرى بقصر الأونسكو في بيروت، وتكلم فيه عدد من المفكرين العرب والأجانب، وذلك بحضور حشد كبير من المثقفين ومن أهل الرأي من كل الإتجاهات السياسية. القسم الثاني يتضمن وقائع الندوة التي نظمها ودعا إليها مركز البحوث العربية والأفريقية، لمناقشة الكتاب ذاته. وقد أقيمت الندوة في قاعة خالد محي الدين في مقر حزب التجمع، حضرها عدد كبير من مثقفي اليسار في مصر، من كل الاتجاهات. القسم الثالث يتضمن عدداً من المقالات كتبها مثقفون من أهل اليسار في عدد من البلدان العربية، ناقشوا فيها الأفكار التي تضمنها الكتاب. أما القسم الرابع فهو التعقيب الذي أحاول فيه، أنا المؤلف، مناقشة بعض الأفكار التي وردت في مواقف الذين قدموا آراءهم وأفكارهم واجتهاداتهم حول الكتاب، وحول القضية الأساس، قضية مستقبل اليسار في العالم العربي. وإني لأشعر بعميق السعادة لكون كتابي قد ساهم في إثارة هذا النقاش الواسع حول مستقبل اليسار في بلداننا. وهو نقاش لا بد من الاستمرار فيه وتطويره والذهاب به إلى نهاياته، أي إلى تحقيق نهضة جديدة لليسار في بلداننا تعيده إلى لعب الدور الذي ينتظره، الدور الذي من دونه لن تستطيع بلداننا الخروج من أزماتها المزمنة، ومن المآزق في كل المجالات التي تتحمل تبعاته شعوبنا المقهورة، المستلبة الإرادة والمسلوبة الحقوق.
فماذا يقول كتابي "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي"؟
يتألف الكتاب من قسمين. القسم الأول يضم مقدمة وفصلين. الفصل الأول يتضمن قراءتي للعالم المعاصر، في حين أن الفصل الثاني يضم قراءتي لمستقبل اليسار في عالمنا العربي وللشروط التي أراها ضرورية لنهضة هذا اليسار.
ولم تكن المقدمة في الواقع مقدمة بالمعنى المتعارف عليه للمقدمات في الكتب. فهي لم تكن تعريفاً بالكتاب، أو مدخلاً يهيء للقارئ الشروط الضرورية لقراءته. بل هي كانت محاولة لطرح أسئلة كبرى، أملتها عليَّ تجارب الحركات الثورية منذ فجر التاريخ. وقد استعرضت هذه الحركات الثورية التي حملت هموم البشرية وطموحها لتحقيق الحرية والسعادة والتقدم للإنسان، من ثورة سبارتاكوس لتحرير العبيد في الأمبراطورية الرومانية، مروراً بثورة الزنج وثورة القرامطة في الإمبراطورية العربية-الإسلامية، وصولاً إلى الثورة الفرنسية وانتهاء بثورة أكتوبر الاشتراكية.
إن الهدف من هذا الاستعراض والاستحضار لتاريخ الثورات هو طرح السؤال الكبير حول الأسباب التي قادت جميع هذه الثورات إلى الفشل، الواحدة منها تلو الأخرى، رغم أنها كانت ترتقي من ثورة إلى ثورة في الفكر وفي البرامج وفي وسائل النضال. وإذ لم أستطع أن أقدم جواباً عن هذا السؤال الكبير، فقد حرصت على التأكيد، بإطلاق، أن المهمة الأبدية المطروحة على الإنسان في عالمنا، الإنسان الفرد والإنسان الجماعة، هي الاستمرار من دون هوادة في النضال من أجل تحقيق الحرية والتقدم مقرونين بالعدالة الاجتماعية لشعوب الأرض، وتحريرها من كل أشكال العبوديات، ومن كل أشكال القهر والظلم والاستغلال التي ما تزال تعاني منها منذ فجر التاريخ. وحرصت على التأكيد في هذه المقدمة، على أن لا نهاية للتاريخ، كما دأب منظرو الرأسمال المعولم على التبشير به بعد انهيار التجربة الاشتراكية.
أهمية هذه المقدمة، في اختياري لها مدخلاً للكتاب، هي أنها تمهد الطريق أمامي للدخول في متن الكتاب، وفي وظيفته الأساسية التي يشير العنوان إليها " نحو نهضة جديدة لليسار. فهي، إذ تستحضر التاريخ القديم والتاريخ الحديث لتجارب الشعوب في نضالها من أجل تحررها وتحقيق تقدمها وسعادتها، وإذ تتوقف عند الانهيارات التي شهدتها كل تلك التجارب، فإنها، أي المقدمة، تهيء القارئ لمواجهة الأسئلة التي يطرحها الكتاب على أهل اليسار في الفصلين التاليين، الفصل الذي يتحدث عن سمات العالم المعاصر، والفصل الذي يتحدث عن نهضة جديدة لليسار وعن شروط هذه النهضة.
وقد خلصت في نهاية هذه المقدمة إلى وضع شرطين ضروريين لكي يستعيد اليسار دوره وحضوره في حركة التاريخ. الشرط الأول هو أن يبادر أهل اليسار إلى قراءة نقدية موضوعية لتاريخ اليسار القديم، منذ ثورة أوكتوبر، حتى نهاية التجربة الإشتراكية. الشرط الثاني هو أن يقرأ أهل اليسار بدقة سمات العالم المعاصر بكل مكوناته، لكي يحددوا بموضوعية أفكارهم، ويحددوا بدقة المهمات التي يواجهونها في استعادة دورهم التاريخي. لكن هذين الشرطين إذا كانا ضروريين، وهما ضروريان بالتأكيد في نظري، لكي يستعيد اليسار المعاصر دوره في العالم المعاصر، فإنهما غير كافيين. إذ أن على أهل اليسار أن يبذلوا الجهد، استناداً إلى العلوم الإنسانية كلها، للإجابة عن السؤال الكبير الذي طرحته في المقدمة، حول الأسباب التي ما تزال تجعل الوعي البشري قاصراً عن الارتقاء إلى المستوى الذي يجعل البشر يكتشفون طريقهم إلى تحقيق تلك العلاقة الإنسانية الجوهرية بين الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية. وقد استشهدت في الفصل الأول من الكتاب بنص لماركس مثير للاهتمام يشير إلى هذا الخلل في الوعي البشري. وهو النص الذي جاء في الكلمة التي ألقاها ماركس في لندن في يوبيل جريدة الشعب people s paper 14 نيسان-أبريل 1856: "....في زمننا يبدو كأن كل شيء منطوياًَ على نقيضه. فنحن نرى أن الآلات التي تملك قوة عجيبة لتقصير مدة العمل البشري، ولجعله أوفر ثماراً، إنما تجلب للناس الجوع والإعياء. ومصادر الثروة الجديدة، غير المعروفة حتى الآن، تتحول، بفضل سحر ما غريب وغير مفهوم، إلى مصادر للفقر. وتبدو انتصارات التقنيات كما لو أن الانحطاط الأخلاقي كان ثمنها. ويخيل كما لو أن الإنسان قد أمسى، إما عبداً لغيره من الناس، وإما عبداً لسفالته هو بالذات، بالقدر الذي تخضع فيه البشرية الطبيعة لنفسها. حتى نور العلم الصافي لم يعد يمكنه، كما يبدو، أن يشع إلا في خلفية الجهل الحالكة. لكأن جميع اكتشافاتنا وكل تقدمنا قد أدت إلى هذا الواقع الذي يشير إلى أن القوى المادية تكتسب حياة فكرية، بينما تفقد الحياة البشرية جانبها الفكري، وتنحط إلى مجرد قوة مادية. إن هذا التناحر بين الصناعة المعاصرة والعلم المعاصر، من جهة، والإملاق المعاصر والانحطاط المعاصر، من جهة أخرى، هذا التناحر بين القوى المنتجة والعلاقات الاجتماعية في عصرنا هو واقع محسوس، ومحتم، ولا جدال فيه. وبعض الأحزاب يتذمر منه. وبعضها الآخر يريد أن يتخلص من التقنيات المعاصرة لكي يتخلص بالتالي من التناحرات المعاصرة. وبعض ثالث يتخيل أنه لا بد لمثل هذا التقدم الكبير في الصناعة أن يكتمل حتماً بتراجع في السياسة بالقدر ذاته الذي تتقدم فيه الصناعة. أما نحن، فإننا من جانبنا لا نفقد الرؤية لطبيعة هذا الروح الذي يتبدى دائماً في جميع هذه التناقضات. فنحن نعرف أن قوى المجتمع الجديدة لا تحتاج، لكي تفعل فعلها كما يلزم، إلا إلى شيء واحد، ينبغي أن يتملكه أناس جدد، وهؤلاء الناس الجدد هم العمال. والعمال أيضاً، مثلهم مثل الآلات ذاتها، هم من اختراع العصر".
وبالرغم من أهمية هذا النص الذي يطرح فيه ماركس السؤال الكبير ويقدم جواباً عنه، فإن هذا الجواب ذاته، في نص ماركس بالذات، هو جواب إشكالي ومشروط. فضلاً عن أنه، في جوهره، جواب رومانسي وطوباوي. وما أعنيه بالطابع الرومانسي والطوباوي في جواب ماركس هو إشارته المضمرة إلى النظام الشيوعي الخالي من الطبقات ومن التناقضات المتصلة بها، المجتمع الذي وضع له مع صديقه إنجلز بعض سماته التي يختلف فيها ذلك المجتمع نوعياً عن كل المجتمعات البشرية القديمة والحديثة والقادمة. وهو المجتمع الذي يتصور فيه أبوا الماركسية، ماركس وأنجلز، ويحلمان، أن الوعي البشري سيرتقي فيه إلى المستوى الذي يجعل الإنسان الفرد والإنسان الجماعة قادرين، استناداً إليه، على التخلي عن الدولة وعن وظيفتها المتصلة بالانتظام الإجتماعي عبر القوانين القسرية. إذ يصبحان، أي الإنسان الفرد والإنسان الجماعة، بوعيهما الراقي المتخيل ذاك، قادرين على إدارة شؤونهما الخاصة والعامة، ويصبحان، في الوقت عينه، قادرين على تأمين حاجات المجتمع بأسره، وتأمين الكفاية والحرية والسعادة لجميع الناس، من دون أي تمييز: "من كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته".
أما الإشكالية في جواب ماركس عن السؤال الكبير فتشير إليها، في قراءتي لجوهر النص، الجملة الأخيرة من النص الآنف الذكر "...والعمال أيضاً، مثلهم مثل الآلات ذاتها، هم من اختراع العصر..".
لكن ماركس لم يكتف بجوابه المشروط ذاك عن السؤال، ولا اكتفى بالحديث عن الطوبى في المجتمع الشيوعي. بل هو وضع أساساً فكرياً لمشروعه الكبير لتغيير العالم، في كتبه وفي كتاباته السياسية والاقتصادية والفلسفية، وبالأخص في سفره العظيم "رأس المال". وترك للأجيال اللاحقة أن تتابع ما بدأ به، وتستكمله في شروط تاريخية مختلفة.
وبهذا المعنى، في جوهر طرحي للسؤال الكبير وبالاستناد إلى فكر ماركس بالذات، فإن البشرية ما تزال عاجزة، حتى إشعار آخر، عن حل معضلاتها الكبرى، التي تتمحور في الأساس حول حق الإنسان في الحياة وفي الحرية وفي التمتع بالخيرات المادية وبالمنجزات الحضارية، في العلوم وفي التقنيات وفي كل ما يساهم في صنع التقدم. وبهذا المعنى أيضاً، فإن استعادة اليسار دوره في شروط العصر، تصبح ضرورة تاريخية بالغة الأهمية، استناداً إلى دروس التاريخ السابق كله، أي منذ فجر التاريخ، لا سيما بعد ماركس وبعد ثورة أوكتوبر وبعد التجربة الإشتراكية التي ارتبطت باسم ماركس وباسم لينين، وانتهت إلى الفشل وإلى الانهيار بعد ثلاثة أرباع القرن من قيامها.
تلك إذن كانت مقدمة الكتاب، وتلك هي الإشكاليات التي حاولت أن أضعها أمام القراء. لكنني لم أكتف بطرح الإشكاليات وحدها. بل حاولت أن أقدم بداية تصور للطريق إلى المستقبل، كمدخل إلى الفصلين الأساسيين في الكتاب، مقروناً بنقد ذاتي للممارسات السابقة باسم الاشتراكية في الأنظمة التي حملت اسمها، وفي الأحزاب الشيوعية التي ارتبطت عضوياً بتلك الأنظمة بنسب متفاوتة.
وقبل أن أنتقل إلى عرض الأفكار التي تضمنها الفصلان الأول والثاني في الكتاب، أود أن أشرح بعض الأسباب التي قادتني إلى انتقاء تلك النصوص لكلاسيكيي الماركسية في القسم الثاني من الكتاب. وهي نصوص لماركس وأنجلز ولينين وبليخانوف وروزا لوكسمبورغ وغرامشي. وفي الواقع فقد أردت من انتقائي الدقيق لتلك النصوص أن أشير إلى أمرين: الأمر الأول هو أنني كإشتراكي أعتبر أن أفكاري الراهنة هي وليدة تلك الأفكار، ومكملة لها في شروط جديدة، ومتجاوزة الكثير منها، في الآن ذاته. وجوهر ما أرمي إليه في هذه الإشارة إلى العلاقة بين أفكاري الجديدة وأفكار كلاسيكيي الماركسية هي أن الفكر هو تاريخي، أي أنه ينتمي إلى حقبة تاريخية معينة، ويتغير عندما تتغير الشروط التاريخية. الأمر الثاني هو أنني أردت من تلك النصوص بالذات أن أنبه القارئ الإشتراكي إلى أن هؤلاء المفكرين الكبار والرواد كانوا يستشرفون المستقبل، ويحذرون من تقديس النصوص ومن تقديس الارتباط بها، ويحضون المنتمين إلى الاشتراكية على قراءة حركة التاريخ في تطورها وفي تبدل وتغير شروطها.
وبالعودة إلى الفصلين الأساسيين في الكتاب، اللذين مهدت المقدمة لهما بطرح الأسئلة الكبرى، أحب أن أنبه القراء إلى أن هدفي من الكتاب ومن أفكاري فيه هو إثارة النقاش الذي تأخر الإنخراط فيه حول مستقبل اليسار.

عنوان الفصل الأول من الكتاب هو : اليسار وتحولات العصر، نحو نظام عالمي
جديد. ويتضمن هذا الفصل قراءة مكثفة للسمات الجديدة للعصر الراهن كما بدت لي. وهي سمات يستكمل بها العصر الجديد بعض سمات العصر السابق، ويضيف إليها سمات جديدة. وإذا كانت السمة العامة للنظام العالمي السائد هي ذاتها سمات النظام الرأسمالي القديم، فإن عولمة الرأسمال التي تنبأ بها ماركس قد أدخلت سمات جديدة إلى هذا النظام، أكدت دوام وتفاقم ذلك التناقض الكبير والبالغ الخطورة الذي يعبر عنه التقدم المذهل في العلوم وفي التقنيات الجديدة التي ينتجها الرأسمال، ويستخدمها لمصالحه في شكل متوحش يولّد المظالم والأزمات الدورية، وبين أحلام الملايين من البشر التي عبر عنها المشروع البديل لتغيير العالم الذي بشر به ودعا إليه ماركس باسم الاشتراكية، وانهار بعد ثلاثة أرباع القرن بسبب الخلل البنيوي الذي ساد تلك التجربة الإشتراكية الأولى في التاريخ.
يتألف هذا الفصل من فصول فرعية حرصت في عرضها على أن أقدم قدر الإمكان صورة واقعية لتناقضات العالم المعاصر، التناقضات التي تعبر عن الصراع الموضوعي بين اتجاهات التطور فيه، الإتجاه الذي يرمي إلى تحرير الإنسان من عبوديات الماضي والحاضر وتحقيق التقدم والسعادة له، والإتجاه الذي يمارس الإستغلال والقهر على الإنسان ويحرمه من حقوقه وحرياته وسعادته. في الفصل الفرعي الأول بعنوان "مدخل إشكالي إلى تحولات العصر" قدمت قراءتي للتحولات التي يشهدها العالم، بعد انهيار التجربة الإشتراكية، وتفاقم ظاهرة العولمة الرأسمالية العابرة للقارات، والمتجاوزة لأي نوع من الرقابة على تطورها العاصف. وفي الفصل الفرعي الثاني بعنوان "الأزمة المالية الجديدة وبعض الإستنتاجات بشأنها" توقفت عند ظاهرة الأزمة الرأسمالية في صيغتها الراهنة الناجمة عن تجاوز الرأسمال للقوانين بأنواعها المختلفة، وتجاوزه لدور الدولة ولدور المؤسسات الدولية. وهي الأزمة التي يتحمل نتائجها الكارثية، أسوة بالأزمات الدورية السابقة، القسم الأعظم من الناس في كل بقاع الأرض. وتوقفت عند بعض الإستنتاجات الناجمة عن الأزمة المالية الأخيرة التي لم تنته فصولاً. ومن بين تلك الإستنتاجات ما يتصل بالتناقض في اتجاهات التطور في ظل العولمة، بين اتجاه جنيني يبشر بنظام عالمي جديد لم تتوفر شروط قيامه، يشير فيما يشبه العودة إلى دور الدولة وإلى دور المؤسسات العالمية للرقابة على نشاط الرأسمال، واتجاه آخر يناقض الإتجاه الأول، ويعرقل ويعيق التطور نحو ذلك النظام العالمي الجديد المفترض. وقد أشرت إلى جملة من هذه العراقيل والمعوقات التي تحول دون قيام النظام العالمي الجديد الذي تحدثت عنه. وتتمحور هذه المعوقات أمام قيام وتشكل النظام العالمي الجديد في قراءتي لها في الكتاب حول أمرين أساسيين، يعبّر عنهما واقع الحال في العالم المعاصر: الأمر الأول يتمثل في أن أصحاب الرأسمال، بعد أن أصبح هذا الرأسمال معولماً، بالمعنى الموضوعي والسلبي في آن، لم يستخلصوا الدروس من الأزمات الدورية التي يولدها نظامهم الرأسمالي ويولد معها كوارث تصيبهم هم بالذات، وتصيب الأكثرية الساحقة من الناس على وجه الكوكب. وهؤلاء الرأسماليون الذين يتحكمون بالعالم المعاصر هم الثمانية الكبار والعشرون الجدد. ورغم أن بعض قراراتهم يشير إلى بعض الوعي عندهم بالكارثة التي يسببونها للعالم بسياساتهم المالية، إلا أنهم ما يزالون عاجزين عن الخروج، ولو بالحد الأدنى من سياساتهم تلك مع معرفتهم الدقيقة بنتائجها الكارثية. الأمر الثاني يتمثل في أن المتضررين من سياسات الرأسمال المعولم، وهم الأكثرية الساحقة من الناس، فقراؤهم ومتوسطو الدخل وحتى قسم غير قليل من أصحاب الرساميل، ما زالوا يعيشون في حالة ضياع وانقسام وتناقض مصالح، وتدن في الوعي، يجعلهم عاجزين عن التوحد في مواجهة ذلك الرأسمال الفالت من عقاله، وفي مواجهة سياسات أصحابه. وشرط ذلك التوحد هو أن يتم حول برنامج عقلاني ينقذ البشرية من الكوارث المتتالية. وتشكل أزمة اليسار، بصيغه ومدارسه المختلفة، والتراجع والتهميش اللذين يعيش في أجوائهما هذا اليسار، أحد العوامل التي تجعل الرأسمال المعولم يستمر في سياساته الهوجاء وفي الأزمات التي يولدها.
وظيفة هذا الفصل الأول من الكتاب، إذن، هي التأكيد، استناداً إلى وقائع العصر، بأن على اليسار أن يأخذ هذه الوقائع في الإعتبار وهو يبحث عن شروط نهضته الجديدة، التي يحاول بها أن يستعيد دوره التاريخي المطلوب، ويساهم من موقعه الجديد في تحقيق النهضة في بلاده.
أما الفصل الثاني من الكتاب، الذي يحمل عنوان "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي"، فهو الفصل الأساسي الذي قدمت فيه مجمل أفكاري حول مستقبل اليسار، والشروط الضرورية، التي من دونها لن يستطيع اليسار في بلداننا أن ينهض وأن يستعيد دوره. وينقسم هذا الفصل إلى ثلاثة فصول فرعية. الفصل الفرعي الأول يحمل عنوان "مقدمات نقدية تأسيسية". وأقتطع من هذا الفصل الفرعي الفقرات التالية التي تلخص قراءتي لمفهوم اليسار في العصر الحالي:
".... وفي الواقع فإن كلمتيّ "إشتراكية" و"يسار"، في مقاربتي هذه حول تجديد اليسار في بلداننا فكراً ومشروعاً مستقبلياً، إنما تتصلان بالتأكيد، من قبلي من حيث المبدأ، بأن هذه المهمة التاريخية التي على اليسار الجديد أن يتصدى لها في الظروف الراهنة، إنما تشكل تواصلاً مع ما ارتبط في الفكر الإشتراكي، فكر ماركس، من قيم ومُثُل إنسانية، وتجاوزاً، في الوقت عينه، للكثير من المفاهيم القديمة التي مضى عليها الزمن. وإذ أشير إلى ذلك فلأنني أحب أن يعلم القارئ بأنني، فيما أقدمه من أفكار في هذا الإطار، إنما أستند إلى ما قدمته لي الحياة وتجاربي فيها، كإشتراكي مخضرم، من استخلاصات حول الجديد من المفاهيم التي ولدتها التطورات العاصفة في العالم المعاصر، والأحداث والوقائع الجديدة التي شهدتها وتشهدها بلداننا في شتى الميادين. لكنني، وأنا أتحدث هنا كإشتراكي بحكم انتمائي التاريخي إلى الإشتراكية، فإنني بت أختلف في أمور جوهرية مع عدد غير قليل من مفاهيم ماركس، التي شاخت وصارت جزءأ من الماضي، وتغيرت علاقتها بالعصر. لكن اختلافي هذا مع تلك المفاهيم لا يلغي ارتباطي الأساسي بما حلم به ماركس، وما دعا إليه، وما نظّر له في مشروعه لتغيير العالم، وما حفلت به كتاباته الفكرية، على امتداد حياته، من تأكيد على أنَّ الإنسان الفرد، والإنسان الجماعة، هو جوهر الحياة، وهدف التقدم في ميادينه كافة. لذلك فإنني، كإشتراكي بالمعنى الذي أشرت إليه، إنما أقارب البحث في المهمات الراهنة التي تتصل ببلداننا، وفي المهمات ذات الصلة بالمستقبل فيها، بطريقة واقعية مختلفة، في الشكل وفي المفاهيم وفي الأدوات، عما سبق لي ولأمثالي من الإشتراكيين أن امتلكناه والتزمنا به في أبحاثنا، وفي حياتنا السياسية والفكرية. وقد توصلت إلى استنتاج أساسي من التجربة السابقة، ومن ممارساتنا فيها، نحن شيوعيي تلك الحقبة، أننا لكي نكون، نظرياً ومن حيث المبدأ، إشتراكيين في بلداننا، وفي هذا العصر بالذات، فذلك يعني بالضروة، بعكس ما كان يحصل غالباً في ممارستنا السابقة، أن نحترم القوانين الموضوعية، وأن نأخذ في الإعتبار الشروط التاريخية الخاصة بالحقبة التي نحن فيها، أي الحقبة التي نحن معنيون بالحديث عنها، ومعنيون، على وجه الخصوص، بتحديد المهمات الخاصة بها في بلداننا. بل إنني أرى، كإشتراكي اليوم، بمعنى التزامي بقيم الإشتراكية وبالأساسي من أفكار ماركس التي تعطي للحرية وللتقدم وللعدالة الإجتماعية في تلازمها المعنى الذي عبّر عنه مشروع ماركس لتغيير العالم، أرى أن ما سأقترحه من مهمات للحاضر من تاريخنا وللمستقبل لا يتصل، لا في الشكل ولا في المضمون، بالقواعد التي سادت في التجربة الإشتراكية المنهارة. لكنني سأظل أستند، في الشروط الجديدة، إلى منهج ماركس المادي الجدلي. وأستبق الحديث عن هذه المهمات، التي أقترحها للحاضر في الطريق إلى المستقبل، للقول، على سبيل المثال، بأنني، أنا الإشتراكي بالمعنى النظري العام وباليوتوبيا، إنما أدعو اليوم، كمهمة لها الأولوية القصوى، إلى بناء الدولة الحديثة في بلداننا. وهي الدولة الديمقراطية بالمعنى الحديث والمتطور للديمقراطية. وهذه الدولة الحديثة الديمقراطية لن تكون، في صيغتها الدستورية، وفي وظائفها، وفي إدارتها للمجتمع، وفي الإجراءات المطلوب منها القيام بها، إلا دولة الحق والقانون (Etat de Droit)، دولة المؤسسات الديمقراطية، دولة تتوفر فيها للإنسان الفرد وللإنسان الجماعة حقوقه وحرياته كاملة غير منقوصة. والغاية من هذا القول القاطع، في تحديد الأولويات في المهمات الخاصة ببلداننا، هو للتمييز الواضح بين طريقتين مختلفتين بالكامل في النضال من أجل التغيير. الطريقة الأولى هي طريقة ماركس الواقعية للتغيير الديمقراطي، التي يحترم فيها بدقة اختلاف المراحل، واختلاف الشروط التاريخية بين مرحلة وأخرى، واختلاف المهمات. وطريقة ماركس هذه هي الطريقة التي أنتمي في عملي السياسي إليها. الطريقة الثانية هي ما يسمى، في الأدبيات السياسية، الشعبوية، أي الطريقة التي يكتفي أصحابها بطرح الشعارات من دون أن تكون قد توفرت لهذه الشعارات الإمكانات الواقعية لتحقيقها. وهي الطريقة التي تقود أصحابها إلى المغامرات التي يحمّلون المجتمع النتائج الكارثية المترتبة عليها. يحضرني هنا مثال لينين، الذي أعلن، وهو في قمة الهرم في سلطة العمال والفلاحين، بعد أربعة أعوام من انتصار ثورة أوكتوبر، وكنتيجة للدروس التي استخلصها من الحرب الأهلية، ومن موضوعة "الشيوعية الحربية"، بأن مهمة البلاشفة كانت تقضي في تلك المرحلة، من أجل المحافظة على السلطة السوفياتية، ومن أجل تحقيق أهدافها الجوهرية المتمثلة بالحرية والتقدم والعدالة الإجتماعية، بإقامة رأسمالية الدولة. ذلك أن المهمة الأساسية كانت في تلك المرحلة، بالنسبة إلى لينين وإلى البلاشفة، بناء القاعدة المادية للتقدم، القاعدة التي من دونها لم يكن في حينه مجال للحديث عن مستقبل للإشتراكية في روسيا، ولأهدافها المبتغاة في برنامج لينين... الإختلاف، إذن، بين التاريخين، التاريخ المتصل بالتجربة الإشتراكية المنهارة، والتاريخ المعاصر الذي نحن فيه، هو اختلاف طبيعي، تفرضه التطورات والتغيرات التي شهدها العالم خلال هذا الزمن الطويل بين بداية القرن ونهايته. أما الإختلاف بين الطريقتين فهو اختلاف لا مجال للمصالحة فيه. وهو ما يشير إليه موقف لينين بعد انتصار الثورة، كما أسلفت. وهو، في الأساس، ما أكد عليه ماركس حين جزم بأن أي برنامج يحمل اسم الإشتراكية ولا ينطلق من الوقائع القائمة، ولا يأخذ في الإعتبار إمكان تحقيق المهمات المطروحة فيه، هو برنامج لا صلة له بالإشتراكية. والهدف الجوهري من هذا التأكيد، عند ماركس وعند لينين، على ضرورة الربط بين المهمات وبين الواقع والإمكان، هو التحذير من المخاطر التي يقود إليها دفع الجماهير في نضالات لا توصل إلى تحقيق الشعارات والأهداف التي تخاض هذه النضالات باسمها. إذ أن ذلك من شأنه أن يؤدي، إذا ما تكرر، إلى خلق اليأس لدى هذه الجماهير من إمكان تحقيق أي تغيير في شروط حياتها. فتصبح هذه الجماهير، في ظل يأسها، أمام خيارين: فإما أن تنكفئ بانتظار السعادة التي تأتيها في مرحلة ما بعد الموت، أو أن تصبح، بفعل اليأس، أداة عمياء في خدمة قوى هوجاء، كما تشير إلى ذلك بعض نماذج من هذا الزمان، التي تمارس فعل التدمير في بلداننا على وجه الخصوص، وفعل التدمير في مناطق أخرى من العالم. وهو ما صار يعرف باسم الإرهاب.... جوهر المسألة هنا إنما يكمن في أن الشروط التاريخية هي التي تحدد المضمون الأساسي للأهداف، الأهداف التي يفترض ببرنامج التغيير أن يتضمنها في كل حقبة من حقبات التاريخ، في كل بلد من البلدان، ومنها، بالطبع، بلداننا بالذات. وهذه الشروط ذاتها هي التي تحدد القوى صاحبة المصلحة في تحقيق هذه الأهداف، وتحدد، في الوقت ذاته، أشكال النضال وأدواته ووسائطه، التي بإمكانها واقعياً، وليس بالوهم، أن تقود إلى تحقيق هذه الأهداف، كلياً أو جزئياً.... غير أن ما أرمي إليه، في هذا البحث حول المشروع الجديد لليسار في العالم العربي، هو التوسع في دائرة أهل اليسار، التوسع المستند إلى التوسع في القاعدة السياسية والإجتماعية للقوى التي تنتمي إلى اليسار، أو التي تعتبر اليسار ممثلاً لمصالحها. والأسباب الموجبة لهذا التوسع عديدة، كما أراها في قراءتي للأحداث وللوقائع الراهنة في بلداننا العربية وفي العالم، وفي المهمات التي يمكن استخلاصها من هذه الأحداث والوقائع. أول هذه الأسباب يكمن في أن التخلف السياسي والإقتصادي والإجتماعي السائد في بلداننا، الذي تعود جذوره القديمة والحديثة إلى أنظمة الإستبداد، وإلى عوامل أخرى داخلية وخارجية، هذا التخلف هو الذي يجعل من قضية التغيير الديمقراطي قضية وطنية تهم شرائح واسعة من مجتمعاتنا. أما السبب الثاني فيتمثل في أن ظاهرة الإستقطاب عالمياً ومحلياً، التي ولدها ويولدها الرأسمال المعولم، والتي تتخذ لها في بلداننا أشكالها الخاصة، قد وسعت قاعدة القوى المتضررة من هذا الإستقطاب، وجعلت قضية التغيير تتجاوز الشرائح التي كانت تنحصر في الطبقة العاملة وفي الأجراء والمستخدمين العاملين في شتى ميادين النشاط الإقتصادي وفي شتى أشكال الإنتاج في المدينة والريف.... اليساري، إذن، يمكن أن يكون متأثراً بأفكار الإشتراكية، منذ ماركس حتى اليوم. ويمكن أن يكون عضواً في حزب إشتراكي، أو شيوعي، أو في حزب قومي متأثر بالإشتراكية. ويمكن أن يكون ديمقراطياً بالمعنى الواسع للمفهوم. لذلك فاليساري، الذي أتوجه إليه في هذا البحث حول حاجة بلداننا إلى نهضة جديدة، باسم المشروع الجديد لليسار، هو كل من ينتمي إلى هذا الجمهور الواسع، الذي يريد لبلده الحرية والتقدم اللذين لا يمكن تحقيقهما إلا في النضال لإحداث تغيير جوهري في الواقع القائم، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وقيمياً. هنا، بالذات، تكمن أهمية هذا المشروع الذي أقترحه لليسار في العالم العربي، في هذه الظروف التي نحن فيها، بكل تجلياتها.... غير أنني أرى أنه سيكون من الضروري التأكيد هنا، منعاً لأي التباس، بأن أهل اليسار ليسوا أوصياء على المجتمع، ولا هم المالكون المطلقون للحقيقة، ولا تمثل برامجهم، بالضرورة، وفي كل الأوقات، كل ما تطمح إليه شعوبهم في حركة التغيير. بل أن على أهل اليسار هؤلاء، من كل المواقع والمدارس، أن يعملوا بصورة دائمة لتصويب وتسديد مواقفهم وسياساتهم، وأن يبذلوا أقصى جهدهم لإقناع الجماهير التي يمثلونها، ومجمل الشعب، بأنهم أوفياء، في الممارسة السياسية والأخلاقية، لما يقدمونه من برامج ترمي إلى تقدم أوطانهم، وإلى تحقيق السعادة لشعوبهم. لكن عليهم، في الوقت ذاته، أن يدركوا أنَّ لهم شركاء في النضال من أجل التغيير، حتى ولو لم يكونوا متفقين معهم في بعض المواقف الفكرية والسياسية".
ويتضمن الفصل الفرعي الثاني تعداد المرتكزات الأساسية التي ينبغي أن يستند إليها مشروع التغيير باسم اليسار. وهي جملة من البديهيات الأخلاقية التي لا يستطيع اليسار أن يسلك طريقه إلى التغيير من دون أن يعيد الإعتبار لها في فكره وفي برنامجه وفي ممارساته، وفي أشكال وأدوات ووسائل نضاله.
أما الفصل الفرعي الثالث فهو يتضمن القضايا التي أعتبرها مهمات اليسار في بلداننا، في الوقت الراهن، أي في هذه الحقبة بالتحديد من تاريخ العالم، ومن تاريخ بلداننا فيه، وفي الوقائع التي لا يمكن تجاوزها والقفز فوقها.



هذه القضايا وعددها عشرون قضية ألخصها بالعناوين العامة التالية:
1- بناء الدولة الديمقراطية الحديثة، دولة الحق والقانون والمواطنة وحقوق الإنسان. وهي بنظري، القضية رقم واحد في البرنامج الذي أقترحه لليسار الجديد.
2- إعادة تشكيل المجتمع المدني بمؤسساته الديمقراطية، على قاعدة الديمقراطية والتعددية.
3- الدفاع عن الوطن وعن سيادته واستقلاله ووحدة شعبه وأرضه، ضد كل أنواع العدوان والتدخل في شؤونه من أي جهة أتي هذا التدخل.
4- تحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية، التي تصنع التقدم، وذلك وفق سياسات واقعية.
5- الإهتمام بالثروة الوطنية على صعيد كل بلد، والثروة القومية على صعيد البلدان العربية عموماً، لصالح التقدم وسعادة الإنسان.
6- الإهتمام بالتنمية الإجتماعية، التي تتصل بالإنسان الفرد والإنسان الجماعة.
7- الإهتمام بالضمانات الإجتماعية في كل فروعها، في العمل وفي الصحة وفي التعليم وفي السكن، وفي الأمومة وفي الشيخوخة الخ...
8- الإهتمام بالثقافة وبالمعرفة في فروعها المختلفة.
9- الإهتمام بالبحث العلمي، الذي يشكل الأساس في تحقيق التقدم.
10- الإهتمام بالتراث الثقافي في كل ميادينه.
11- الإهتمام بالشباب وبقضاياهم في جوانبها المختلفة.
12- الإهتمام بالمرأة لجهة تأمين حقوقاً في المساواة في كل المجالات.
13- مواجهة التطرف في كل أشكاله.
14- الإهتمام بالبيئة.
15- العمل بكل الوسائل المتاحة لإزالة الإستبداد في بلداننا، في كل أشكاله، وتحرير بلداننا من آفاته.
16- التضامن مع الشعب الفلسطيني بكل الوسائل المتاحة لتأمين حقوقه المشروعة في إقامة دولته المستقلة على أرضه وعاصمتها القدس الشرقية.
17- الإهتمام بالأقليات القومية وتأمين كامل حقوقها.
18- السهر على توطيد علاقات التكامل بين البلدان العربية في شتى المجالات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والعلمية.
19- إقامة علاقات مع العالم، على قاعدة السيادة الوطنية والتفاعل مع ما يجري من تطورات وتحولات.
20- إقامة علاقات تضامن وتكامل مع قوى التغيير في العالم.
تلك هي العناوين العامة لبعض القضايا التي أراها أساسية فيما أقترحه كمشروع جديد لنهضة اليسار في العالم العربي. وهو مشروع لا يستقيم إلا إذا انخرطت في نقاشه وفي بلورته، على قاعدة المبادئ الديمقراطية واستناداً إلى الوقائع القائمة، كل قوى اليسار في عالمنا العربي. وهي قوى كبيرة ذات نفوذ في وسط الفئات الشعبية، وفي وسط المثقفين، وفي وسط الشباب. لكنها قوى غير منظمة في معظمها في أحزاب. بل هي، في معظمها، ابتعدت عن الأحزاب، يسارها ويمينها. وانتظرت، ولا تزال تنتظر، من يقودها إلى المستقبل على أسس منهجية جديدة ووفق برنامج واقعي للتغيير الديمقراطي. وأزعم أن هذه المهمة هي مهمة هذا اليسار الجديد، الذي يفترض به أن يحمل هذا المشروع النهضوي الجديد للتغيير. لكن هذا اليسار، عندما سيولد بتنويعاته المختلفة، لن يكون لوحده في هذه المعركة التاريخية القادمة. بل إن عليه أن يسعى لكي يلتقي مع كل من هم معنيون بتحقيق هذه المهمة الكبرى. وفي مطلق الأحوال فإنَّ من الضروري أن يجهد هذا اليسار الجديد في البحث عن صيغ جديدة لانتظام عمله. وهي صيغ تختلف حتماً عما كان سائداً في الأحزاب القديمة. إلاَّ أنَّ من الخطأ الفادح عدم الاستفادة من الإيجابي في تجارب تلك الأحزاب، والإستفادة، في الوقت عينه، من السلبي في تلك التجارب. وعلى قاعدة ما يمكن استخلاصه من التجارب القديمة، وما يمكن استنتاجه مما هو جديد في شروط العصر الجديد، ينبغي التوصل إلى الصيغة، أو الصيغ، الأفضل لتشكيل اليسار الجديد في العالم العربي. فهذا اليسار هو المؤهل عندما سيولد لحمل راية النضال من أجل تحقيق هذه القضايا التي يمكن أن يتكون منها برنامج التغيير الديمقراطي في بلداننا. وهو برنامج تتنوع في إطاره، وفق شروط كل بلد، المهمات الملموسة الخاصة. لكن هذه الشروط لن تشكل، بالإختلاف بينها، أسواراً صينية بين مكونات هذا اليسار على الصعيد العربي. بل ينبغي لهذا اليسار، على العكس من ذلك، أن يبحث عن أشكال وصيغ للتنسيق والتكامل بين مكوناته، حول ما هو مشترك من مهمات وقضايا تهمّ بلداننا جميعاً.
هذا هو كتابي، وهذه هي، باختصار مكثف ومتعسف وناقص، أفكاري الأساسية فيه، التي اجتهدت في اعتبارها، من وجهة نظري، الأسس الضرورية التي تضعنا على الطريق في اتجاه نهضة جديدة لليسار في عالمنا العربي. وهو اجتهاد، مجرد اجتهاد، ومحاولة، مجرد محاولة، من يساري مخضرم، أستند فيهما إلى تجربتي الطويلة، تجربة عمري كله، في الصواب فيها وفي الخطأ، وذلك من أجل العمل والنضال داخل أطر اليسار، لتحقيق الهدف الكبير الذي يعبر عنه ويدل عليه عنوان الكتاب.
وبالتأكيد فإن أحداً لا يستطيع ادعاء امتلاك الحقيقة لوحده، ولا يستطيع ادعاء امتلاك الرؤية للمستقبل لوحده. فلنعمل معاً، من مواقعنا المختلفة، لإخراج اليسار من الحال الذي هو فيه، إلى المستقبل. ولا سبيل أمامنا سوى البحث والنقاش والإجتهاد، والإعتراف كل منا بالآخر، وعدم إطلاق الإتهامات، يساراً ويميناً، وفي اتجاهات شتى، على من نختلف معهم. فالحرية، حرية الرأي والفكر والعمل، ينبغي أن تبقى على الدوام قاعدة أساسية للعلاقات بين الناس، لا سيما بين من يعتبرون أنفسهم أصحاب مشروع عظيم لتغيير العالم باسم اليسار، في الإتجاه الافضل والأرقى والأكثر حرية وتقدماً ومساواة وسعادة للبشر.