قراءة نقدية في الفكر الشيعي. ح1


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5830 - 2018 / 3 / 29 - 02:07
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

قراءة نقدية في الفكر الشيعي. ح1


لعل تجربة ممارسة النقد العقلي المنطقي على مساحات محددة من العقل الديني الإسلامي يعطي قدرة على التركيز على مجموعة محددة ومحصورة من مساحة هذا الفكر دون أن يدخلنا في التعميم والإطلاق الغير مناسب، فالعقل الديني الإسلامي اليوم يغطي مساحة واسعة ومتشابكة ومتنوعة من الأراء والأفكار التي تتلاقى في نقاط وتختلف في الأخرى، وبالعموم فهي ليست من نسيج واحد ولا تجري عليها قواعد واحدة في معطياتها ولا في المقدمات والنتائج وإن كانت تدور جميعا في كيفية قراءة النص الديني وتقديمه على أنه حكم الله الصحيح أو المجزئ والمبريء للذمة في العمل، هذا الأختلاف والخلاف يعود في جذوره دوما إل عوامل ومفاعيل ذاتية تخص القارئ ولا تخص النص بموضوعيته وذاتيته، لذا فتخصيص البحث على مساحات جزئية من هذا الفكر وتحديدا المنتمي لمدرسة معينة بالذات هو الأسلوب الأقدر على كشف قيمة ومنطقية وعقلانية القراءة مقارنة ومقاربة للنص.
عرفت المدرسة الشيعية أولا بمدرسة العقل تخصيصا لها عن مدرسة النقل المحافظة وأبدعت هذه المدرسة في مراحلها المبكرة ثروة عقلية كبيرة ساهمت في ترسيخ دور العقل والمنطق العملي في قراءة الفكرة الدينية وخاصة في زمن روادها الأوائل أبتداء من الإمام جعفر الصادقوقبله والده الإمام محمد الباقر، حينما كانت تقود منهج العقل والعدل في تناول جوهر الدين وأساسياته مرورا بما كانت تعرفت بفترة تأسيس المدارس الأخرى التي خرجت من تحت عباءة هذا الفكر وأجتهدت في خط مسير لها مبني على حرية العقل وتحرره من دائرة الإتباع المطلق للفكرة ذاتها، فنشأت مدرسة أبي حنيفة النعمان أولا لتتوالى بعدها تفرعات جانبية مدفوعة برعاية سياسية وخاضعة مرة للصراع السياسي ومجارية له ومرة تحت تأثير ما يعرف بالرؤية الخاصة لفروع وجزئيات من هذا الفكر، حتى تبلورت أخيرا إلى مناهج وقراءات منفردة أخذت من زعمائها التسمية وطريقة فهم وإدراك أحكام وغايات وقصديات النص القرآني.
هذا الحال لا يغير من حقيقة واحدة أن المذهب الشيعي الجعفري لم يتشظى ولم يتجزأ عن أسسه ومنطلقاته الأولى حتى غاب أخر الأئمة فيه وهو الإمام الحسن العسكري سنة 250 هـ، وأبتدأ ما عرف لا حقا بفترتي الغيبة الصغرى والكبرى لما يقوله الشيعة من أن الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن تحت ضغط عداء السلطة العباسية ومحاولة إنهائه بالقوة بعد فترة عنيفة من المضايقات والقتل والتهجير الذي مورس بحق قادة هذا الفكر وأعلامه، مع بداية فترة الغيبة الصغرى ووجود سفراء يعتقد غالبا أنهم على تواصل مخصوص مع الإمام الغائب بقيت المدرسة الجعفرية تمارس نشاطها وفاعليتها عبر هؤلاء السفراء حتى بدأت فترة الغيبة الكبرى لاحقا وأنتقال الرئاسة الفكرية حسب منطق النظرية هذه إلى مجموعة من العلماء والمجتهدين والفقهاء الذين أوكل لهم أستمرارية القيادة الفكرية والمعرفية لها.
في المرحلة التالية لقيادة الجيل الأول من أساطين المدرسة الجعفرية والذين تدور العقلية الدينية الخاصة على محور كونيتهم الذاتية بأعتبارهم أئمة منصوص عليهم بالأتباع المطلق، أستنادا إلى جملة من الأحاديث المروية من قبلهم أو تقريبا منها أو في ذات الأطار من بقية المدارس الحديثية، تنص مثلا على (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله أو عترة أل بيتي إن تمسكتهم به لن تضلوا بعدي أبدا)، أو لتخريجات نصوص قرآنية تعتمد مفهوم الإمامة ووجوب الطاعة المطلقة لهم كشرط من شروط صحة الإيمان منها {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ }الأنبياء73، بعد هذه المرحلة تحولت منهجية الأجتهاد والتفقه من الإتباع المطلق إلى الأتباع المرجح أستنادا إلى مدى توافق الأجتهاد والفتيا مع مدرسة الأئمة وأن تدور في فلكها، وأن لا يعتبر أي أجتهاد أو جهد فكري يطرح أو يناقش خارج هذا الإطار وإلا أعتبر ردا على الله ورسوله وبالتالي لا يجوز التعبد بتلك الأفكار أو أتخاذها مصدر صحيح ملزم للمذهب أو يجوز ضمه من ضمن الدائرة المعرفية الشيعية الجعفرية.
في هذه اللحظة التأريخية التي أعقبت عصر الغيبة الصغرى وبداية فترة الغيبة الكبرى تم أغتيال الأساس العقلي الذي قامت عليه المدرسة الجعفرية بمبادئها الأصيلة، وحلت محلها مرحلة السلفية الفكرية التي قمعت العقل الديني من التحرر من النقل وما يلقي ذلك من أثرا على تطور حركة الفكر الشيعي عامة، مع عدم إنكارنا وجود محاولات رصينة وأساسية ومهمة في أطار التجديد والتحديث، ولكنها بالغالبكانت محاولات أو إرهاصات لمحاولات فردية داخل المنظومة الفكرية الجعفرية، وكل ما طرحته من أراء وأفكار تقدس العقل وتنحاز لفاعليته الإقرائية ووجوب الأجتهاد في المواضيع المستجدة والجديدة في عالمي الفقه والعقائد، ولكنها بقيت برغم تأثيرها البطئ على الملامح العامة لهذه المدرسة على أنها محاولات محدودة وهامشية، لم تستطيع أن تخرج المدرسة وماهية منهجها مرة أخرى من دائرة الفكر السلفي وتعيده لطريق العقل والعدل.
إن محاولتنا النقدية هذه لا تنتقص من أثر المدرسة الجعفرية تأريخيا ولا مساهماتها الكبيرة في تكوين المنظومة الفكرية الدينية، وحسبها أنها حافظت بشكل عام على أهم منطلقات مدرسة المدينة المنورة وما تمثله من قدرة على التفاعل الحيوي مع الدين بعيدا عن الشخصنة المحافظة التي تميزت بها مدرسة مكة وما سجلته من تقديس للظاهراتية في الدين وأعتمدها على المنقول النصي فقط، في محاولة منها لأفراغ المنقول ذاته من الروح المكنونة في بنيان النص وما خلف هذا البنيان من أفكار ومقاصد وغايات، أيضا ساهمت مدرسة المدينة في الحفاظ على الترابط بين جيل السابقين وما يحملونه من تمثيل حقيقي لروح الفكر الإسلامي المعتمد على التسامح والعدالة والحرية، في حين أن المدرسة المكية أعتمدت الشعبوية كمنطلق أساسي في دعوتها ومثلت هذه الدعوة بتقديم قريش هدف ومنزلة وغاية للدين على أنهم شعب الله المختار.
أيضا ما يحسب للمدرسة الجعفرية أنها كانت مدرسة الحراك الفكري الثوري ومنبع من منابع مقاومة التضليل والأخضاع القسري للسلطة وقوتها، منها خرجت أكثر الحركات الثورية التي قاومت الطغيان السلطوي الأموي والعباسي، ومنها ومن تحت عباءتها خرجت أكثر الأفكار يسارية في تاريخ المسلمين ألا وهي حركة ومنهج المعتزلة في تطور ملفت نحو الأهتمام بالعقل وتقديمة كحاكم ومقرر في التنازع الفكري، وأيضا منحت هذه المدرسة الكثير من العلماء والفلاسفة والمفكرين الذين أثروا العلم الوضعي من جابر بن حيان الكوفي إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي وغيرهم، هذا يؤشر إلى حقيقة واحدة أن المدرسة العقلية عموما أقدر من غيرها للتفاعل مع الواقع وتخصيص الجهد والوقت اللازم لتطوير الواقع بمعزل عن أشتراطات المدرسة النقلية التي أعتبرت أن العلم الديني هو أشرف العلوم وأقدسها والمقدم في الأهتمام على كل العلوم الأخرى.