رجال الدين وقضية أمتطاء الفكرة الدينية


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5823 - 2018 / 3 / 22 - 22:55
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

رجال الدين وقضية أمتطاء الفكرة الدينية


من قراءة متأنية للواقع الديني أمس واليوم وحتى غدا في المجتمعات التي ما زالت المؤسسة الدينية فيه حاكمة ومسيطرة ومستبدة بعنوانها القداسي، نجد هناك ظاهرة لا ينكرها العاقل ولا يستغرب منها الجاهل ألا وهي قضية أستمطاء الدين من قبل مجموعة من الناس يعرفون ويتجمعون حول فكرة (أركبوا كل شيء من أجل كل شيء)، هذه الفكرة لا تحترم مقدس ولا توقر عقل ولا تريد إصلاح ولا صلاح المهم فيها أنها كيف تتوصل إلى معنى وممارسة السيادة حتى لو كان الأمر متعلق بالدين أو السماء، فما أحدثه الكثير ممن يسمون أنفسهم رجال دين بالدين ما لم تنجح كل قوى الشر أن تحدثه والسلاح دوما من خلال أستمطاء النصوص الدينية وأحكامها، فكل دعواتها التي ضجت وعجت في الوجود تتمحور إلا قليلا من حالات شاذة تتمحور حول مفهوم السلطة والسيادة، أما الأخلاق والمثل والفضيله ففي غالب الأحيان هي أول الضحايا لممارساتهم وبذلك خسر الإنسان نفسه ودينه حين لاحق هؤلاء وسار على إثرهم مهما كانت الأسباب والدعوات.
المشكلة هنا ليس فقط فيمن يدعون الولاية العقلية على الدين والولاية التفكيرية على الإنسان، بل أن الإنسان الفرد الذي سلم عقله ومنحه بالمجان كي يسخر ويسخر من هؤلاء هو المسؤول الأول والمدان الفعلي في تغييب الوعي وأضاعة حق التعقل الوجودي بكل ما يعني أساسا من حرية وأختياروأنحيازه لروح العبدوية لهم وبهم، فلو عزلنا نحن كبشر نتمتع بنظام عقلي واحد وإن تفاوت في مقدراته وقدراته عن سطوة هؤلاء، وعزلنا فهم وإدراك ديننا عن هؤلاء ومنحنا أنفسنا فرصة أداء الواجب العقلي في تدبر وتعقل ومحاولة الفهم العميق والأصولي للظاهر والمقاصد، بدل من ظننا أن الله قد منحهم لوحدهم ملكة لم يمنحها لغيرهم، لأفقنا على هول الخديعة والخطيئة التي لا تغتفر ولا تقبل من أي عقل حتى لو كان في بساطة عمله، عندها لا مفر من أن يتم عزلهم وأفكارهم وما يدعون وما يقولون أعتباطا وذاتية مفرطة بأنانيتها عن الدين وعن الإنسان والوجود مثل ما يعزل المريض الخطر المصاب بوباء معد عن مجتمعه.
فمثلا من جملة ما يصوره بعض من يتزعمون الدعوة الدينية أن مشكلة الإنسان هي الصراع بين الله والشيطان، وأن الإنسان عليه الأنحياز دوما لله كي يزيد من قوة الله ويضعف جانب الخصم، هكذا بدأ التحريف في وظيفة الدين ومفاهيمه، الله ليس خصما ولا ندا لأحد وإنما جعل الشيطان خصم معنوي للإنسان كي ينشط في ذاته العاقلة روح القرار والمسؤولية وتحمل تكاليف عبء علة الوجود الأولى، وعلى البشر هنا ليس الدخول في صراعات من أجل الله بل من أجل أن تكون الحياة الوجودية مدرسة ومنهج للتكامل والرقي، وإلا فليس من أحد أدعى أن الشيطان ضربه أو أعتدى عليه بالمباشر أو حرضه على أن يعتدي على الأخر أو ينتهك وجوده وهو متمتع بكامل قواه العقلية السليمة، الشيطان جزء من وهم المعرفة التي أرادوا بها إشغالنا عن الأهتمام الحقيقي بمسألة تحريك وتضخيم العملية العقلية الطبيعية التي تحمي الوجود وتحتمي به.
وأيضا من المسائل التي يثيرها هؤلاء أن الله ما خلق الخلق إلا ليضعهم في أمتحان عسير ومؤلم وعذاب لا ينتهي والعلة في ذلك لأجبارهم على الإيمان به وبما يريد، وكأن الله متعلق وجوده وعدمه بهذا الإيمان، فكلما كثر عدد المؤمنون كان الله سعيدا ومنتشيا بأنتصاره على خلقه، وكلما قل المؤمنون وتضائل أثر الإيمان في الوجود جن جنون الله وأرسل ملائكة العذاب والسخط ليعاقبوا الناس ويعذبوهم، هذه الثقافة السوداوية منتشرة في كل الأديان وهي عكس ما جاء مثلا في نص تشجيعي على الإيمان في سورة الجن، كلما زاد إيمان الناس وتفاعلوا مع إرادة الله فيجازيهم بالإحسان إحسانا، ولكن لا يعاقبهم لأنهم لا يؤمنوا أو يستجيبوا فقط له، ولكنهم حينما يتركون السبيل الأرحب للحياة الكريمة ويتنازعوا بينهم ويصبح المنكر والباطل هما القانون، عند ذلك سيدخلون أنفسهم في متهات الضلال والعبودية والشر وهو كسب بشري وليس عقابا من الله، مثل إنسان يتمرد على القانون الأجتماعي ويعرض نفسه على مخاطر العقوبه بإرادته فالقانون ليس مذنبا حين يطبق أحكامه ولكن الإنسان هو من سعى لذلك وأراد النتيجة.
ترتكز الدعوة الكهنوتيه منذ أن عرف الإنسان أن هناك معبد وأن هناك كاهن وعلاقة وظيفية بينهما على حقيقتين يتصورهما الكهنة إنها جزء من ألية التدين، الأولى أن المعبد هو المكان الوحيد الذي يمكن له أن يكون مقر الألهة والرب ولا مكان سواه يليق بهما، وثانيا أن من يمتلك حرية التصرف فيه أو أدارته هو الناطق عن الأله أو النائب عنه، ومن خلال ربط هاتين القضيتين تكونت سلطة الكهنة وتنامت مشاعر السيادة على الناس وما عليهم إلا أن يخضعوا رغبةً ورهبة لهذه النتيجة، وبالتالي فمن لا يؤمن بهاتين الحقيقتين عندهم هو عدو الرب والألهة ولا يستحق أن يكون موجودا أو حيا، بهذا العنوان بدأت عملية الأستمطاء بجناحين الأول أستغلال الدين لأجل التسلط والثانية أستغلال الإنسان بهذه السلطة وركوب ظهره رغما على أنفه، أما علاقة الحقيقة والصدق بهذه الرؤية ومدى مقاربتها بواقع الدين والتدين فهذه مسألة لا أحد يناقشها ولا يمكن للكهنوت أن يشرح للناس كيفية ومصدرية ومشروعية هذا الطرح.
الكثير الكثير من القضايا التي أبتدعها هؤلاء لا يمكن للعقل السليم ولا المنطق التفكيري العلمي والعملي أن يقبل بها، ليست لأنها مصبوغة بطابع ديني ولكنها غير متوافقة أصلا مع المنطلقات النظرية لفكرة الدين المجردة، والغاية الغائية منها تخويف وأستعباد وأستلال العقل الإنساني حين تضعه بين حدي الخوفواللا ثقة، وهنا تبدا عملية الأستمطاء وتنتهي بالظلم والأستعباد باسم الرب والدين، وتأسيس منهج التغريب والتغييب الذي مارسه إبليس أول مرة في جداله الأول مع الله، لقد أستورث هؤلاء الدجالون قيم ومنطق إبليس الذي كان متدينا على الظاهر من الرواية الدينية حتى أراد أن يكون أول من يستعبد الإنسان ويستهين بوجوده، لذا لا أظن أن مفهوم الشيطان الذي هو عدو لله وللإنسان أن يكون هو العنوان الحقيقي لمن يحاول أن يمتهن العقل الإنساني ويحول الإنسان من كائن واجب عليه ومكلف بالتفكير والتعقل إلى بهيمة الأنعام، إنهم الشياطين الذين لا بد من محاصرة منهجهم والأبتعاد عن وساوسهم واللجوء الحتمي لموارد العقل وأليته لغرض النجاة والفوز في الحياة.
إن الإساءة المزدوجة التي مارسها الكهنوت بأعتباره نائبا عن الله والمتحدث بأسمه وأفتراض ذلك كمسلمة لا بد من الخضوع لها بلا نقاش، تكشف لنا حقائق عدة منها أن الله ليس بحاجة لوكيل أو نائب فهو يخاطب الإنسان بالمباشر ومن خلال العقل، ولم يستخدم في خطابة أو دعوته إلى وسيله واحدة هي الرسل والكتاب، أي جعل الكرة في ملعب العقل الإنساني فهو يسمع من الرسل ويقرأ من الكتاب مباشرة، ولا وجود لشيء يخفيه الله عنا وأودعه للكهنوت، والقضية الأخرى أنه حتى في قضية الرسل والأنبياء لم تكن العملية أختيارية للإنسان أن يكون رسول أو نبي، بل جعلها الله من خلال عملية متكاملة تبدأ من توفر الخامة الإنسانية القابلة بالقوة على التماثل مع المهمة والأستعداد العقلي والنفسي لذلك، فلا يجوز لشخص مهما كان ممتلكا لقدرة عقلية أو فكرية أن يكون نبيا أو رسولا أو دعيا بذلك، هذه الحجة يجب أن توجه للكهنوت على أنهم غير حقيقيين وكاذبين بأدعائهم أنهم يمتلكون أسرار المعرفة ومفاتيح علم الرب لوحدهم فقط لأنهم يدعون ذلك.