فايروس الطائفية عند سعدي يوسف


سلمان رشيد محمد الهلالي
الحوار المتمدن - العدد: 5823 - 2018 / 3 / 22 - 12:56
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

فايروس الطائفية عند سعدي يوسف
تعد الفيروسات المصدر الرئيسي للأمراض التي تُصيب الإنسان والحيوان على حد سواء . ويستطيع الفايروس التبلور أكثر من مرّة دون فقدان قدرته على التطفل, ولا يستمر في العمليات الاستقلابية والتكاثر إلا ضمن وجوده داخل خلايا حية يطلق عليها (المضيف الحي) . والفيروسات هي من أنواع الطفيليّات التي تعتمد على خلايا الكائنات الأخرى للحصول على ما تَحتاجه من أحماض نووية وبروتينات، وتنتقل للكائنات الحيّة الأخرى عن طريق الماء والغذاء وغيرها. ويُطلق على عمليّة تكاثر الفيروسات عملية التناسخ . واهم الفيروسات التي تصيب الانسان فيروسات الجدري والإنفلونزا والتهاب الكبد وفقدان المناعة المكتسبة AIDS وغيرها .
واما الطائفية : فهى نسق اقصائي خطير يشمل كل دعوة صريحة او ضمنية الى ارهاب وتهميش وتخوين وتكفير وتشويه الاخر المختلف مذهبيا ودينيا , او هى كل عملية تحريض الى قتل وتهجير وسبي احدى المكونات الاجتماعية واقصائها عن الاداة والحكم والممارسة السياسية في البلاد . وهذا هو التعريف العلمي والموضوعي للطائفية الذي استقصيته من خلال دراسة العشرات الكتب والمقالات الخاصة بهذا الشان , لاننا نعرف ان هناك فهمين للمصطلحات والمفاهيم السياسية والاجتماعية والايديولوجية والفكرية والفلسفية في الوسط الثقافي العراقي :
1 . الفهم الشعبوي البسيط والاعلامي الرائج عند الناس وعامة المثقفين والمتعلمين الذين يفهمون تلك المصطلحات بحسب افقهم المعرفي ومزاجهم النفسي وغرضهم السياسي .
2 . الفهم الموضوعي والحقيقي الذي يعبر عن المفهوم والمصطلح كما هو رائج عند المثقفين الغربيين - او المتفردين من العرب والعراقيين - دون اضافة او تاويل او استغلال سياسي ونفعي .
ولاحاجة الى القول ان الفهم الشعبوي الاول هو الرائج والمنتشر عندنا في العراق بصورة ليست كبيرة فقط , بل وربما تشكل الظاهرة الاعم عند الانتلجنسيا. والامر قد لايعود الى الجهل بتلك المفاهيم والمصطلحات فحسب , وانما الرغبة بتمرير اجندات ذاتية وسياسية وايديولوجية معينة , تهدف الى خلط الاوراق والتمويه والتعمية على المعنى الاصلي والحقيقي لتلك المفاهيم . وهذا الامر ينطبق بصورة كبيرة على مصطلح الطائفية الرائج عندنا الان في الشرق الاوسط والعالم العربي , فالفهم الشعبوي البسيط والساذج هو المحدد عند الانتلجنسيا العراقية , الذي اصبح – للاسف - نسقا سائدا يصعب تعديله او تصحيحه . كما ان السلطات القومية الطائفية والحاكمة قبل عام 2003 قد ادرجت ايضا انماطها ومفاهيمها الخاصة على هذا المصطلح , لغايات سلطوية وترويضية هدفها الاساس ترسيخ السلطة الطائفية والحفاظ على مكتسباتها وهيمنتها على المجتمع العراقي , منها :
1 . اعتبار الشكوى من الطائفية ونقدها وتعريتها وتفكيكها هو نوعا من الطائفية .
2 اعتبار الانتقاد الثقافي والعلمي والموضوعي للطوائف الاخرى نوعا من الطائفية .
3 . المدح والتقدير الموضوعي للطائفة او المذهب هو نوعا من الطائفية .
وكالعادة تلقف المثقفون والمتعلمون العراقيون هذه المفاهيم والمطارحات التي رسختها السلطات القومية الطائفية بعد انقلاب 1963 (كقران منزل) واخذوا يتبارون في تاصيلها وتاكيدها , واضحى تعريف الانسان الطائفي يكون وفقا لهذه المقتضيات السياسية والمتبنيات السلطوية , وكل ذلك من اجل خلط الاوراق واستمرارية الانظمة الطائفية والاقصائية في حكمها وتاصيل سلطتها وهيمنتها , ومنع الشكوى منها او تعريتها وفضحها . (ينظر مقالنا في موقع الحوار المتمدن – المثقفون العراقيون والطائفية) .
تعد الطائفية من اهم الامراض التي تصيب المجتمعات بالتحلل والفتن والاحتراب , وتنتقل من خلال العدوى الى اغلب فئات المجتمع وطبقاته المتعددة , وتشترك مع الفيروسات بعدة نقاط من التشابه , اهمها :
1 . ان الطائفية في المجتمعات غير العقلانية والمتحضرة والليبرالية لاتموت نهائيا , وانما تبقى مثل الفيروسات في مرحلة (الكمون) حتى تجد البيئة والظروف الملائمة للنمو والفاعلية والاستقلاب , فتحيا من جديد لتساهم في تدمير الاجسام التي تعيش فيها , وربما تقضي عليها .
2 . انها معدية في نشر اوبئتها وامراضها وانتكاساتها نحو الافراد الاخرين من ابناء المجتمع الذي اصيب بالعدوى .
3 . ان الفيروسات - وكذا الامر مع الطائفية - تحتاج الى (مضيف حي) من اجل ان تنمو او تعيش عليه كالصراعات السياسية مثلا او تحريض رجال الدين من وعاظ السلاطين والمتخلفين او بعض المثقفين والمتعلمين الموتورين او المخصين .
وتجلى فايروس الطائفية بصورة ظاهرة في العراق , فهو يعيش في حالات معينة مرحلة (الكمون) المؤقتة , الا انه سرعان ماينبعث من جديد عند وجود (المضيف الحي) ناشرا العدوى والاوبئة في كل مكان , واهم تجليات هذا المضيف وتمظهراته الاساسية هما (الاستبداد والارهاب) , فهما (الثنائي المرح) الذي تنتعش بهما الطائفية وتنمو وتتغول الى افاقها البعيدة والمترامية . وشهدنا هذا الانبعاث الطافح بكل قوة في عهد الدكتاتورية القومية والبعثية (1963-2003) ومااعقبها من تداعيات وانتكاسات قام بها الارهاب التكفيري والسلفي وحاضنته البعثية والطائفية , وداعميه من الحكومات العربية والخليجية تحديدا , وخاصة بعد تغيير المعادلة السلطوية القائمة على حكم الاقلية السنية بعد عام 2003 , حيث شهدنا خلالها تعرية شاملة للكثير من النخب المثقفة والمتعلمة التي سبق لها ان تسامت الى فضاء الايديولوجيات العلمانية واليسارية والثورية طيلة العقود الماضية التي اعقبت الحرب العالمية الثانية , الا انها ارتكست الى مستنقع الطائفية الاسن ودهليز العنصرية العفن , بسبب انبعاث هذا الفايروس الذي كان في مرحلة الكمون والخمول في عقولهم المريضة , وتجلى ذلك من خلال ممارسات مخجلة لاحصر لها , كان اهمها تخوين اغلبية الشعب العراقي من الشيعة والكورد , واتهامهم بالعمالة والتبعية والاباحية والانحلال والاعجمية وغيرها , وتبرير استهدافهم من قبل الارهابيين وتبرير اعمالهم او تبييض صفحاتهم السوداء .
وبالطبع نحن نقصد هنا الطائفية بمعناها العلني الصريح , وليس نمطها الخفي الذي استحكم على تاريخ العراق خلال المرحلة الاسلامية بمراحلها المتعدة (الاموية والعباسية والعثمانية) , ومن ثم الدولة الوطنية الحديثة بعد 1921 وحتى انقلاب عام 1963 الذي شهد تحولا من هذا النمط الطائفي الخفي الى المسار العلني الصريح , من خلال استهداف الاغلبية الشيعية وتشويه تاريخها ومواقفها واتهامها بالشعوبية والتبعية , ناهيك عن حملات الاعتقال والاقصاء والتهجير والاعدام والابادة المنظمة , تصاعدت الى مديات بارزة وصريحة بعد عام 2003 الى الاستهداف المباشر من خلال التكفير والعمليات الارهابية والقتل على الهوية والتهجير والخطف وغيرها .
وكان اهم من تلك الشخصيات الادبية المعروفة بالوسط الثقافي العراقي التي ارتكست الى مستنقع الطائفية الاسن ودهليز العنصرية العفن هو الشاعر سعدي يوسف , الذي نشر قصائد وتعليقات ومقالات طائفية وعنصرية بغيضة , لاتخرج من الانسان المنحط والبدائي والسوقي , ناهيك عن الانسان المثقف والشاعر المتميز والمجدد , الذي سبق ان تبنى المنظورات الايديولوجية اليسارية والثورية اكثر مراحل حياته . وقد شكل عمله هذا صدمة في الوسط الثقافي استعصى على التفسير والتحليل , حتى ان الكثير من اصدقاء الشاعر او محبيه ومريديه رفضوا التفسير الطائفي للنصوص , واعتبروها تحمل تاويلا رمزيا لاتعكس الظاهر من الكلام او المعنى الدارج , وانما مفردات ونصوص عميقة المعنى والفهم , تعبر عما يجول في خاطر الشاعر من معاناة والم واغتراب , بسبب سوء الاوضاع السياسية والثقافية والاجتماعية التي يمر بها وطنه الحبيب تحت حكم العملاء والقرود (الكورد) والصفويين !! . وقد اختلف المطلعون والمثقفون بعامة عن اسباب هذه النصوص الطائفية المشينة وبواعثها الحقيقية , وذهبوا من خلال ذلك الى تفسيرات عدة يمكن مراجعتها في مواقعها الثقافية الخاصة على الانترنت , الا اني ادرجت احتمالات متعددة لذلك السلوك اهمها :
الاحتمال الاول : ان الشاعر سعدي يوسف اصيب بامراض الشيخوخة كالزهايمر او الخرف , (الزهايمر الطائفي) لانه بلغ من العمر عتيا , حيث تجاز عمره الثمانين عاما . وذكروا ادلة عديدة بهذا الصدد منها التناقض الصريح بين المواقف التي ينادي بها الان وبين اراءه الشخصية والسياسية السابقة , اهمها : دعوته لطوني بلير رئيس الوزراء البريطاني لضرب العراق واسقاط نظام صدام حسين عام 2003 , ثم تراجعه عن ذلك بعد ان ظهرت بوادر الحكم التعددي والديمقراطي بحسب التمثيل النسبي الذي اعطى لجميع المكونات الاجتماعية حجمها الحقيقي , فانقلب (180) درجة من المواقف , وتحول بقدرة قادر من عميلا انكليزيا الى وطنيا مقاوما وثوريا اصيلا , واخذ ينشر القصائد ضد الاحتلال الامريكي وعملائه المعروفين تقليديا في المتخيل العربي والاسلامي (الشيعة والكورد) .
الاحتمال الثاني : ان الشاعر يوسف اصيب بمرض نفسي - اجتماعي يدعى (الرغبة بتدمير الذات) وهو عبارة عن متلازمة تصيب الانسان الطاعن بالسن بسبب تعدد الامراض والالام والاحباطات والانتكاسات التي تصيبه في اواخر عمره , فيسعى بهذا الشان الى تدمير ذاته وتشويه سمعته والانتقاص منها , من خلال سلوكيات غرائبية تجلب له السخرية والاستهزاء والتوبيخ من الاخرين . وتتجلى هذه الحالة في اغلب الاحيان عند العامة من كبار السن الى تعمد قضاء حاجتهم على انفسهم , واذية افراد العائلة من هذا التصرف الطفولي , وتكرار ذلك مرات عدة رغم العتب والتوبيخ والاهانة التي يتعرضون لها بسبب هذا العمل . ويقول الباحث النفساني الدكتور ايمن الرفاعي بهذا الصدد (يسعى الشخص المريض بمتلازمة (تخريب الذات) إلى هدم أي نجاح يكون قد حققه في السابق. ليس هذا فحسب، فنراه حريصا أيضا على وضع العوائق وتنصيب العراقيل التي تحول دون تحقيقه لأي نجاح في المستقبل. يحدث ذلك بطريقة لا إرادية وبلا وعي، فهو لا يعرف أنه يقضي على نجاحاته وإلا ما فعل ذلك. وهناك تفسيرات عديدة يقدمها علماء النفس لهذا المرض الخطير، فعلى سبيل المثال يطرح هؤلاء سببا شائعا وهو أن هذا الشخص يمر بالعديد من خبرات الفشل والتي تترك بداخله انطباعا بأنه غير جدير بالنجاح) .
الاحتمال الثالث : ان الشاعر سعدي يوسف وبعد ان نضب معينه الشعري وقل ابداعه الادبي وتالقه الشخصي , بسبب عامل الزمن وتغير الذائقة الشعرية والمزاج الثقافي العام , وبعد ان وظهرت بوادر الانزواء والتلاشي عنه , اخذ يبحث عن الاضواء في مسارات اخرى تشكل في العالم العربي جدلا محتدما ونقاشا محموما وهى القضية الطائفية , فدخل هذا المعترك ليس من خلال انتقاد هذه الظاهرة او التسامي عنها , لان هذا المسار اتخم بالكتابات والدراسات والمواقف الشخصية والسياسية والاعتدالية من قبل الكثير من المثقفين العرب والعراقيين , وانما من خلال الارتكاس بهذا المستنقع الاسن والتماهي معه وتاجيجه واثارته بالاسلوب السوقي والعصابي السائد في الاوساط الشعبوية العربية , وهو الامر الذي نجح في اعادة الاضواء اليه من جديد .
الاحتمال الرابع : ان سعدي يوسف تعرض للخصاء البعثي ابان تسلمهم السلطة بعد انقلاب 1968 من خلال التهديد والاغراء والترهيب والتعذيب , وظهرت اثاره العصابية الان بسبب الضعف والكبر . فكلنا يعلم ان الانسان المكبوت من فكرة معينة او ذكرى سلبية يستطيع السيطرة عليها ومنعها من التاثير عليه او خروجها الى السطح مادام فاعلا وموضوعيا وعقلانيا , الا ان اعراضها وتداعياتها تبرز الى العلن عندما ينتابه الضعف والعجز والمرض . وقد حدثني احد الثقاة المعاصرين له في شارع المتنبي (رافضا ذكر اسمه) ان الشاعر سعدي يوسف اعتقل لعدة ايام وتعرض للضرب والاهانة والاعتداء الشخصي بما يمس كرامته من قبل رجالات الامن , واشتكى ذلك لميشيل عفلق الذي نصحه بالهرب الى خارج البلاد , لانه لايستطيع ضمان سلامته من صدام حسين واتباعه . وقد اعترف سعدي يوسف بممارسات البعثيين واستهدافهم للشيوعيين في عقد السبعينيات من خلال وسائل متعددة اهمها (الاغراق بالعرق) عندما قال (ان البعثيين قتلوا الشيوعيين بالادمان على الخمر والسكر والعربدة) , وذكر اسماء معينة كامثلة على نجاحهم بهذا السلوك من قبيل الشاعر عبد الامير الحصيري (1942-1978) والشاعر كزار حنتوش (1945-2006) والشاعر جان دمو (1943-2003) (والمفارقة ان سعدي يوسف نفسه كان مدمنا ولاندري لماذا عزل نفسه؟) . واكد ايضا اصرار البعثيين على ترويض الشيوعيين واخصائهم وتدجينهم في ذلك الوقت من خلال تهديدهم بالقول (لو ان لينين بعث حيا لجعلناه بعثيا) . وهذا الخصاء والتدجين - للاسف - لم يشمل سعدي يوسف فقط , بل الكثير من الشيوعيين السابقين الذين عاصروا الجبهة الوطنية والقومية التقدمية (1973-1979) , وتعرضوا للاعتقال والاهانة والتعذيب خلال تلك المرحلة او قبلها , الا ان التماهي مع الجلاد والدفاع عنه والخضوع لمركزيته ومنظوراته الايديولوجية والسياسية كان السمة الاساسية السائدة في كتاباتهم واراءهم ومطارحاتهم , ويكفي عندنا نموذج ذلك الكوردي الفيلي الشيعي عزيز الحاج , الذي تعرض للاعتقال التعذيب والاعتداء من قبل البعثيين عام 1969 ابان قيام اتباعه باعمال مسلحة ضد النظام البعثي الحاكم , الا اننا نجد انه استمات لاحقا في الدفاع عن هذا النظام والنيل من اعدائه ومدحه وتبرير افعاله المخزية في المجلات والصحف العراقية والعربية خلال عقدي السبعينات والثمانينات , واعاد الموقف نفسه الان بعد ان بلغ من العمر عتيا في الدفاع الضمني عن المركزية السنية وتبرير الارهاب وافعاله في مقالاته في موقع (ايلاف) السعودي الطائفي . وهذه الاعمال والمواقف كلها تندرج ضمن العقدة التي اصيب بها الكثير من مثقفي الاقليات الذين يعيشون في المحيط العربي والاسلامي , والتي ذكرناها سابقا في مقالنا (عقدة كيس الحاجة عند المثقفين الشيعة والكورد والمسيحيين) في موقع الحوار المتمدن والمعروفة بمتلازمة استوكهولم .
الاحتمال الخامس : ويرى ان سبب جرأة الشاعر سعدي يوسف على الاغلبية الشيعية في العراق وتجاوزه للتابو الطائفي والاستغراق به من خلال الانحياز الى جماعة معينه وتفضيلها على الاخرين , انما هو يرجع لمعرفته بالهزيمة الذاتية والمعرفية والجبن والتخاذل الذي تتميز به الانتلجنسيا الشيعية المعاصرة , واستحالة قيامها بالرد عليه او الدفاع عن جماعتها واهلها وطائفتها , او حتى دفاعها عن عراقيتها واصالتها , فهم منتهكون ومخترقون ومدجنون ومخصيون بصورة تجعلهم من الاستحالة بمكان الرد او الاحتجاج - او حتى رفع الاصوات - بالنقد العلمي والموضوعي عنها . فمن المعروف ان المثقفين والمتعلمين في العراق ينقسمون الى فئتين :
الفئة الاول : المثقفين الشيعة : وهم مصابين بعقدة الخصاء امام الاب الميت والمركزية السنية وعندهم احساس بالعجز والدونية والنقص امام الاخر المختلف بالثقافة والتوجه , ولايستطيعون بالتالي الرد على سعدي يوسف او غيره , بل انهم سبق ان صمتوا عن مقالات صدام حسين الشهيرة في جريدة الثورة في اعقاب الانتفاضة الشعبية عام 1991 رغم انه وصف نسائهم واعراضهم بالانحلال والاباحية والسقوط , فمن باب اولى - بالتالي - ان يصمتوا عن قصائد سعدي يوسف الطائفية بحجة التسامي عن هذه المنظورات المتخلفة والبدائية الى المطارحات التقدمية والعلمانية واليسارية , او بحجة الابهام والرمزية فيها , حتى لو نعتهم صراحة في احدى قصائده بالكاولية , (ينظر قصيدة – عراقيون ... اننا الكاولية في الملحق) وهو اغرب السلوكيات الجماعية , (وافضل اختراع لكيمياء عقل المخصي) , فمن المعروف بان الغجر لو وصفهم شخص ما بالكاولية فانهم يرفضون ذلك بشدة , ويعترضون على هذه التسمية , فيما نجد ان الكثير من المثقفين الشيعة قد وصفهم العديد من الكتاب والسياسيين البعثيين والطائفيين بهذه المفردة البغيضة , الا انهم لايردون على ذلك او يهتمون , واخشى انهم في ضمائرهم المدجنة قد صدقوا بكل ماتذكره السلطات الطائفية عنهم بهذا المجال !!! .
القسم الثاني : المثقفين السنة : ويتميزون بانهم اكثر الناس اعتزازا بالهوية والمذهب والطائفة الاجتماعية التي يرجعون اليها , وهم متصالحون مع ذواتهم بهذا المسار , وكل ذلك بفضل السلطات الحاكمة التي خلقت عندهم هذا الاعتزاز والعنفوان . ويختلفون عن المثقفين الشيعة من المخصيين بان الهوية لم تلقي عليهم اي تبعات سلبية لاشعورية , لانهم في الاخير ليسوا من الاقليات . فهم يعتبرون انفسهم الوطنيون والقوميون والاسلاميون الحقيقيون , وان جميع المفاهيم والمتبنيات العصرية والحديثة لاتتناقض مع المذهب السني الذي يحملونه ابدا , لذا ينعدم عندهم هذا الاغتراب او الازدواج او التناقض بين اشتراطات الهوية من جانب والمطارحات العصرية والعلمانية من جانب اخر . ويتبنى اغلبهم الارثوذكسية الاسلامية والعروبية او المركزية السنية ضمنيا - او حتى ظاهريا - لانها توفر له المكانة والهيمنة والنفوذ . كما ان التطابق بين الظاهر والباطن او بين الذات والموضوع يشكل وحدة عضوية حقيقية في متبنياتهم الفكرية والايديولوجية والسياسية , فلايوجد ذلك الانفصام بين ان يكونوا (سنة) من جانب , او بين ان يكونوا شيوعيون او قوميون او وطنيون من جانب اخر , بل هم (سنة) اولا في مواقفهم الثقافية والسياسية , لايعبرون الهوية ابدا , ولاتهمهم الشعارات اليوتوبية والخطابات الوحدوية والمجاملات التقريبية , فهم يطلقون المواقف كما هى دون مواربة او خضوع او تملق للسيد الوهمي او الاب الميت – كما هو شائع عند الاغلبية من المثقفين الشيعة – الذين يحتسبون دائما ان هناك رقيبا داخليا يعد عليهم انفاسهم , ويقرا لهم بين السطور كتاباتهم , ويحدد عليهم مواقفهم ومطارحاتهم الفكرية والايديولوجية , ويفرض عليهم بين الحين والاخر المحددات السياسية والايديولوجية التي يريدها او يبغيها , اهمها عدم التجاوز لما هو مقرر لهم من التابوات والخطوط الحمر من الافكار والاراء .
ان ابلغ دليل على التطابق بين الظاهر والباطن عند الانتلجنسيا السنية هو الموقف من قصائد الشاعر سعدي يوسف الطائفية , فانك لاتجد حتى الان سنيا واحدا انتقده او هاجمه او طالبه بالتوقف والاعتذار - ان لم يكن العكس - فقد امتدحه الكثيرون - او برروا فعله - امثال الشاعر البصري طالب عبد العزيز والكاتبة الموصلية منال الشيخ . واما الدكتور سيار الجميل فقد ادرج في احدى كتاباته لقاءه الخاص مع سعدي يوسف باسلوب رومانسي وثقافي وادبي هادىء ابان اوج الازمة والضجة عند نشره تلك القصائد الطائفية , وبالطبع لم ينتقده الدكتور الجميل قط او يتهمه بالطائفية كما فعل مرات عدة مع اخرين , وانا على يقين لو ان احد الكتاب المعروفين اخطا وهاجم اهل السنة , لكان له موقف مغاير واسلوب مختلف , لانه في الاخير ليس شيعيا منتهكا او مروضا مثل محمد مظلوم وكاظم الشاهري واسعد البصري وداود سلمان الشويلي وزهير التميمي وغيرهم ممن برر قصائد يوسف ودافع عنها باستماتة رغم نعته لمجتمعهم واهلهم باقسى المفردات واحطها واهمها (الكاولية) .
في الواقع ان ماذكرناه عن الانتلجنسيا الشيعية المخصية لايشمل جميع المثقفيين والمتعلمين العراقيين من ابناء هذه الطائفة , وانما يشمل الاغلبية الذين قد تشكل مواقفهم (ظاهرة) عامة , وربما تاخذ ثلاث ارباع التوجهات السياسية والايديولوجية التي يطلقونها , ولاحاجة التي تبيان مظاهرها وتجلياتها وتداعياتها لانه سبق ان ذكرنا ذلك في مقالات عدة , الا اننا لانستطيع ادراج اسمائهم ليس للحرج من وراء ذلك فحسب , وانما لكثرتها وتعددها وانتشارها (وهناك مشروع يقوم به احد الاخوة بهذا الصدد) , فيما ان المثقفين والكتاب العراقيين المتفردين والمعرفيين الذين تساموا عن الايديولوجيا والترويض وتماهوا مع التنوير والتحديث والعقلانية والموضوعية يمكن عدهم ومتابعتهم واهمهم : (صادق الطائي وعبد اللطيف الحرز وعامر عبد زيد الوائلي وثامر عباس وصلاح الجابري وسرحان الركابي وعلي عنبر السعدي وعبد الخالق حسين واحمد عبد السادة ويوسف محسن وصادق ناصر الصكر وعلي المرهج وعلي طاهر الحمود وحسن ناظم وابراهيم الحيدري وسليم الوردي وعلي حاكم صالح وفالح عبد الجبار وياسر جاسم قاسم وحميد الهاشمي وميثم الجنابي وعبد الاله توفيق الفكيكي وعلي عبد الامير علاوي و لاهاي عبد الحسين الدعمي ولؤي خزعل جبر ورسول محمد رسول ومحمد عبد الحسن وعبد الحسين الطائي وجمعة عبد الله مطلك وجعفر نجم نصر وحسين القاصد وكنعان مكية وعلي المؤمن ومحمد زكي ابراهيم وسامي زبيدة وكريم شغيدل وعبد الجبار الرفاعي وطالب محمد كريم وجابر حبيب جابر وحسين درويش العادلي وشاكر شاهين وناجي الركابي ومحمد غازي الاخرس وفالح مهدي وسعيد الغانمي ورائد جبار كاظم ونصيف فلك ونصير المهدي واياد الزهيري واحمد الموسوي وامر علي وعلي وتوت وغيرهم)(وطبعا هناك اخرين فاتني ذكرهم واعتذر لهم) .
الاحتمال السادس : ان فايروس الطائفية (الكامن) او (الخامل) هو في الاصل مضمر عند الكثير من المثقفين العرب - ومنهم الشاعر يوسف - وان هذا الفايروس انبعث من جديد بعد ان وجد (المضيف الحي) والبيئة الملائمة , والمتمثل بتغيير المعادلة الطائفية السابقة في الادارة والحكم في العراق عام 2003 وتصاعد حمى الاستهداف والهيستريا الطائفية عند الكثير من اهل السنة بعد فقدانهم السلطة والمكاسب الحكومية . فانساق يوسف مع تلك الاوكسترا الطائفية العربية التي اخذت تعزف على كل الجبهات وفي كل المسارات (الارهابية والاعلامية والتكفيرية والاقتصادية والسياسية) واتخذ له دورا هاما بهذا المجال , تمثل باستغلال راسماله الرمزي وتاريخه الشخصي لمهاجمة الاغلبية الشيعية والكوردية والنيل منها بالتخوين والعمالة والتبعية , واقتصار الصورة المثالية عن العراقي الوطني في اطار الاقلية السنية العربية .
وفد يتعجب البعض من هذا الطرح - وربما يسخر منه - على اعتبار ان سعدي يوسف – وان كان سنيا من البصرة – الا انه عاش في بيئة جنوبية شيعية عرفت بالتعايش والاعتدال والسمو , وليس ضمن ثقافتها او افقها المعرفي اي مجال للطائفية والاقصاء او الاستهداف للاقليات والمكونات الدينية والاثتية الاخرى , وحتما انه سيتاثر بتلك الثقافة والبيئة , فضلا عن ذلك ان سعدي يوسف سبق له ان ارتدى اقنعة الشيوعية واليسارية الثورية طوال عقود طويلة , وناضل من اجل الكادحين والفلاحين والمستضعفين ضد الاقطاع والراسمالية والامبريالية !! في قصائده وكتاباته , وتعرض بسبب ذلك للاعتقال مرات عدة , وهاجر الى دول عدة في خارج العراق حتى استقر المقام (بالشيوعي الاخير) في كوريا الشمالية !!! (عفوا في لندن منبع الراسمالية) , وليس من المعقول بالتالي او المنطقي ان يرتكس الى اتون الطائفية والبنى التقليدية الاخرى , التي كان من اهم اهداف تلك الايديولوجيات الثورية واليسارية , مواجهتها واقصائها عن المسار المعرفي والاجتماعي والسياسي في العالم العربي .
في الواقع ان علامة الاستفهام الكبرى التي عرضها الاخوة الكتاب حول هذا الراي لاتشملنا نحن القراء الذين اعتمدنا منهجية الدكتور علي الوردي في تحليل الشخصية والمجتمع العراقي بعامة وفئة الانتلجنسيا او عامة المثقفين والمتعلمين بصورة خاصة , وانا على يقين لو ان الدكتور الوردي كان حيا لما استغرب هذا الموقف من الشاعر سعدي يوسف وارتكاسه لمستنقع الطائفية , وربما ضحك في سره على ذلك الاعتراض الذي ذكرناه سابقا , لانه سبق ان بين في مؤلفاته المتعددة ان الايديولوجيات والخطابات الثورية والمبادىء الحديثة التي وفدت على العراق هى مفاهيم (طارئة , اذ هى لم تنبعث من طبيعة ثقافته الاجتماعية الاصيلة . فهى قد اتخذت شكل محفوظات واناشيد وهتافات وشعارات والفرد يتعلمها في المدارس او يقراها في الصحف والكتب او يسمعها في الاذاعات , او تلقى عليه في المظاهرات والحفلات . وهى تبقى فعالة في مجال الكلام والجدل والانتقاد فقط , ومن الصعب ان تتغلغل في اعماق النفوس . والفرد قد يجادلك على اساسها , انما هو لايستطيع ان يغير سلوكه بها الا في نطاق محدود جدا) وقال ايضا (ان احدهم قد يتمشدق بارقى ماجاءت به الحضارة من مبادىء ومفاهيم ولكن ذلك ليس سوى طلاء سطحي حيث تكمن تحته شخصيته الزقاقية) (وهل يكون افضل وصف ينطبق الان على شخصية سعدي يوسف من الزقاقية ؟) . كما اكد الوردي ان الوعي السياسي في العراق متقدم جدا عن الوعي الاجتماعي , وهو الامر الذي يفرز مظاهر الازدواج والسلوك المتناشز التي نشاهده يوميا الاف المرات في مقالات وكتابات وتعليقات العراقيين في مواقع التواصل الاجتماعي او غيرها , فهم مثلا يريدون دولة مدنية وعادلة وراقية على غرار دولة السويد , ولكنهم يتصرفون معها على غرار سلوكيات وافاعيل اجدادهم مع الدولة العثمانية من قبيل الغش والخداع والاحتيال والتسيب والفساد والفوضى والاستئثار وغيرها , وهو الامر الذي وجدناه في مواقف سعدي يوسف , فوعيه السياسي والايديولوجي متقدم عن وعيه الاجتماعي الطائفي البدائي الذي مازال يدور ضمن افق العصور الوسطى , فالشاعر سعدي يوسف اثبت بالدليل القاطع صحة اطروحات الدكتور الوردي , وهو التطبيق العملي لها والدليل العياني عليها , وهو يدحض الاراء التي تقول ان اراءه لم تعد صالحة لتفسير الشخصية العراقية . الم يقل في كتابه (وعاظ السلاطين) (بدات الطائفية في العراق تاخذ شكلا جديدا .....حيث ضعفت نزعة التدين في اهل العراق وبقيت فيهم الطائفية , حيث صاروا لادينيين وطائفيين في ان واحد) , الا ينطبق هذا القول على الملحد او اللاادري واللاديني والمتحرر من الغيبيات والطقوس سعدي يوسف ؟؟ .
واما اذا تركنا المسار الفكري والايديولوجي ورجعنا الى المسار الاجتماعي والنفسي في تحليل سلوكيات الشاعر سعدي يوسف الطائفية , فان الدكتور الوردي سبق ان بين اكثر من مرة ان الانسان ليس عبارة عن ذات واحدة - كما يتوهم الكثير من المثقفين العراقيين - بل هو عبارة عن (ذوات متعددة) في شخصيته تتميز بالتعقيد والغرائبية والازدواجية , فالذات الشاعرة والرومانتيكية لسعدي يوسف هى غيرها الذات الطائفية والمتخلفة , وهى غيرها الذات الثورية والمؤدلجة , وهى ايضا غيرها الذات السكيرة والحقودة , ويمكن له بالتالي ان يجمع النقائض والغرائبيات . وهو جواب - او دليل علمي – للرد على ما طرحه البعض من اصدقاء الشاعر ومحبيه ومريديه , الذين بينوا : ان من الاستحالة بمكان للشاعر يوسف الذي ينشر القصائد العاطفية والانسانية المذهلة والمتميزة , ان يرتكس الى مستنقع الطائفية البغيض والسوقي . وبالطبع ان هؤلاء المعترضين ينطلقون من الاطروحة الارسطية القديمة التي تفترض ان للانسان هوية ذاتية موحدة , وشخصية بسيطة غير مركبة ولايمكن لها الانقسام والتشظي , فيما ان علماء النفس والمدارس الحديثة قد بينت العكس من ذلك تماما .
(الملحق)
سعدي يوسف 31 تشرين الأول 2015botero4520
قصيدة : عراقيون .... اننا الكاولية
إننا الكاوِلِيّةُ …ه
لم نَعُدِ ، اليومَ ، شعباً .ه
إننا الكاوِلِيّةُ
لكنْ بدونِ أغانٍ
ولا نِسوةٍ يتراقَصْنَ ، من أجْلِ فِلسَينِ ، بين الخِيام
ولا عرَباتٍ …ه
لقد قالَها الربُّ ، مخطوطةً ، مثل ألواحِ موسى
على الطائراتِ الـمُغِيْرةِ :ه
Back to stone age!
وها نحنُ ، أولاءِ ، عُدْنا إلى عصرِنا الحجريِّ
ولكننا ، سُعَداءُ تماماً ، بعصرٍ ، لنا ، حجريٍّ …ه
نعَم !ه
نأكلُ الرزَّ بالحمِّصِ الفردِ ، والقِيمةِ الفارسيّةِ (الدلالة واضحة من يقصد)
نلطِمُ حتى يسيلَ الدمُ (دلالة اخرى ايضا)
نمضي إلى حتْفِنا سُعَداءَ (دلالة مؤكدة)
كما يفعلُ الكاوِلِيّةُ …ه
لكنْ بدونِ أغانٍ
ولا نسوةٍ يتراقَصنَ بين الخيامِ
ولا عرباتٍ …ه
لقد قالَها الربُّ :ه
Back to stone age !