سوريا والاحتلالات الخمسة


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 5815 - 2018 / 3 / 14 - 10:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


مصيبة سوريا اليوم تفوق كل ما شهدته منذ إحلال السيطرة العثمانية عليها قبل نصف ألفية، أي منذ أن وقعت بلاد الشام لأمد طويل تحت سيطرة إمبراطورية واحدة بعد أن كانت حلبة لنزاعات متعددة تصارعت فيها قوى خارجية مختلفة من إفرنج وأيوبيين وتتار ومماليك. والحال أن سوريا اليوم تئنّ تحت وطأة خمسة احتلالات أجنبية، هي بترتيبها زمنياً حسب تاريخ بدئها: إسرائيلي وإيراني وأمريكي وروسي وتركي.
إن أخطر هذه الاحتلالات بلا منازع أولها، الصهيوني، لأنه بدأ قبل أكثر من نصف قرن وترافق منذ ما يناهز أربعين عاماً بضمّ رسمي للجولان المحتل. وقد بدأ الاحتلال الإيراني قبل خمس سنوات تحديداً، أي منذ معركة القُصيْر التي دخلها «حزب الله» بوصفه فيلقاً لبنانياً من فيالق الجيش الطائفي الإقليمي الذي تديره طهران، ثم لحقته فيالق أخرى قادمة من العراق وإيران (من هذا البلد الأخير، قوى مؤلفة من لاجئين أفغان إلى جانب عسكريي «حرس الثورة» الإيرانيين) وحتى باكستان. وتدلّ كافة المؤشرات على أن هذا الاحتلال الإيراني مشروع طويل الأمد، إذ أنه يندرج في استراتيجية تقوم على إحكام سيطرة إيران على تواصل جغرافي يمتد من حدودها الغربية حتى ساحل البحر المتوسط. وخلافاً للعراق حيث تعتمد السيطرة الإيرانية على غلبة قوى طائفية محلية وفيّة لطهران، مثل هذه القوى من السوريين غير قادر بتاتاً على السيطرة على سوريا، الأمر الذي يجعل من تواجد مزيج من القوى الإيرانية وقوى أعوانها الإقليميين الخيار الوحيد أمام طهران لضمان ديمومة سيطرتها.
أما الاحتلال الأمريكي، فقد بدأ بتدرّج بعد شنّ الائتلاف الدولي الذي قادته واشنطن حربه على تنظيم داعش. وهذا الاحتلال محدود عددياً، يقتصر على ما يقارب ألفي جندي، لأن مهمته ليست احتلالية بحصر المعنى، بل تقتصر على مساندة القوى الكردية والعربية المحلّية العاملة تحت لواء «قوات سوريا الديمقراطية». وترى واشنطن في هذا الفصيل حليفاً تستطيع الاتكال عليه ليس لفعاليته العسكرية وحسب، بل لأن مصلحته الخاصة به تقضي بإحكام سيطرته على مناطق انتشاره. فتسانده واشنطن ليس فقط كسدّ منيع أمام انبعاث تنظيم داعش وإعادة امتداده شرقي نهر الفرات وفي منطقة منبج، بل أيضاً وبالدرجة الأولى كسدّ أمام امتداد الانتشار الإيراني إلى تلك المناطق. وخلافاً لطهران التي لا يمكنها أن تثق، لا عسكرياً ولا سياسياً، بقوات نظام آل الأسد، فينبغي عليها بالتالي الاعتماد على دخلاء إلى الساحة السورية، تستطيع واشنطن أن تعتمد على «قوات سوريا الديمقراطية».
وقد بدأ الاحتلال الروسي في عام 2015، عندما خرجت القوات الروسية من قاعدة طرطوس البحرية التي بنتها منذ بداية حكم آل الأسد في مطلع السبعينيات، وأضافت إليها قاعدة جوّية جديدة بنتها في حميميم ودشّنتها قبل بدء مساهمتها المباشرة في الحرب الدائرة في سوريا بوقت قصير.
ولا مجال للشكّ في أن التواجد العسكري الروسي في سوريا الذي يعود أصله إلى ما يقارب نصف قرن يندرج في مشروع طويل الأمد، إذ تنظر روسيا إلى سوريا كمحطة استراتيجية بالغة الأهمية بالنسبة لها على ساحل البحر الأبيض المتوسط وعلى مقربة من الخليج النفطي والغازي.
وتنضاف إلى ذلك اعتبارات اقتصادية بحتة هي حقل الغاز الواقع في البحر المتوسط أمام الساحل السوري والذي تنوي روسيا أن تلعب دوراً رئيسياً في استغلاله، والسوق العظيمة التي يشكّلها إعمار سوريا من جديد عندما تنتهي الحرب فيها، وقد ضمنت موسكو لنفسها حصة الأسد (بمعنيي التسمية) في هذا المشروع.
أما الاحتلال التركي، فقد بدأ في خريف عام 2016 بالتزامن مع الهجمة التي شنّها التحالف الإيراني/ الروسي/ الأسدي على شرقي حلب. وقد تم بالتواطؤ مع تلك الهجمة، إذ أن تركيا دخلت الأراضي السورية في عملية «درع الفرات» بضوء أخضر من موسكو مقابل توقفّها عن دعم مقاتلي المعارضة السورية في شرقي حلب. وكذلك فقد شنّت أنقرة قبل شهرين هجمتها الثانية، التي أسمتها «غصن الزيتون» واستهدفت بها منطقة عفرين في الشمال السوري، بضوء أخضر من موسكو (التي سحبت قواتها من تلك المنطقة لفسح المجال أمام الاحتلال التركي) وبالتزامن والتواطؤ مع الهجمة التي شنّها التحالف الإيراني/ الروسي/ الأسدي على منطقتي إدلب والغوطة الشرقية.
وإذا كان ممكناً لأنقرة أن تسحب قواتها من مناطق الأغلبية العربية على حدودها السورية وتتكل فيها على القوى التابعة لها، العاملة تحت اسم «الجيش السوري الحر» والمؤلفة من عرب وتركمان، فإنها باحتلالها لمنطقة عفرين ذات الأغلبية الكردية قد خلقت وضعاً لا تستطيع الاعتماد فيه على «الجيش السوري الحر». فمن شبه المؤكد أن «وحدات حماية الشعب» الكردية ستكون قادرة على استرجاع سيطرتها على منطقة عفرين لو انسحبت القوات التركية منها. وهي وحدات مرتبطة، كما هو معلوم، بقوات «حزب العمال الكردستاني» الذي تعتبره أنقرة عدوّها اللدود، وقد غلّبت عداءها له ولحلفائه السوريين على خصومتها مع نظام آل الأسد وغدت تُبدي استعدادها لطي صفحة الخصومة مع هذا الأخير.
مأساة سوريا هائلة، ومن الأكيد أن البلاد لن تستعيد سيادتها قبل زمن طويل. فالتخلّص من الاحتلالات الخمسة، أو حتى من الاحتلالات الأربعة الحديثة إذا أخذنا بعين الاعتبار كون موازين القوى والأوضاع السائدة لا تسمح بالحلم باستعادة الجولان المحتل في المستقبل المنظور، التخلّص من الاحتلالات الأربعة الحديثة بمجملها بات مستعصياً تماماً في الأمد القصير. وجلّ ما يمكن تأمله في الأمد المتوسط أو البعيد هو اتفاق دولي بين واشنطن وموسكو يقضي بانسحاب كافة القوات الأجنبية التي دخلت سوريا بعد عام 2011، الأمر الذي يطال القوات التابعة لإيران والقوات الأمريكية والتركية، على أن تحل محلّها قوات حفظ سلام دولية تشكّل القوات الروسية عمودها الفقري. هذا الاتفاق ترغبه إدارة ترامب، غير أنه يرتهن بصفقة شاملة بين الولايات المتحدة وروسيا على كافة الجبهات الدولية، الأمر الذي يبدو مستبعداً تماماً في الوقت الراهن.