المثقف العربي بين مطرقة الواقع وحلم الفكر


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5814 - 2018 / 3 / 13 - 02:08
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر     

المثقف العربي بين مطرقة الواقع وحلم الفكر


لا نخفي سرا إذا قلنا إن عملية تدجين الواقع الثقافي العربي وتركيعه تحت هيمنة السلطة وتغريب الواقع عنه هي مهمة كل الأنظمة العربية مؤسسات وأفكار وأقلام، ولا نخفي شيئا إذا قلنا إن المنظومة العربيية الحاكمة بكل مؤسساتها وتوجهاتها تعيش الآن تحت وطأة عملية إعادة صنع العقل الجمعي العربي ايتلائم مع طروحات وأفكار لا تخدم المستقبل العربي ولا تتماشى مع هاجس التحولات الكونية، بل الواضح تماما إن مشكلة السلطة الحاكمة تتمثل في صراعها مع بعض من تبقى من الجيل الذي نشأ وترعرع في فترة الستينات والسبعينات حيث كان للثقافة والمثقفين دورا محوريا في صنع الواقع ومجابهة بدايات عمليات غسيل الدماغ الممنهجة وفقا لإرادات تتمحور حول صورة المستقبل ومشروع التغيير.
هذا الجيل أو ما تبقى منه ما زال مؤثرا من خلال ما ترك من ثراء فكري وقوة حقيقية برغم من تراجع دوره من حالة الدفاع عن القيم الثورية والفكر الوطني إلى حالة الدفاع عن النفس والوجود، فبعد سلسلة طويلة من عمليات شراء الأقلام والصحف ودور النشر وتزايد ظاهرة الأعلام الموجه عابر الحدود، وأنتشار المال السياسي الذي حول بعض الرموز الثقافية العربية التي كانت توصف بالتقدمية واليسارية والوطنية، إلى مبشرين ومنظرين لثقافة الشيوخ والأمراء والأنظمة التي تحارب بكل قوة لنمذجة جديدة للعقل العربي وفقا لمتطلبات الطروحات والأفكار المضادة في صراع تحول في بعض فصوله إلى صراع وجودي ودموي، ولعل من أبرز مظاهر هذا التحول هو غياب الصوت المميز أو تغيبه من خلال توزيع مصادر الثقافة العربية على شكل تكتلات تدور في فلك هذه الأنظمة وتسبح بحمدها ليلا ونهارا، وسد كل المنافذ التي يمكن من خلالها إيصال الأفكار والرؤى الوطنية والتقدمية، حتى ليعجز القاريء اليوم أن يجد وسيلة ثقافية واحده لم تخضع لتلك التوجهات وتنصاع لها.
هذا الصراع الفكري والثقافي لا يمكن عزله أصلا عن مجريات الصراع الأكبر والأهم والأساسي وهو الصراع العربي الإسرائيلي وما يلقيه ويتلقاه من دعم ومساندة من الحكومات والأنظمة العربية، وحتى وصل أثر هذا الصراع إلى مقدمات ووسائل ومعطيات تكوين الثقافة العربية من التربية والتعليم ووسائل التنشئة الفكرية الأخرى، فتحول ميدان التعليم والتعلم من دائرة صنع العقل العربي وتهيئته إلى ميدان أخضاعه وتطويعه ليكون عقلا عاجزا عن التفريق بين مسألة الوجود العربي وبين ما يعرف بثقافة وسياسة الأنفتاح والكونية تحت ظل ما يسمى بالعولمة الثقافية والفكرية، من الطبيعي جدا أننا نحتاج لإفرازات ونتائج الأنفتاح وتطوير الواقع العربي من خلال التفاعل مع الثقافات والأفكار الكونية في عالم لم يعد كما كان في الستينات والسبعينيان من القرن الماضي وما قبله، ولكن بتوازن حقيقي ومتبادل بين الحفاظ على الوجود والهوية العربية وضرورة أنضاج معاملات النظام الفكري والعقلي، ولكن ليس بطريقة الأستلاب والتغريب وظاهرة عدم التوازن بين ما يستقبله العقل العربي وما ينتجه من معارف وأفكار ونتاج يعبر عن الواقع ويطوره.
إن تركيز السلطة العربية الراهنة والمرتهنة لإملاءات غير وطنية ولا تؤمن بالأمن القومي جعلها تلح بشكل لا عقلاني على تفاصيل الصراع هذا وتظهر التناقض الحاد مع الطبقة المثقفة النخبوية والوسطى، في محاولة منها لإخضاعها الدائم وبشتى الوسائل والسبل للتوجهات الرسمية التي لم تنتهي عند حد المنع والتقييد، بل حاولت من جهتها أن تشق الحركة الثقافية وتشظيها من خلال دعم مجموعة من المحسوبين على الثقافة والفكر، وجعلهم الواجهة الأمامية والصورة الشائعة عنها وتقديمهم بقوة بكل وسائل الأتصال الجماهيري، لتصنع منهم البديل المناسب وتحمي مقوماتها بكل الوسائل، هذا الأسلوب العملي نجح إلى حد ما في تفشي ظاهرة ثقافة اللا ثقافة، وهي مجموعة طروحات وأفكار ليس لها طعم ولا لون ولا رائحة مهمتها أن تشوش وتبعد المتلقي الثقافي من متابعة الحركة الثقافية الحقيقية، بما تضخه المؤسسات المكلفة من السلطة من ضجيج وإبهار وتنوع يأخذ المتلقي بعيدا عن أهدافه الحقيقية وتغيبا لوعيه الوطني والإنساني.
هذا الواقع المزري الذي وضعت في الثقافة والمثقف في الوقت الحاضر لا يمكن أن يسمح للفكر التحرري والتنويري والملتصق بقضايا مجتمعه والحامل لتطلعات مستقبيلية أن يتحرك وأن ينتج ما كان مأمولا منه أو معولا عليه، ليس العيب هنا في عدم قدرة المثقف على الأنتاج والطرح المتجدد والحداثوي وهو يواجه هجمة شرسة وعدائية من قوى السلطة فقط، بل يواجه ضغطا أخر لا يقل تأثيرا ومزاحمة من قوى السلطة ومن قوى مساندة ومعاضدة ومتحالفة معها، كنا نقرأها فيما مضى بأسم القوى الرجعية والمتخلفة والتي تتمثل بدعامتين أساسيتين هما القوة الثقافية التاريخية السلفية وأبرز ممثليها (المؤسسة الدينية) ومرجعياتها الفكرية، وأيضا المؤسسة الأجتماعية التقليدية المحافظة على الإرث الأجتماعي وأبرز ممثليها الزعامات القروية والعشائرية بوجهها الأقتصادي (الأقطاع) وبصفتها الثقافية التمسك بقيم العشيرة والقبيلة وما تفرضه من هيمنة وتسلط على العقل الفردي.
المثقف العربي اليوم محاصر ومحدود الحركة في ظل تداعيات أزمة السلطة المتخلفة والفاشلة وهي تقاوم بكل ما لديها من أساليب لتحافظ على وجودها الذي يوشك على الأنهيار والسقوط، ليس فقط لأنها فقدت شرعيتها ومشروعيتها، ولكنها الآن تعيش صراع التناقض في نهايته المتوقعة مع ما حولها من واقع متحرك ومتسارع ونشط، يفرض عليها أن تستجيب وتتفاعل مع قوانينه ومقدراته العامة الكلية، هذا التناقض هو من يدفع بها للهروب إلى أمام ومحاربة الفكر والمعرفة بما فيها الثقافة والمثقف التي تركز فيها على خيارات المستقبل وتؤمن بها وتناضل من أجله، فالصراع أذن صراع وجودي قائم في طول وعرض إشكاليات أزمة السلطة والمجتمع، وهذا ما يؤكده حجم وحدة ونوعية الصراع القائم على أرض الواقع العربي خاصة وما يفسرتكالب الأنظمة والحكومات على محاربة المثقف حتى في لقمة عيشه ووجوده الطبيعي.