الرأسمالية انهارت دون استئذان الذوات (2)


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 5808 - 2018 / 3 / 7 - 21:54
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

في العام 1970 بدأت تكاليف الحرب على فيتنام تضغط على الإقتصاد الأميركي . لم يعد الإنتاج البضاعي المتراجع يتحمل الإنفاق المتزايد على الحرب خاصة وأن الإنتاج الحربي قد أخذ يتنامى على حساب الإنتاج البضاعي وهو ليس من البضاعة ولا قيمة تبادلية له . ولما كانت إدارة نكسون بأمس الحاجة للأموال للإنفاق على الحرب فقد اضطرت في العام 1971 إلى الخروج من معاهدة بريتون وودز (Bretonwoods) 1944 التي تشترط الغطاء الذهبي للنقد . إذاك بدأت قيمة الدولار بالتدهور السريع وهو المؤشر الحساس والأمين لانهيار النظام الرأسمالي كما أشار آنذاك بعض الإقتصاديين الأمريكان – القانون العام للنقد يقول أن قيمة نقد أي بلد تعكس قيمة ثروة البلد . عهد الرئيس نكسون لوزير المالية جورج شولتس (George Schultz) وهو الأخصائي الأبرز في الشؤون المالية بمعالجة الموضوع، لكن ليس لدى شولتس بالطبع أي سحر لإعادة الحياة للنظام الرأسمالي، فلم يوصِ إلا بتخفيض قيمة الدولار (Devaluation) مؤملاً إبطاء انهيار النظام الرأسمالي وهو ما لم يحدث مما استجلب إعلان خفض قيمة الدولار مرتين في العام التالي 1973 وهو ما يؤكد الإنهيار المتسارع للنظام الرأسمالي مما حدا بالرئيس نكسون إلى استبدال جورج شولتس وهو من يحمل شهادة الدكتوراه في الشؤون المالية بوليم سيمون (William Simon) العقائدي المتطرف في تعصبه للنظام الرأسمالي . هذا "السيمون" هو من صاغ إعلان رامبوييه بعد أن فرضه على زملائه وزراء المالية الأربعة الآخرين في رامبوييه . لم يكن سيمون ذلك الساحر المرتجى لكنه كان اللص الحاقد على شعوب الدول المحيطية فرسم مبدأ يخالف القانون الدولي للنقد يقول أن قيمة النقد في ذاته دون أدنى علاقة بالبضاعة (الذهب) مستهدفاً أن تبقى الدول الخمسة تتحكم بالعالم وهي تمتلك تلالاً من النقود الصعبة وإن لم تعد تنتج البضاعة وهو الشرط الأساس للنظام الرأسمالي . لكن الإقتصاد لا تقرره القرارات الفوقية بعيداً عن الإنتاج البضاعي وعلاقات الإنتاج . ولأن قيمة نقود الدولة بقررها الإنتاج البضاعي لتلك الدولة ومنه الذهب فكان أن استعاض الخمسة العظماء (G 5) في رامبوييه عن ذلك القانون الأساس للنقد بمؤامرة لصوصية حبث تعاهدت الدول الخمسة على الحفاظ على سعر صرف عملاتها ثابتاً عن طريق المضاربة في أسواق المال تمارسها البنوك المركزية في الدول الخمسة .
تستطيع البنوك المركزية في الدول الخمسة أن تحافظ على سعر صرف عملاتها ثابتاً كما توعدت متضامنة عن طريق المضاربة فقط لكنها لا تستطيع بكل الأحوال أن تحافظ على قيمة عملاتها بقرار من الدولة كما رسم ذلك صندوق النقد الدولي في اجتماعه الاستثنائي في جمايكا في يناير 1976 تبعاً لتوصية من مؤتمر رامبوييه . المواطنون لا يحتاجون النقود إلا لاستبدالها بالبضاعة التي هي وحدها أسباب الحياة، وقيمة البضاعة تحددها ساعات العمل التي تختزنها هذه البضاعة أو تلك وليس النقود بل قيمة البضاعة هي ما يحدد قيمة النقود . صندوق النقد الدولي فصل شكلاً قيمة البضاعة عن قيمة النقود فقرر أن الدولة هي التي تحدد قيمة نقودها الإسمية تسهيلاً لفعل اللصوصية الذي ستمارسه الدول الخمسة لكنه لم يقل ولا يستطيع أن يقول أن الدولة هي من يحدد قيمة البضاعة الفعلية .
أُختير الذهب كمعاير لقيمة النقود لأنه البضاعة الأغلى ثمنا والثابت قيمة على العموم . فكانت قيمة غرام الذهب في العام 1970 وهو آخر عام في عمر النظام الرأسمالي 1.25 دولار أما في العام 2012 فقد قفز ليصل إلى 58.7 دولاراً . أحداً من الإقتصاديين المعتمدين أم حتى من غير المعتمدين لم يفسر هذا الإتهيار المريع حتى بات الدولار لا بساوي أكثر من سنتين من سنتات 1970 !! ليس لذلك من علة أخرى غير انهيار النظام الرأسمالي . بعد انهيار نظام الإنتاج الرأسمالي انحط الإنتاج البضاعي، والبضاعة هي ما يتم التعبير عن قيمتها بالنقد .
رب من يتساءل كيف يكون هذا الإنحطاط في الإنتاج البضاعي والطبقة العاملة الأمريكية قد إزدادت بنسبة 50% ما بين 1970 و 2012 !؟ نعم هذا صحيح لكن الصحيح أيضاً أن العاملين في إنتاج الخدمات إزدادوا بنسبة 1000% أي عشرة أضعاف ؛ فالعاملون في الخدمات اليوم في الولايات المتحدة هم حوالي 100 مليون عامل وفي الإنتاج البضاعي ليسوا أكثر من 25 مليوناً، بينما كان العاملون في الإنتاج البضاعي في الستينيات عشرة أضعاف العاملين في الخدمات، والفرق كبير بين الحالتين حيث في الستينيات لم تكن الطبقة العاملة تستهلك كل ما تنتج بخلاف اليوم فهي تستهلك أكثر مما تنتج وتضطر الولايات المتحدة لأن تستدين من الخارج مليون دولار كل دقيقة كما أكدت ذلك زعيمة الديموقراطيين في البرلمان الأميركي قبل أيام . 100 مليون عامل خدماتي في أميركا لا ينتجون قطميرا ؛ يعيشون على حساب 25 مليون عاملاً ينتجون البضائع ولا يكفيهم ذلك فتضطر الولايات المتحدة إلى أن تستدين كل دقيقة مليون دولاراً .

شرح لنا لينين في كتابه الشهير "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" كيف أن المركز الرأسمالي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر لم يعد يكتفي بتصدير البضائع إلى الأسواق محيطاته بل أخذ يصدر أيضاً رؤوس الأموال يوظفها في البلدان المستعمرة والتابعة . ومن المفيد هنا استذكار ما كتبه ستالين في كتابه "أسس اللينينية" عما تضطر الإمبريالية أن تقوم به في البلدان المستعمرة والتابعة ..
" تضطر الإمبريالية أن تبني هناك سكك حديدية، مصانع ومعامل، مراكز تجارية وصناعية . ظهور طبقة بروليتاريا جديدة وبروز طبقة مثقفين وطنية وإيقاظ الوعي القومي وتنامي حركة التحرر الوطني والقوى الثورية" .
هذا ما كتله ستالين في العام 1924 فهل تقوم الولايات المتحدة بمثل هذه الأعمال اليوم !؟
الولايات المتحدة اليوم هي أكبر مستورد للبضائع ورؤوس الأموال في العالم .
كيف يمكن مع ذلك الزعم بأن الولايات المتحدة دولة رأسمالية إمبريالية !؟
ما هي تلك الرأسمالية التي لا تحول قوى العمل (Labour Power) إلى بضائع !؟
ما ذنب العالم في أن الشيوعيين المفلسين لم يقرأوا ماركس ولينين !؟
كيف يمكن الشيوعيون المفلسون الزعم بأن الولايات المتحدة دولة رأسمالية إمبريالية وهي مدينة للخارج بأكثر من 20 ترليون دولارا فائدتها السنوية أكثر من 500 مليار دولارا تعجز الولايات المتحدة عن دفعها إلا من خلال الإستدانة !؟
هل يعي هؤلاء القوم المفلسون ما معنى أن تعلن الولايات المتحدة عجزها عن خدمة ديونها وهو في يوم قريب عندما تنسد أمامها أبواب الإستدانة ؟؟
ستنزل إذاك كارثة كونية بالعالم كله . لن ينهار النظام الرأسمالي المفترض في الولايات المتحدة كما سيتصور الشيوعيون المفلسون بل سيتوقف الإنتاج في العالم كله، ولن يجد هؤلاء المفلسون الماء في حماماتهم في الصباح التالي كي يغتسلوا من ذنوبهم . كل العملات في العالم مغطاة بالدولار والمنتجون مع سقوط الدولار .

عندما انهار الاتحاد السوفياتي وهو ما توقعناه في العام 1963 وواجه الشيوعيون الذين ظلوا يهللون لخروشتشوف وانتهاءً بغورباتشوف، وكان قد كتب بلسانهم الدكتور فؤاد زكريا في العام 1986 يقول .." كان من حسن حظ البشرية أن غورباتشوف أجاد النفاق حتى وصل لمنصب الأمين العام للحزب الشيوعي "، ورددت عليه حينذاك في صحيفة الرأي الأردنية مؤكداً له أنه سيندم في المستقبل على ما كتب، واجه أولئك الشيوعيون حال الإنهيار الإفلاس الحقيقي . ودرءاً للقبول بالإفلاس والهمود قاعدين في بيوتهم انقلبوا دون حياء أو خجل إلى سياسيين إصلاحيين يطالبون بالديموقراطية البورجوازية التي تحكم بالتعايش الطبقي والقبول باستغلال العمال .

كنا وصمنا هؤلاء القوم بالخيانة لقضية الشيوعية في الستينيات إلا أن جديدنا اليوم هو أنهم ينكرون إنكاراً صلفاً انهيار النظام الرأسمالي وهو ما يصل إلى إنكار الثورة الاشتراكية البولشفية والإنعطاف الذي تسببته في مسار تاريخ البشرية وصولاً إلى إنهيار النظام الرأسمالي .
إنكارهم الصلف لا يجوز إفتراضه إلا بعد تجاهل حقيقتين هما من صلب الإقتصاد السياسي ..
الحقيقة الأولى وهي أن نظام الإنتاج الرأسمالي هو حصراً المتاجرة بقوى العمل . من قوى العمل فقط عن طريق تحويلها إلى بضاعة يتم اقتطاع فائض القيمة الذي هو روح النظام الرأسمالي . وعليه فإن الرأسمالية المالية أي التجارة بالأموال ومبادلة المال بالمال بعيداً عن قوى العمل لا يتضمن أي فائض للقيمة بل ولا ينتج أية قيمة ليُدعى بفائض للقيمة .
الحقيقة الثانية وهي أن الخدمات لا قيمة تبادلية لها حيث تُستهلك تماماً لحظة إنتاجها بل ويستوفي بدلها قبل إنتاجها خارج السوق ويتم تحديد البدل بصورة تعسفية بغض النظر عن كمية العمل المبذول في إنتاج الخدمة وقيمته، يضاف إلى كل ذلك أن الخدمة لا تختزن العمل ولا يتم تغريب العمل عن منتج الخدمة كما في الإنتاج البضاعي وهو الشرط الأساس في النظام الرأسمالي .

أولئك الذين لا يقرون بانهيار النظام الرأسمالي في السبعينيات من أدعياء الشيوعية هم خونة الشيوعية إذ من شأن إقرارهم أن ينسف كل برامجهم السياسية بكل ألوانها الإصلاحية .

فوضى الهروب من الإستحقاق الإشتراكي التي أخذت بخناق العالم منذ أن انقلبت البورجوازية الوضيعة السوفياتية على الإشتراكية في العام 1953 ، واستبدت في الغرب الرأسمالي تلو إعلان رامبوييه، هذه الفوضى التي ينكرها الكثيرون رغم أن دولة في العالم لم تنجح حتى الساعة ببناء نظام إنتاج ثابت ومستقر، تسارع هذه الفوضى نحو الإنهيار التام لتترك العالم في دمار تام وشامل . ينعدم الإنتاج وننلاشى الطبقات . يعود العالم إلى المشاعية البدائية لكن بدون توافر الغذاء السهل كما كان حال المشاعية الأولى . مثل هذه الصورة قد تصعق كل متعقل لكن ورودها للذهن أمر لا يعوزه المنطق ولن يكون إلا هذا عندما تعجز أميركا عن خدمة ديونها وهو أمر يتماثل في الأفق القريب أو عندما يرفض عمال الصين العمل كالعبيد لدى الطبقة الوسطى في أمريكا لقاء دولارات زائفة . تلك الاشتشرافات المنطقية تبعاً لماركس تستوجب الحذر والحرص الشديدين . لهذا بالضبط ينطلق الشيوعيون البلاشفة تلامذة البولشفيين الأعظمين لينين وستالين ينادون الشيوعيين في كل أطراف الأرض للبحث في رسم استراتيجية وتاكتيكات مناسبة لعودة الشيوعية البدائية وتحويلها إلى موروث الثورة البولشفية التي ما زالت حية في الأرض .