الأسس المادية لظواهر لاستبداد والقسوة والتعذيب والتمييز في المجتمع العراقي (الحلقة الرابعة والأخيرة)


كاظم حبيب
الحوار المتمدن - العدد: 5801 - 2018 / 2 / 28 - 12:05
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

إن متابعة تطور المجتمعات العراقية القديمة عبر القوانين المنظمة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية تؤكد بأن السلالات المبكرة التي عاشت في العراق، ومنها السلالات السومرية والأكدية لم تعرف صيغ التعامل الاستبدادي والقسوة والجور في العلاقات العائلية أو في إطار العشيرة في فترة المشاعية البدائية أو حتى في مرحلة التحول إلى المجتمع العبودي. وكانت حالات الدفاع عن الأرض أو مواجهة الغزو الخارجي على قبيلة من قبل قبيلة أخرى كانت تواجه بالدفاع والاقتتال المتبادل. وكان الأسرى يتحولون إلى عبيد يعملون مع بقية الفلاحين في الأرض العائدة للقبيلة المنتصرة. إلا أن التحولات التي جرت في تقسيم العمل الاجتماعي وبروز فائض الإنتاج ومن ثم نشوء الملكية الفردية لوسائل الإنتاج ومنها الأرض، والإنتاج، افترض نشوء قواعد وقوانين جديدة تحكم تلك العلاقات وتنظمها. وفي الفترات الأولى كما رأينا لم تكن القوانين قاسية بل اعتيادية ومحاولة لمعالجة المشكلات بطرق اعتيادية بضمنها الغرامات العينية. ولكن تطور دولة المدينة ومن ثم الدولة المركزية ونشوء ملكيات كبيرة، بما فيها ملكية الملك والمعبد والقادة، قد دفعت باتجاه تشديد القوانين دفاعاً عن تلك الملكيات وحماية مصالح الفئات المالكة وانعكست في ظواهر الاستبداد والقسوة في العقوبات. وهي عملية تطور لم يعرفها العراق وحده، بل عرفتها جميع شعوب العالم تقريباً في تطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ومن هنا لا يمكن الادعاء بأن المجتمع العراقي متفرداً بممارسة الاستبداد والعنف والقسوة في حياته العامة وفيما بين أفراده أو إزاء الآخرين، بل هي مرتبطة بطبيعة علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع من حيث الإنتاج وتوزيع الثروة ودور السلطة السياسية في التعامل مع مختلف فئات المجتمع.
يعتبر التعذيب النفسي والجسدي بمختلف أساليبه وأدواته وصور ممارسته والقوى التي تمارسه، بغض النظر عن العوامل الكامنة وراء حصوله، أبرز نتاجات نظم الاستبداد والشمولية وأكثرها عدوانية ووحشية. فالتعذيب يستهدف بشكل مباشر كرامة الإنسان وتدمير صحته وتعويقه عن العمل والتفكير أو حتى الإجهاز عليه وقتله، كما يستهدف حرية الإنسان وحقه في الحياة وتخريب وضعه النفسي ومعنوياته وإسقاط إرادته الحرة. واتخذ التعذيب، سواء أكان عقوبة رادعة يراد إنزالها بالضحية، بغض النظر عن الأسباب التي دعت إلى فرض تلك العقوبة، أم كان محاولة لإهانة الإنسان والحط من كرامته وتقزيمه والإساءة لسمعته ومكانته الاجتماعية، أم كان قربانا يقدم للآلهة بدلا من قرابين أخرى، مسارين أساسيين:
1) ممارسة تستند إلى قوانين سنّها الحكام على امتداد تاريخ المجتمع البشري، أو استندت إلى نصوص دينية وردت في الكتب الدينية، ومنها التوراة والانجيل والقرآن، علما بأن القرآن، أو النصوص الدينية عموما، اعتبرت التعذيب عقوبة تنزل بالشخص بسبب عمل مخل أو جنحة ارتكبها، فهي وأن أشار إليها الباحث هادي العلوي باعتبارها مقتربات دينية للتعذيب1، فأنها لا تخرج بالمحصلة النهائية عن كونها عقوبة تنفذ عبر ممارسة التعذيب الجسدي والنفسي، بما فيها من إهانة لكرامة الإنسان، كعقوبة. ومن يتابع تاريخ العراق التشريعي سيجد عقوبات من هذا النوع في شريعة حمورابي وفي الشرائع اللاحقة لها، ولكن لا يجدها في الشرائع التي سبقتها إلا بشكل محدود، مثل: قانون أورنمو2، حيث كانت العقوبة لا تتجاوز الغرامات دون أن تصل إلى مستوى التعذيب أو القصاص، كالعين بالعين والسن بالسن، أو القتل إلا في حالة واحدة، أو قانون مملكة أشنونة الذي لا يتضمن عقوبات التعذيب أو القصاص، ولكنه يتضمن عقوبات بالقتل في حالات كانت تسمى "الجريمة الكبرى"3، أو قانون لبت عشتار، الذي تضمن عقوبات بالغرامة فقط،4. ومن يقرأ شريعة حمورابي سيجد، كما أوضحنا ذلك سابقاً، بأنها التزمت بقاعدة العين بالعين والسن بالسن، أو اعتمدت الأعراف والتقاليد التي سار عليها الحكام وفرضت على الشعوب وعملت بها أجهزة الدولة القضائية والقمعية5، ثم وجدت استمرارها في الكتب التي يطلق عليها "سماوية".
2) وعند قراءة القرآن سيجد الإنسان أمامه أشكالا متنوعة من أساليب التعذيب الفردية والجماعية التي يفترض أن يمارسها ملائكة الله ضد المخطئين من البشر يوم الحشر أو القيامة عند تقديم الحساب أمام الله، أو أن على المسلمين ممارستها ضد المخطئين في الحياة الدنيا. إن مجرد تصور هذه العقوبات وسبل ممارستها بحد ذاته يصيب الإنسان بالذهول والدوار الشديد، إذ إنها فوق طاقة تحمل الإنسان وتتضمن مزاجا ساديا مريعا. ومع أن الإسلام يرفض العقوبات الجماعية بل يستخدم العقوبة الفردية وفق ما جاء في القرآن "قل أغير ألله أبغي ربّاً وهو ربُ كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزرُ وازرةٌ وِزرَ أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون*6، فأن القرآن ذاته يورد صورا للعقوبات الجماعية. والعقوبات التي جرى تصورها في القرآن تصنف إلى ثلاثة أشكال أساسية، هي:
** العقوبات الجماعية التي أصابت شعوبا وجماعات بشرية بكاملها مع دمار المدن وغيرها، التي يطلق عليها بالمهابدة. ويمكن هنا إيراد الكثير من الأمثلة بما فيها سورة الفيل " ألم تَرَ كيفَ فعل ربك بأصحاب الفيل* ألم يجعل كيدهم في تضليل* وأرسل عليهم طيراً أبابيل* ترميهم بحجارة من سجيل* فجعلهم كعصف مأكول*"7، أو كما جاء في سورة الحجر قوله: "… • فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ • إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ• وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ• إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ• وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ • فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ *8.
** العقوبات الفردية الموجهة ضد الإنسان لذنب اقترفه، التي تقود، بسبب طبيعتها وأسلوب ممارستها، إلى تشوه الإنسان والحط من قدره وكرامته بين الناس. وهي في إطار العقوبات الزاجرة التي يراد منها أيضا منع الآخرين من ارتكاب مخالفات أو ذنوب أو جرائم مماثلة، ومنها فرض الإقامة الجبرية على المرأة التي ثبت زناها في دار زوجها حتى وفاتها، وعقوبة الجلد وقطع اليد أو القتل، مثل قطع الرأس والرجم بالحجارة، وما إلى ذلك. ورد في الآية 33 من سورة المائدة قوله: " إنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ *"9، أو في قوله في الآية 38 من نفس السورة بحق مرتكبي السرقة: " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *10. وهي، كما ترد في القرآن ذاته، عملية تنكيل بالإنسان المقترف للخطيئة.
** العقوبات التي يهدد الإنسان بممارستها ضده بعد وفاته في الآخرة إن ارتكب ما لا يجوز القيام به في الحياة الدنيا، أو بسبب عدم إيمانه بالله ورسوله ويوم الآخرة. وهي عقوبات يراد منها الردع والتحذير بهدف إبعاد الإنسان عن ارتكاب الخطايا والذنوب.
وإشكالية هذا النوع الأخير من التعذيب تكمن في الملاحظات التالية:
أ- تتضمن هذه العقوبات تصورات ذات خيال رهيب وغير طبيعي، إذ يصعب على الإنسان السوي قبولها وهضمها. إذ تشكل نار جهنم المحور الذي تدور حوله هذه العقوبات وما يعانيه الفرد فيها من شتى صنوف العذاب.11 فعلى سبيل المثال لا الحصر، وردت في القرآن اللوحة التالية التي تجسد الطريقة التي اختارها الله لتعذيب المذنبين وفق الآية 56 من سورة النساء ما يلي: " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا *"12، في مقابل الثواب قوله في الآية 57: "وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً:. أو في قوله في الآيتين 34 و35 من سورة التوبة: " • يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ• يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ *"13.
ب- أن صور وأساليب التعذيب المرعبة التي يهدد الله أنزالها بالإنسان المخطئ يوم القيامة تمنح الحكام على مر الزمن مادة أو "حقا" يعتمدونه في تفسير تلك الآيات وتأويلها وفق الصيغة التي تسمح لهم بممارسة أقسى صيغ تعذيب الإنسان في الحياة الدنيا من جهة، كما تسمحان لخيالهم المريض أن يجنح بعيدا لممارسة أقسى وأكثر الأساليب شدة وقسوة وبشاعة بحق الإنسان الذي يعتبر بنظرهم مذنبا من جهة أخرى. فحق الله في إنزال أقسى واشد وأشرس العقوبات في يوم الآخرة بالإنسان المخطئ، يمكن أن ينتقل هذا الحق الثابت إلى وكيل الله في الأرض أو بولاية الفقيه ينزلها بالمخطئ في الحياة الدنيا. ويمكن هنا الإشارة الواضحة إلى أساليب التعذيب الشرسة والمتطرفة التي مارسها الخلفاء العباسيون بحق من ناصبوهم الخصومة أو اتخذوا مواقف معارضة لسياساتهم، ومنهم ثوار الزنج وأتباع الحركة القرمطية أو بحق الأمويين قبل ذاك أو بحق العلويين أو غيرهم. وكانت تنهل من ذات "المعين السماوي" الوارد في القرآن. ولعب رجال الدين دورا استثنائياً في تطوير ذهنية التعذيب وأساليبه لدى الحكام في الدنيا وليس في الآخرة، إنها تشير إلى خيال سادي مريض وإرهابي شرس، كما يشير إلى ذلك بصواب الباحث هادي العلوي حين كتب يقول: "ولجهنم أوصاف كدسها الوعاظ تصدر عن خيال إرهابي مفرط. ولنقرأ الوصف الذي أورده الغزالي في "إحياء علوم الدين" -كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهو على لسان جبرائيل في حديث له مع النبي:
"إن الله تعالى أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت. ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت. ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت؛ فهي سوداء مظلمة لا يضيء جمرها ولا يطفأ لهيبها. والذي بعثك بالحق لو أن ثوبا من ثياب أهل النار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعاً، ولو أن ذنوباً (دلوا) من شرابها صب في مياه الأرض جميعا لقتل ما ذاقه، ولو أن ذراعا من السلسلة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعاً لذابت. ولو أن رجلاً أدخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه"14.
إن إشكالية التعذيب ومرافقتها للدين تنطلق من قاعدة "الجزرة والعصا"، أو الترغيب والتهديد التي وضعها ومارسها الأنبياء المصلحون وأصحاب الديانات عموما، والتي استعان بها الحكام ومارسوها على نطاق واسع. فالإنسان يوضع أمام أحد أمرين أما الخضوع وإبداء فروض الطاعة والالتزام التام بما يقرره القرآن والخليفة أو الحاكم بأمره، وبالتالي يكسب الآخرة ويدخل في جنات عدن التي تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها…، وأما ارتكاب الخطيئة والتعرض للعقوبات المختلفة ودخول جهنم وبئس المصير، أو أن الحاكم يمارس العقوبة التي يراها مناسبة بحق مرتكب الخطيئة. والتربية الإسلامية استندت إذن إلى هذه القاعدة أو انطلقت منها، وبالتالي سمح الحاكم لنفسه بتنفيذ جزء من تلك العقوبات التي يصعب حتى تصورها، عندما يشوى جسم الإنسان ثم يحيا ثم يشوى ثم يحيا إلى أبد الآبدين على سبيل المثال لا الحصر. إن النصوص القرآنية في هذا الصدد تساهم في خلق أو تكوين عقلية مستعدة لممارسة التعذيب وتعتبره ضرورة لا بد منها لممارسة الدين على أفضل وجه ممكن. ولم تكن هذه الظاهرة مقتصرة على العهدين الأموي والعباسي أو العثماني فيما بعد فحسب، بل تمارسه القوى الدينية السياسية المتطرفة، حيث تقدم أحداث الجزائر في العقد الأخير من القرن العشرين نماذج صارخة للسادية الدينية التي يمكن أن تتجلى في سلوكية المأخوذ بالدين أو المسكون فيه، إذ يمارس كل ذلك باسم الدين وهو مرتاح الضمير! أو ما حصل في العراق عندما بدأت ميليشيات "جيش المهدي" التابعة لمقتدى الصدر في النجف تعتقل من تجده مخالفاً لها أو مخالفاً لما تعتبره شريعة وتمارس بحقه التعذيب حتى الموت، أشكال التعذيب بما في ذلك قلع العيون وجدع الأنوف وقطع الرؤوس أو حتى سلخ الجلود أو الحرق. إنها أيضاً استقت ممارستها من ذات المعين الذي تنهل منه كل القوى الإسلامية الأصولية السلفية المتطرفة والعدوانية، سواء أكان ذلك في الجزائر أم في سجن أيفين في إيران أم في سجون السعودية أم في أي مكان آخر تصل أيدي هؤلاء العتاة إليه. ويمكن في هذا الصدد الاتفاق مع الكاتب الراحل هادي العلوي في إشارته الواضحة إلى ما يلي: "والتعذيب في الإسلام لا يخرج عن هذا التصميم. أي أنه ليس ممارسة منعزلة خاضعة لبواعث مخصوصة - فوق تئريخية. لكنه يتميز بإطاريته الناجمة عن العلاقة بالدين، ولا بد بالتالي من أن يبعث على تساؤلات تحمل على النظر والتوقف، من قبيل: هل صدر الجلادون المسلمون في اقترافاتهم عن مسلك ديني؟ وهل يمكن القول أن إيمان الجلادين يسجل لدى الاقتراف درجة ما من الهبوط تضعه في مستوى أدنى من الإيمان الشعبي الخاضع للفطرة؟ وهل، أخيرا، يتعارض الدين بما هو دين مع أخلاقية التعذيب؟“15 يبدو لي بأن الإجابة عن هذا السؤال كانت واضحة له، وهي أن التعذيب لا يخرج عن الإطار الديني عندما يمارسه الحكام باعتباره عقوبة لمن يخرج على الدين أو عنه، إذن هو من صلب أسلوب فرض القواعد الدينية على البشر ومعاقبة الذين يخرجون عليها أو يشاركون في الإخلال بها بأي حال من الأحوال. أوردت الكثير من الدراسات التي تبحث في سياسات وممارسات محمد بن عبد الله في فترات الحرب والسلام الكثير من الحوادث التي تؤكد ممارسته لسياسات القسوة والعنف وإنزال العقوبات الشديدة بالمخطئين أو المختلفين معه بالرأي أو في الموقف من القتل أثناء الحروب وكذلك في الموقف من الأسرى، بما في ذلك التعذيب لانتزاع الاعترافات.
* يشير سيد محمود القمني في كتابه الموسوم "حروب دولة الرسول" إلى عدد من الروايات المنقولة عن كتب السير والأخبار فيقول نقلاً عن ابن كثير بشأن يوم بئر معونة وأمر الحلف الذي كان معقوداً بين النبي وبين بني عامر ما يلي: "إن عمرو بن أمية الضمري، الذي أطلقه عامر بن الطفيل ليبلغ رسالته المتحدية للنبي –صلى الله عليه وسلم- خرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا في ظل هو فيه، وكان مع العامريين عهد من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وجواره، ولم يعلمه عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممن أنتما؟ قالا: من بني عامر، فأمهلهما حتى إذا ناما، عدا عليهما وقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثأراً من بني عامر .. فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله –صلى الله عليه وسلم – أخبره الخبر، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لقد قتلت قتيلين لأدينهما.“16
*وعن البيهقي وابن سيد الناس نقل القمني ما يلي: ".. قدم على النبي ثمانية رجال من عرينة، وأظهروا الإسلام، وبعد أيام اشتكوا للنبي سوء حالتهم الصحية بداخل يثرب، وأنهم أهل بوادي لا يطيقون المدن والزروع، فأذن لهم بالخروج لرعاية لقاحه، الذي يرعى بذي الحدر بناحية قباء، فظلوا فيها فترة، ثم عدوا على لقاح رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقتلوا واحداً من عبيد النبي، فكان أن أرسل وراءهم سرية كرز بن جابر الفهري، ليقبض عليهم، ويلقوا جزاء ما قدمت ايديهم بحق النبي وبحق الدولة، وهو الجزاء الذي جاءنا ذكره في البيهقي وهو يروي: فلم ترتفع السماء، حتى أتى بهم، فأمر بمسامير فأحميت، فكواهم وقطع أيديهم وأرجلهم، وألقاهم في الحرة ليستسقون فلا يسقون، حتى ماتوا. ويضيف ابن سيد الناس أنه قد أمر إضافة لذلك بسمل عيونهم."17
* بعد فتح خيبر واستسلام الخيابرة حمل زعيمهم كنانة بن أبي الحقيق إلى محمد راية الصلح ووافق على شروط الصلح بما في ذلك تسليم كل ما لديهم من ثروات والخروج من الأرض التي هم عليها وتسليمها للنبي وجنده. جاء في كتاب القمني نقلاً عن ابن كثير قوله: "نزل إليه (أي إلى محمد) ابن الحقيق، فصالحه على حقن دمائهم ويسيرهم، ويخلون بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وبين ما كان لهم من الأرض والأموال والصفراء والبيضاء والكراع والحلقة، على البر، إلا ما كان على ظهر الإنسان، يعني لباسهم. ثم يردف: فنزلوا من شدة رعبهم منه فصالحوه، وأموال بني النضير المتقدم ذكرها، ومما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت هذه الأموال لرسول الله خاصة. لكن الصلح بهذه الشروط الواضحة لم يسر حتى كمال اكتماله، فقد أضاف النبي – صلى الله عليه وسلم- إلى الشروط شرطاً آخر، حول الأموال حين قال: وبرئت منكم ذمة الله ورسوله، إن كتمتم شيئاً. فصالحوه على ذلك. أو ما جاء عند ابن سعد برواية ابن عباس، في سؤال النبي –صلى الله عليه وسلم- للزعيم الخيبري المرعوب كنانة بن أبي الحقيق، وأخيه الربيع: أين آنيتكما التي كنتما تعيرانها أهل مكة؟ ويرتبك الزعيم المهزوم، ويجف حلقه وهو يقول متلعثماً: "هربنا فلم تزل تضعنا أرض وترفعنا أخرى، فذهبنا ، فأنفقنا كل شيء، فيرد النبي –صلى الله عليه وسلم: إنكما إن كنتما تكتماني شيئاً فاطلعت عليه، استحللت دماءكما وذراريكما. فقالا: نعم. وهنا نعلم أن شركاً وقع فيه الزعيمان، حيث نعلم أن النبي كان يعلم سلفاً بأمر كنز عظيم، وكان يعلم بمكانه. ...أتى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- رجل من يهود فقال لرسول الله: إني قد رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. وهو ما دفع النبي للشرط السابق ذكره والذي أورده ابن هشام في قوله: فقال رسول الله لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك؛ أأقتلك؟ قال: نعم. فدعا النبي رجلاً من الأنصار فقال: أذهب إلى قراح كذا وكذا، ثم ائت النخل فانظر نخلة عن يمينك أو عن يسارك، فانظر نخلة مرفوعة، فأتني بما فيه. فانطلق، فجاء بالآنية والأموال. والآن وقد كشف خداع الرجلين، وجيء بكنزهم للنبي، توجه النبي إلى كنانة مرة أخرى يسأله ما بقي من كنزه، فأنكره، فأمر به رسول الله الزبير بن العوام فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده. فكان الزبير يقدح بزند في صدره، حتى أشرف على نفسه. ثم دفعه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى محمد بن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة. وانطلق السيف الإسلامي يعمل في المستسلمين، ليقتل منهم في قول ابن سعد ثلاثة وتسعين رجلاً من يهود، منهم الحارث أبو زينب، ومرحب، وأسير، وياسر، وعامر، وكنانة بن أبي الحقيق، وأخوه، وإنما ذكرنا هؤلاء وسميناهم لشرفهم."18 وعندما طلب الأسرى البقاء في الأرض والعمل عليها اشترط عليهم ما يلي: "أعطاهم خيبر، على أن لهم الشطر من كل زرع ونخيل" و "على إنا إذا شئنا أن نخرجكم منها أخرجناكم"19. ولم يكتف محمد بن عبد الله بكل ذلك بل تزوج أيضاً صفية بنت حيى بن أخطب، حيث كتب سيد محمود القمني استناداً إلى رواية أنس بن مالك الذي قال: "قدمنا خيبر، فلما فتح -صلى الله عليه وسلم- الحصن، ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب وقد قتل زوجها وكانت عروساً فاصطفاها لنفسه. كانت صفية زوجة كنانة بن أبي الحقيق زعيم يهود خيبر والذي أمر الرسول بتعذيبه وقتله. ويمكن للمرء أن يتصور كيف كان حال زوجة قتل زوجها لتوه ثم تؤمر بالزواج من قاتل زوجها لينام معها ويبني بها ثلاثة أيام متوالية، حيث كتب ابن كثير يقول: "وأقام ثلاثة أيام يبني بها."20 ويروي البيهقي:
"وقد بات أبو ايوب ليلة دخل بها رسول الله _صلى الله عليه وسلم- قائماً قريباً من قبته. ولما خرج الرسول من القبة سأله عن طوافه حول القبة كل ذلك الوقت، فرد أبو أيوب مفصحاً عن مدى إخلاص الرجال لصاحب الدعوة:
لما دخلت بهذه المرأة، وذكرت أنك قتلت اباها وأخاها وزوجها وعامة عشيرتها، فخفت لعمر الله أن تغتالك."21 ويشير القمني بقوله "وهو الأمر الذي يجد صداه فيما أفصح عنه لسان صفية عندما آلت إلى النبي في قولها: كان رسول الله أبغض الناس إليّ، قتل زوجي وأبي، فما زال يعتذر إليّ ويقول: إن أباك ألب عليّ العرب.. حتى ذهب ما بنفسي"22. وهو ما يصعب تأكيده.
* قررت قريظة عدم المقاتلة والاستسلام لجند محمد بعد أن حاصر حصنها. "وبالفعل ينزلون في طابور يكتف فرداً فرداً بالحبال التي تصلهم ببعضهم لينتظروا مصيرهم، آملين في موقف الأوس أحلافهم لحقن دمائهم، مثلما فعلت الخزرج من قبل مع قبائل يهود التي خرجت بأرواحها، وتركت المال والعقار والعتاد، وبينما هم في وهمهم هذا، نسمع الطبري يقول:
"ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في دار امرأة من بني النجار (أي من الخزرج وليس من الأوس)، ثم خرج -صلى الله عليه وسلم- إلى سوق المدينة .. فخندق بها خنادق." وقد بدا الأمر كما لو كان يسير حسبما توقعت قريظة من الأوس، حيث تواثبت الأوس حول النبي تذكره بأن قريظة مواليها دون الخزرج، وأنه سبق ومنح حياة يهود لمواليهم من الخزرج، يطلبون كرامتهم إزاء كرامة الخزرج في المواقف السابقة، وهنا يجيبهم الرسول –صلى الله عليه وسلم- بقوله ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال: فذاك سعد بن معان؟"23. ثم يواصل القمني فيقول:
"في ذلك الوقت كان سعد يعاني من قطع أصاب أكحله (شريانه) بسهم غارب جاءه من خارج الخندق إبان الحصار، ولم تلجأ كتبنا التراثية هنا إلى حديث الحاجي والمعجزات التي يلبسونها للنبي -صلى الله عليه وسلم- لأن سعداً لقى نهايته الفاجعة خلال أيام، حيث قام النبي –صلى الله عليه وسلم- يحسم له جرحه بنفسه كياً بالنار، لكن يده انتفخت ثم انفجر الشريان بالنزيف، فعاد النبي إلى كيه مرة اخرى ليسد مخرج الدم بالنار فانتفخت يده مرة أخرى، أما الرواة فقد رأوا أن المعجزة لم تحدث هنا، لأن الأكحل إن قطع فلا علاج له كما أفادوا، فهناك ما يمكن علاجه بالمعجزات وهناك ما لا يمكن علاجه كقطع الأكحل. وبينما سعد على حاله هذا أرسل إليه النبي وجاء به في مشهد يرويه الطبري بقوله:
"فلما انتهى سعد إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال -صلى الله عليه وسلم- : قوموا إلى سيدكم .. فانزلوه، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أحكم فيهم، قال: فإني أحكم فيهم بأن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء .. فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لسعد: حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة". وهنا يكشف لنا الطبري سر الخنادق التي أمر النبي بخندقتها، بينما كان القرظيون يكتفون بالحبال، حيث يقول: إن النبي قد "بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج إليه إرسالاً، وفيهم عدو الله حيى بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، المكثر لهم يقول كانوا نحو الثمانمائة أو التسعمائة". ويبدأ مشهد المذبحة كالتالي: أتى بعدو الله حيى بن أخطب .. مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك أبداً. ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره، ملحمة قد كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضرب عنقه. ويشرح لنا رجالاتنا من أهل السير كيف كانت المذبحة، فيصور لنا الواقدي أحد المشاهد بقوله:
إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أمر لنا يشق لبني قريضة في الأرض أخاديد، ثم جلس، فجعل علي والزبير يضربان أعناقهم بين يديه. ويحدد لنا البيقهي مكان المقتلة بدقة فيقول: قتلوا عند دار أبي جهل التي بالبلاط، ولم تكن يومئذ بلاطاً، فزعموا أن دماءهم بلغت أحجار التي كانت بالسوق."24
3) ممارسة التعذيب خارج الأطر القانونية والقواعد الدينية المسموح بها، وهي السمة المميزة والغالبة في تاريخ الدولتين الأموية والعباسية، وفيما بعد العثمانية أيضا والتي سنأتي عليها لاحقا. وهذا لا يعني أن رجال الحكم ومن ساندهم من الفقهاء ورجال الدين قد مارسوا مختلف أساليب التعذيب بسبب خروجهم عن الدين أو عن القواعد الدينية، بل أنهم، في حقيقة الأمر، مارسوا التعذيب في إطار الدين ولكنها كانت خارج القواعد التي وضعها الدين باعتبارها عقوبة، وكانت تجاوزا على الصيغ التي تقررت في القرآن لمن ارتكب ذنبا أو خطيئة معينة، كما كانت تجاوزا على حقوق الأفراد إذ إنها شملت حالات لم ترد أصلا في القرآن، ولكنها لم تكن خارج تصور أشكال التعذيب التي جاء على ذكرها القرآن أو الفقهاء والوعاظ، كما أن النصوص القرآنية قابلة للتفسير وحمالة أوجه، وأن كان بعضها مذكور لا لممارسته في الحياة الدنيا بل ممارسته في الحياة الآخرة، وأن بعضها وضع ليمارس في الحياة الدنيا.
إن دراسة كتب التاريخ التي تبحث في شؤون الدولتين الأموية والعباسية تشير بما لا يقبل الشك إلى أن التعذيب النفسي والجسدي كانا من الأساليب السائدة في ممارسة السلطة، وشكلا جزءا أساسيا من نظام وأدوات الحكم الاستبدادي فيهما. إذ كانت أساليب التعذيب النفسي والجسدي والمحاربة بالرزق أو الإسكات أو الإقصاء أو التصفيات الجسدية بأساليب مختلفة، بما فيها الاغتيال والتغييب، ضمن الأدوات الرئيسية في مكافحة الرأي الآخر وكسر شوكة الذين كانوا يسعون إلى مقاومة عنت الحكام وعسفهم أو المعارضين لأساليب الحكم السائدة حينذاك والمناهضين لمصادرة العدالة الاجتماعية التي كانوا يؤمنون بها ويعتقدون بقدرة الإسلام على تأمينها للناس. كما لم يتورع هؤلاء الحكام عن ممارسة التمثيل في جثمان الضحية الذي كان قد قتل على أيديهم أو أيدي جلاوزتهم، أو كان التمثيل به يجري كجزء من عملية التعذيب حتى الموت. وتتحدث كتب التاريخ عن اساليب غاية في الوحشية والبشاعة كانت تمارس لانتزاع الاعترافات من الضحايا أو لإجبارهم على التخلي عن أفكارهم ومواقفهم الدينية والسياسية والاجتماعية، أو من أجل زجر الآخرين للكف عن الدفاع عن الفقراء والمحتاجين أو أجبارهم على منح تأييدهم لهذا الخليفة أو ذاك السلطان أو الحاكم والوالي.
إن استمرار ظاهرة الاستبداد السياسي المصحوبة بعمليات السجن والتعذيب للمخالفين بالرأي والعمل لألاف السنين، ومنذ العهود العراقية القديمة، تخلق معها، شاء الإنسان أم أبى، ظاهرة تكريس وتراكم وتطور وتنوع أساليب وأدوات الاستبداد والعنف والتعذيب لدى الحكام وأجهزة الحكم من جهة، وظاهرة رفض المجتمع لهذا الاستبداد والعنف وعمليات التعذيب من جهة أخرى. وتسببت ظاهرة العنف بنشوء ظاهرة العنف المضاد كرد فعل لها، وعن ظاهرة التعذيب والقتل نشوء ظاهرة التعذيب والقتل المضاد أيضاً، إضافة إلى نمو أشكال من الاستبداد في نفسيات المواطنين الذين يقاومون الاستبداد ويرفضون العنف والتعذيب والقتل عندما يكونوا هم تحت وطأته وضحاياه المباشرين. فظاهرة مقاومة الاستبداد والعنف والتعذيب بأشكال مختلفة، بما فيها العنف، تصبح ظاهرة طبيعية ومنطقية في المجتمع. فالحاكم يمارس الاستبداد وأجهزته تمارس العنف والتعذيب والقسوة والقتل إزاء المواطنين لأسباب كثيرة، وهي حقائق واقعة، وهي غير مبررة في كل الأحوال. وإزاء هذا الواقع اندفع المواطنون يقاومون هذا العنف باستخدام شتى الأساليب والأدوات الممكنة دفاعاً عن النفس إزاء سلطة كانت مهمتها الأساسية حماية المواطنين وتوفير الأمن والاستقرار والديمقراطية. فالعنف الذي تمارسه الضحية أو أقرباء أو أصدقاء أو من يتفق مع الضحية بالرأي والعقيدة والمصالح ناشئ أساساً كرد فعل للعنف الذي تمارسه الدولة إزاء الأفراد والمجتمع. وعندما يعم العنف في بلد معين يفترض أن يتجه التحري عن دور الدولة أو الحاكم في كل ذلك، وكذلك البحث في العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الكامنة وراء هذا العنف، إضافة إلى دور الدولة او الحاكم في تكريس تلك العلاقات المتسمة بالاستبداد والعنف وعمليات التعذيب والاستغلال. وينبغي ألَّا ينسى الإنسان حقيقة أن العنف هو الذي يجلب معه العنف المضاد. وكان الشاعر الكبير محمد مهدي لجواهري محقاً حين أكد أن "الدم ينزف دماً.“ إن محاولات اعتبار العنف في العراق جزءا عضويا من طبيعة الشعب العراقي، أي القول بأن الشعب العراقي عنفي بالطبع، لا تستند إلى قاعدة علمية سليمة، بل تستند إلى "قاعدة علمية مبتذلة" وتعتمد المسألة العِرقية والجينات وما إلى ذلك من نظريات عنصرية بعيدة عن الواقع، وتهمل حقائق الأوضاع التي عرفها العراق طيلة العهود المنصرمة من سيادة فعلية لظاهرة الاستبداد والاستغلال والتعذيب الحكومي، أي عنف الدولة والنظم السياسية التي سادت فيه، وهو لا يختلف كثيرا عن تاريخ الشعوب الأخرى إلا بقدر ما مر عليها من تجارب في هذا الصدد.
اتسم العصر العباسي بشكل عام بظاهرة استبداد الخلفاء وممارسة القمع الفكري والسياسي والسجن والتعذيب والقتل والاغتيال والتمثيل بشكل واسع إزاء المعارضين السياسيين والمخالفين في الرأي الذين كانوا، بتقدير الخلفاء والولاة، يشكلون خطرا يهدد الخلافة العباسية ومصالح الخليفة والفئات الحاكمة، أي من منطلق الحفاظ على حكمهم وعلى المصالح والعلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كانت سائدة حينذاك، علماً بأنهم كانوا يطرحون الأمر وكأن القضية ليست سوى دفاعاً عن الدين الإسلامي وحفاظاً على دولة الإسلام. ولم تكن ممارسة أساليب التعذيب تقتصر على أصحاب الفعل الفكري والسياسي المضاد للسلطة فحسب، بل شملت أيضا أصحاب الآراء والمواقف الاقتصادية والاجتماعية المعارضة. وبمعنى آخر ضد من كان يرفض الظلم وغياب العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة ويفضح تفاقم الفجوة بين مستوى حياة ومعيشة الفقراء والأغنياء في المجتمع ويتصدى لها طالباً تغييرها. وكانت ممارسة الاستبداد وعمليات التعذيب لا تقتصر على مؤسسة الخليفة والأجهزة المحيطة به في مركز الدولة العباسية، بل مارسها الولاة والحكام والقضاة وقادة الجيش والشرطة وأجهزتهما في سائر أرجاء الدولة العباسية وبنفس مستوى الظلم والبشاعة واللاإنسانية. وكان الخلفاء أنفسهم يطالبون هذا العامل (الوالي) أو ذاك في الأقاليم المختلفة بممارسة التعذيب ضد هذا الشخص أو ذاك، وضد هذه المجموعة أو تلك، أو قطع رأس هذه الضحية أو تلك وأرساله إلى مركز الخلافة. وإذا كان الحكام الأمويون قد مارسوا الاستبداد والتعذيب على نطاق واسع، فأن العباسيين قد زادوا فيهما وأبدعوا أساليب وأدوات جديدة لممارسة الاستبداد والقسوة.
ويحدثنا تاريخ الحكم الأموي في العراق عن عمليات تعذيب وقتل واغتيالات كثيرة ورهيبة، سواء كان ذلك في فترة حكم زياد بن أبيه، أم في زمن الحجاج بن يوسف الثقفي أم غيرهما. وتعرض الخوارج والعلويون والعباسيون والكثير من أصحاب الفكر والمعارضة السياسية للتعذيب والاغتيال والقتل على أيدي أغلب خلفاء بني أمية. وعندما استطاع العباسيون أخذ الحكم وأقاموا الدولة العباسية أتبعوا نفس النهج الاستبدادي في الحكم ومارسوا نفس أساليب التعذيب والاغتيال وقتل الناس بالجملة وأضافوا إليها الجديد أيضا25.
لقد قدم الخلفاء العباسيون أنفسهم إلى المجتمع العراقي العباسي وإلى المناطق التابعة للحكم العباسي كطغاة وجبابرة لا تعرف الرحمة والمغفرة طريقها إلى قلوبهم، كما كانوا يقيمون حفلات ومهرجانات شعبية لمشاهدة التعذيب والقتل وحمامات الدم التي كانت تنظم ضد الأعداء أو من كان يطلق عليهم بالمعارضين.
اعتبر الخليفة العباسي نفسه ظل الله على الأرض والحاكم باسمه وأمره، وبالتالي فهو معصوم عن الخطأ، والرأي الذي يقدمه يفترض أن يتبع وينفذ ومن يشذ عن ذلك يعاقب أشد العقوبات. ينقل الدكتور إمام عبد الفتاح إمام في كتابه "الطاغية" عن خطبة لأبي جعفر المنصور، بعد أن .“.. أخذ بقائم سيفه، فقال: أيها الناس، إن بكم داء هذا دواؤه، وأنا زعيم لكم بشفائه، فليعتبر عبد قبل ان يعتبر به"26.
كانت أساليب الحكم الاستبدادية، بما فيها الحبس وممارسة مصادرة الأموال والتعذيب والاغتيال والقتل والتمثيل بجثة القتيل في العصر العباسي، تهدف كلها إلى تأمين عدد من الاغراض الأساسية، منها مثلا:
• فرض هيبة الخليفة والحكم على الناس بحيث يبتعدوا عن كل ما يمكن أن يثير غضب الخليفة أو الوالي، وليس بالضرورة ما كان يمكن أن يتناقض مع ما ورد في القرآن والسنة. وكانت العقوبة أو العطاء تتقرران من جانب الخليفة أو من ينوب عنه وفق المعايير الخاصة التي يقررها ويلزم بها الرعية.
• حماية الخلافة من الحركات الفكرية والدينية المعارضة التي كانت تتصدى بجرأة للحكم وتناصب جور وفساد وجشع الخلفاء والولاة العداء وتطالب بعدم الطاعة للجائرين من الحكام وبالتغيير.
• حماية المصالح الاقتصادية للخليفة وكبار المستحوذين على الأراضي الزراعية وما في بيت المال من أموال نقدية وعينية وبقية الفئات الميسورة التي كانت ترى في الحركات الفكرية والدينية والسياسية وفي الناس المُستغَلين والمُستضعَفين خطرا يهدد تلك المصالح. وبالتالي فالاستبداد والقمع الفكري والسياسي موجه بالأساس لتلك الحركات والشخصيات الفكرية والسياسية التي التزمت قضايا المنتجين من الفلاحين والحرفيين وبقية الكادحين والفقراء المعدمين.
• وكانت نظرة الخلفاء إلى الرعية نظرة احتقار أو عدم اعتبار، أو أنهم قطيعا يمكن سوقه بالطريقة التي يرونها مناسبة، وبالتالي فأن من ينخرط في حركات من هذا النوع يستحق كل أشكال العقاب بما فيه الموت. وكان التعذيب والقتل يطال ايضا اولئك الناس الذين يتخلفون عن دفع الضرائب أو أولئك الذين يتهمون بالسرقة من بيت المال مثلا أو غيرها من التهم.
• وكان التعذيب يستهدف انتزاع المعلومات من المتهمين، أو الاعتراف "بالذنب"، أو لأغراض الانتقام، أو للتخلص من منافسة البعض، أو بسبب الشك بعد إخلاصهم للخليفة أو لأحد الولاة أو إزاء الحكم عموماً.
وبصدد النقطتين الرابعة والخامسة ورد في كتاب آدم متز الموسوم بالحضارة الإسلامية ما يلي، مشيرا إلى فنون التعذيب التي كانت ترتكب حينذاك بحق المتهمين:
"وأما القسوة وإلحاق الأذى من جانب القاضي الذي يحقق في مسألة - ولهذه القسوة في تاريخنا صحائف طويلة مملوءة بالفظائع - فقد منعتها الشريعة الإسلامية وذلك بأن اعتبرت الإقرار الذي يُكره عليه الإنسان بالأذى والتعذيب أو بمجرد صياح القاضي به، إقرارا باطلا غير قانوني، أما صاحب الحرس فكان له ان يسأل من يحقق أمره ويؤذيه "ويضربه بالسوط والقلوس والمقارع والدرّة على ظهره وقفاه ورأسه وأسفل من رجله وكعابه وعضله" وكانت المقرعة تعتبر أقل إيذاء من السوط"27. ثم يواصل قوله: " وثَمَّ ضروب من التعذيب كان لا يأتيها إلأ الذين يتولون مسائل الإدارة والخراج، ليكرهوا الناس على إخراج المال. وكان التعذيب الذي اختصوا به أن يعلقوا من يبتلى بهم من يده أو رجله، ويتركوه معلقا حتى تنحل قوته. وأقسى عقوبة عند القاضي المسلم هي الرجم للشخص المحصن، إذا زنى وهي عقوبة كأنها لم تفرض، لأن الشريعة تحتم في الإثبات شروطا يكاد توفرها يكون مستحيلا".28 وهي عقوبة رهيبة مليئة بالألم والعذاب الجسدي والنفسي والمهانة ثم الموت المحقق، حيث يتعرض الإنسان الذي يراد رجمه بالحجارة والمطروح أرضا، أو المدفون بجزء منه تحت الأرض، إلى تلقي الحجارة المتساقطة عليه من كل الجهات من الناس المتجمعين لهذا الغرض أو من المارة حتى يهلك، دون أن يعرف رماة الحجارة أحيانا أسباب الرجم.
وفي هذا المقطع يميز الكاتب بين التعذيب الذي يتعرض له الضحية من جانب أجهزة الدولة، والعقوبات التي تنزلها الدولة بالضحية. إلا أن العقوبات ذاتها ليست سوى أساليب قاسية في التعذيب. فالرجم يترك الضحية يتضور ألما ولا يموت بسرعة، بل يعاني من آلامه ساعات وربما أيام قبل أن يفارق الحياة. فالعقوبات التي تمارس في الإسلام لا تختلف عن اسالسيب التعذيب، فهي بالمحصلة النهائية واحدة لما تجلبه للضحية من عذابات جسدية ونفسية ومهانة اجتماعية. لقد مورس الرجم ضد من اتهم وثبت عليه الزنى، ولذلك لا يمكن القبول بقوله "وهي عقوبة وكأنها لم تفرض"، بسبب الشرط الذي وضع لأثباتها. ويفترض أن المشرع قد أقر سلفا إمكانية أو احتمال وقوع الزنى، وبالتالي إمكانية البرهنة على وقوعه، ومن ثم ممارسة عقوبة الرجم، وإلا لما كان للعقوبة من معنى أساسا. ولا يغفل الإنسان إمكانية وقوع شهادة زور يتفق عليها لإثبات وقوع الزنى. وهو احتمال لا يمكن رفضه، إذ أنه يحصل في الكثير من المسائل الحياتية، وتاريخ التعذيب وأحكام الموت التي صدرت في عهد الدولة العباسية يؤكد إمكانية العثور على من يشهد أو يحكم زورا، وخاصة لتحقيق أغراض الخليفة أو غيره من الولاة والحكام أو حتى القضاة.
وجدير بالإشارة إلى أن عددا من رجال الدين والفقهاء والقضاة قد ساهموا في تنشيط عمليات التعذيب والقتل والاغتيال إزاء الناس من ذوي الأفكار المخالفة للدين الرسمي أو من أصحاب الاتجاهات السياسية المعارضة لسياسة الدولة من خلال إصدارهم بعض الفتاوى أو الأحكام، علما بأن آخرين قد رفضوا ذلك، وأن كانوا قد التزموا بتلك العقوبات التي نص عليها القرآن، أو تلك التي ماثلت ما أمر أو عمل به محمد بن عبد الله في حياته.29
وأورد الشيخ محمد الخضري بك في كتابه الموسوم تاريخ الأمم الإسلامية (الدولة العباسية) حول الإرهاب الفكري والاجتماعي الذي مارسه الحنابلة، وهم يشكلون فرقة إسلامية متطرفة، في مطاردة المنكر في بغداد في عام 323 هجرية/ 934 م قوله: "ومما زاد الأمر إدبارا ظهور المنازعات الدينية ببغداد عاصمة الخلافة فقد ظهر بها الحنابلة وقويت شوكنهم وصاروا يكبسون دور القواد والعامة وإن وجدوا نبيذا أراقوه وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء واعترضوا في البيع والشراء ومشي الرجال مع النساء والصبيان فإذا رأوا من يمشي مع امرأة أو صبي سألوه عن الذي هو معه من هو؟ فأن أخبرهم وإلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة فأزعجوا بغداد"30. وأدى هذا التصرف، كما يشير الكاتب نفسه، إلى موقف مناهض للحنابلة اتخذه صاحب الشرطة ببغداد فكتب يقول: "فركب بدر الخرشني وهو صاحب الشرطة ونادى في جانبي بغداد في أصحاب محمد البربهاري: الحنابلة لا يجتمع منهم اثنان ولا يناظرون في مذهبهم ولا يصلى منهم إمام إلا إذا جهر ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاة الصبح والعشاءين فلم يفد فيهم وزاد شرهم وفتنتهم واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون إلى المساجد وكانوا إذا مر بهم شافعي المذهب أغروا به العميان فيضربونه بعصيهم حتى يكاد يموت فخرج توقيع الراضي بما يقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم ويوبخهم باعتقاد التشبيه وغيره فمنه تارة أنكم تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين وهيئتكم الرذلة على هيئته وتذكرون الكف والاصابع والرجلين والنعلين والشعر والقطط والصعود إلى السماء والنزول إلى الدنيا تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ثم طعنكم خيار الآئمة ونسبتكم شيعة آل محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكفر والضلال ثم استدعاؤكم المسلمين إلى التدين بالبدع الظاهرة وتشنيعكم على زوارها بالابتداع وأنتم مع ذلك تجتمعون على زيارة قبر رجل من العوام ليس بذي شرف ولا نسب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرون بزيارته وتدعون له معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء فلعن الله شيطانا زين لكم هذه المنكرات وما أغواه وأمير المؤمنين يقسم بالله قسما جهدا يلزمه الوفاء به لئن لم تنتهوا عن مذموم مذهبكم ومعوج طريقتكم ليوسعنكم ضربا وتشريدا وقتلا وتبديدا وليستعملن السيف في رقابكم والنار في منازلكم ومحالكم"31.
فماذا يقدم لنا هذا النص الطويل الذي اقتطفناه الذي يرد في أكثر من كتاب يبحث في تاريخ الدولة العباسية؟ إنه يشير إلى جملة من حقائق الوضع حينذاك، ومنها:
• إن التطرف في الدين كان ظاهرة ملموسة ومؤذية بالنسبة للمجتمع تبيح التجاوز على حقوق الفرد وحريته، كما يظهر من سلوك الحنابلة إزاء عامة الناس.
• إن هذا التطرف لم يقابل بالحكمة ومحاولة معالجة المشكلة مع شيوخ الحنابلة لإيقاف العامة منهم عن ممارسة التدخل في شؤون الناس والتعرض لهم في الشوارع والبيوت والشهادة زورا على الناس. كما أن لم يكن جميع شيوخ الحنابلة يتسمون بالحكمة اللازمة لإيقاف اعتداءات أتباعهم على الناس الآخرين، بل كان بعضهم ينشط تلك الاعتداءات باعتبار ذلك من صلب الدين ودفاعاً عن حرمته؛
• قوبل هذا التطرف بثلاثة أساليب غير محمودة ومسيئة للأفراد والمجتمع وهي: أ) التشنيع المتعمد بأصحاب مذهب في الدين الإسلامي، رغم تطرف تصرفاته، وبالتالي الإساءة لهم اجتماعيا؛ ب) الإساءة لأولياء هذه الفرقة الإسلامية وبالتالي تشديد الصراع معهم بدلا من تخفيفه ومعالجته؛ ج) تهديدهم بالتعذيب والقتل وحرق بيوتهم ومحالهم.
تشير وقائع التاريخ إلى أن الخلفاء في العهدين الأموي والعباسي كانوا يجاهرون بممارسة سياسات الإهانة والتعذيب والحبس والقتل وحرق البيوت دون أي اعتبار لدورهم في حماية الناس والشريعة والعدل، وبالتالي كان هذا العنف في التعامل يجابه بعنف من أصحاب هذا المذهب أو ذاك أيضا.
شكل التعذيب جزءا من فلسفة الحكام الطغاة واعُتبروه أحد الأركان الأساسية لبناء حكم متين وقويم ومستديم! كما اعتبروه مقترنا بإرادة الله التي يمثلونها. وكانت حصيلة هذه الفلسفة تفاقم القمع والتعذيب ضد المزيد من الناس وممارسته بصورة واسعة. وكانت ممارسات التعذيب الشنيعة في فترة الحكم العباسي "الإسلامي" قد استندت إلى واستلهمت من عدة مصادر أساسية هي:
• القرآن والسنة التي ورد فيهما ما يسمح بذلك، رغم وجود نصوص، وخاصة في السُنة المحمدية، ترفض التعذيب. وتشير بعض المصادر عن سيرة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب إلى أنهما قد التزما إلى حدود بعيدة بما جاء في سُنة محمد، إذ نادرا ما يشار إلى ممارستهما العقوبات القاسية ضد المخطئين، في حين تشير مصادر أخرى إلى أنهما ساهما بذلك من خلال محاولتهما تطبيق مبادئ الإسلام بصرامة بالغة32. فيروى عن علي بن أبي طالب مثلاً أنه عندما جاء إليه عمه حمزة طالبا منه مساعدة من بيت المال، وكان حمزة بصيرا، وضع علي بن أبي طالب على يده المفتوحة شيشا محميا بالنار بدلا من النقود، مشيرا إليه إلى أن هذا هو ما ينتظرهما في الآخرة إذا ما وافق على دفع المساعدة من بيت المال. إنها مقاربة قاسية مع التعذيب في نار جهنم الذي ينتظر البشر المذنب يوم القيامة. والرواية تحاول أن تبرز جانب الأمانة على بيت المال والعدل في التوزيع، بمن فيهم اقاربه، ولكنها تتجلى فيها القسوة الشديدة إلى حد إيذاء رجل أعمى أيضا مستندا في ذلك إلى أن نار الآخرة أشد هولا من كوي يد حمزة، أي أنه قد انطلق من خشيته على عمه حمزة وعلى نفسه من عذاب الأخرة التي تعبر عن إيمانه بوجودها.
• الأساليب التي كان يمارسها قبل ذاك الحكام الطغاة من الفرس في العراق، أو حكام الشام ومن تاريخ المنطقة في الاستبداد والتعذيب التي مارسها الحكام قبل الإسلام؛
• من علاقات العبودية القديمة والأبوية ومن ثم الإقطاعية الاستغلالية التي كانت تمارس التعذيب، إضافة إلى النظرة التمييزية والاستعلائية إزاء الآخرين، باعتبارهم أدنى مستوى منهم ويحتاجون إلى التأديب والتهذيب.
• ومن خلال ممارسة التعذيب من جانب الحكم العباسي وتفاقمها مع تصاعد نشاط الحركات الفكرية والسياسية أو من أجل فرض إرادة الخلفاء والولاة والسلاطين وزيادة الضرائب والإتاوات على الناس دون وجه حق أو مصادرة أموال بعض الناس لأسباب شتى بما فيها حاجة هؤلاء بصورة شخصية إلى المال، تحولت الدولة العباسية تدريجا إلى دولة إرهابية تطور فيها نظام الأمن والتجسس والشرطة والسجون والعقوبات إلى حدود بعيدة. وأدت هذه السياسات إلى تفاقم النقمة والرغبة في الخلاص من الحكم وإلى تزايد الحركات السياسية وعمليات التآمر ضده، كما جعلت سياسة الحكم ممارسة نفس أساليب القمع والتعذيب ضد بعض الخلفاء والولاة أنفسهم من جانب المنافسين لهم، أو من بعض القادة العسكريين حينذاك ممكناً. ولا يمكن اليوم تجاوز حقيقة أن هذا النوع من الإرهاب الفكري والسياسي والتعذيب الوحشي الذي ارتكب بحق الناس في تلك العهود وما بعدها، قد ترك فلسفته وتقاليده وممارساته على الحكم في العراق حتى يومنا هذا، مع التطور الذي صاحبه خلال الفترة الطويلة المنصرمة. فالطغاة متشابهون في سائر أرجا العالم وينهلون من معين مشترك وينتهون نهاية واحدة في الغالب الأعم.
• وكانت عقوبة السجن التي يصدرها القاضي، أو الأمر الذي يصدره الخليفة أو الوالي بسجن هذا الإنسان أو ذاك لأي سبب كان ودون العودة إلى القوانين السارية ظاهرة عامة على امتداد فترات الحكم العباسي، وقبل ذاك الحكم الأموي. ووجدت لديهم السجون والمطابق في مختلف المدن العراقية حينذاك وفي ارجاء الدولة العباسية33. وكان السجين يقضي سنوات طويلة من عمره دون أن يصدر حكماً عليه، كما كان بعضهم يموت في السجن دون أن يعرف به أحدا. وقضى بعضهم ما يقرب من ربع قرون في السجون العباسية. "وفي عهد المعتصم بني حبس بستان موسى، وكان كالبئر العظيمة قد حفرت إلى الماء أو قريباً منه، وضم بناءً على هيئة المنارة مجوفاً من باطنه، وله من داخله مدارج، وقد جعل في مواضع من التدريج مستراحات، كل مستراح شبيه بالبيت، يجلس فيه رجل واحد على مقداره، يكون فيه مكبوباً على وجهه، وليس يمكنه أن يجلس ولا أن يمد رجله"، هذا ما جاء في كتاب العامة في بغداد للدكتور فهمي سعد نقلاً عن التنوخي في كتابه "الفرج بعد الشدة34. وكان أصحاب الحبوس يمارسون شتى أنواع التعذيب بحق السجناء، كما كانت الشرطة تمارسه عند اعتقالها للضحية. وكان السجناء يوزعون على السجون أو على أقسام فيها وفق التهم الموجهة لهم، فمنهم من حبس بتهمة الزندقة أو بتهمة الخوارج، ومنهم العامة واللصوص وقطاع الطرق. وسمي صاحب الحبس أحيانا بصاحب العذاب بسبب العذابات التي كان يتعرض لها السجين طيلة وجوده في السجن، إلى حين إطلاق سراحه بمرحمة من الخليفة أو الوالي، أم بسبب موته في السجن، كانت تحصل تمردات في السجن وتساند من قبل عوائل السجناء والمهتمين بشؤون العامة والمحبوسين. وكانت السجون عموما قذرة ومليئة بالحشرات، من خنافس وبنات وردان، كما كانت مسرحاً للأفاعي والبق.35
المصادر والهوامش
1 هادي العلوي، فصول من تاريخ الاسلام السياسي، دفاتر النهج. مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، نيقوسيا، قبرص، 1995، ص 329-348.
2 عبد الحكيم الذنون، تاريخ القانون في العراق، ط 1، دار علاء الدين، دمشق، 1993، ص 55-57.
3 المصدر السابق نفسه، ص 65-71.
4 المصدر السابق نفسه، ص 82-85.
5 المصدر السابق نفسه، ص 102-134.
6 القرآن الكريم، سورة الأنعام، آية رقم 164، ص 150، راجع أيضاً: هادي العلوي، مصدر سابق، ص 334.
7 القرآن الكريم، دار الجيل، بيروت، سورة الفيل، مكية، ترتيبها 105، 5 آيات، ص 601.
8 القرآن الكريم، المصدر السابق نفسه، سورة الحجر، مكية، ترتيبها 15، آياتها 99، ص .266
9 القرآن الكريم، المصدر السابق نفسه، سورة المائدة، مدنية، ترتيبها 5، آياتها 120، آية 33، ص 113.
11 المصدر السابق نفسه، آية لاقم 38، ص .14،
11 المصدر السابق نفسه،
12 القران الكريم، المصدر السابق نفسه، سورة النساء، مدنية، ترتيبها 4، آياتها 176، الآية 56، ص 87،
13 المصدر السابق نفسه، سورة التوبة، مدنية، ترتيبها 9، آياتها 129، الآية 34 و35، ص 192.
14 هادي العلوي، فصول من تاريخ الاسلام السياسي، مصدر سابق، ص 335.
15 هادي العلوي، فصول من تاريخ الاسلام السياسي، مصدر سابق، مصدر سابق، ص 329.
16 سيد محمود القمني، حروب دولة الرسول، في جزئين، الجزء الثاني، المدبولي الصغير، القاهرة، 1996، ص 47/48.
17 المصدر السابق نفسه، ص 98.
18 سيد محمود القمني، حروب دولة الرسول، في جزئين، الجزء الثاني، المدبولي الصغير، القاهرة، 1996، ص 127/128، (التشديد من ك، حبيب).
19 المصدر السابق نفسه، ص 128/129.
20 المصدر السابق نفسه، ص 130.
21 المصدر السابق نفسه، ص 131.
22 المصدر السابق نفسه، ص 131.
23 المصدر السابق نفسه، ص 87.
24 المصدر السابق نفسه، ص 87/88.
25 يشير صاحب كتاب الخوارج، علي جفال، إلى صور من التعذيب التي تعرض لها رجال ونساء الخوارج في عراق العهد الأموي، إذ ينقل الواقعة التالية التي جرت بين عبد الله بن زياد بن أبيه، والي العراق حينذاك، وعروة بن أدية، وهو من قادة الخوارج وأخو مرداس بن أدية، أحد أبرز قادة الخوارج الذي قتل على أيدي الأمويين ايضا حين بدأ اللقاء بقول ابن زياد لعروة:
"- أجهزت أخاك عليَّ؟ -فقال عروة: والله ما كنت به ظنينا، وكان لي عزّاً، ولقد أردت له ما أريد لنفسي، فعزم عزما، فمضى عليه وما أحب لنفسي إلا المُقام وترك الخروج، قال له: أفانت على رأيه؟ قال: كلنا نعبد رباً واحداً، قال أما لأمثلن بك، قال عروة: اختر لنفسك من القصاص ما شئتَ، فأمر به فقطعوا يديه ورجليه، ثم قال كيف ترى؟ قال أفسدت عليَّ دنياي وأفسدت عليك آخرتكَ، ثم أمر به فقتل ثم صلب على باب داره، ولم تقتصر قسوة أبن زياد على رجالات الخوارج، بل تعدتها إلى نسائهم، حيث إن أحداهن وتدعى البلداء، أتي بها إلى أبن زياد، فقطع يديها ورجليها ورمى بها في السوق، …،“، المصدر السابق نفسه، ص 33/.4،
26 إمام عبد الفتاح إمام، أ. د.، الطاغية- دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي، سلسلة عالم المعرفة رقم 183، الكويت 1994، ص 220.
27 أدم ميتز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، في مجلدين، المجلد الثاني، الدار التونسية للنشر، تونس، والمؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، تونس-1986، ص618.
28 المصدر السابق نفسه، ص 618.
29 العلوي، هادي، فصول من تاريخ الاسلام السياسي، التعذيب في الإسلام، ص 329-348.
30 الخضري بك، الشيخ محمد، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية (الدولة العباسية)، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ، ص 365.
راجع أيضاً: آدم مِتز، الحضارة الإسلامية، مصدر سابق، ص .603
31 الخضري بك، الشيخ محمد، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية (الدولة العباسية) مصدر سابق، ص 365.
32 العلوي، هادي، فصول من تاريخ الاسلام السياسي، التعذيب في الإسلام، مصدر سابق، ص 336/337.
33 المطبق هو السجن الذي يبنى أو يقام تحت سطح الأرض، وجمعها مطابق.
34 فهمي عبد الرزاق سعد، د.، العامة في بغداد في القرنين الثالث والرابع الهجريين، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1983، ص 99.
35 المصدر السابق نفسه، ص 101.