في محاسن التجربة السجنية وفضائلها .


امال قرامي
الحوار المتمدن - العدد: 5798 - 2018 / 2 / 25 - 23:32
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم     

في محاسن التجربة السجنية وفضائلها ...
آمال قرامي
سارق الطماطم أو زادني الحبس عمرا للصادق بن مهنّي

هل نلومه لأنّه سرق الطماطم وننعته بالسارق تقبيحا لفعل اقترفه ووصما يصاحبه في حلّه وترحاله... والحال أنّهم سرقوا منه سنوات من حياته؟ لا مجال للّوم أو العتاب أو الإدانة فمن لم يختبر المطاردة وتجربة العيش في الزنزانة المظلمة ، والتعذيب ...لا يحقّ له اصدار الأحكام الأخلاقوية.
ينسّب" الصادق بن مهني" الأمور فيرى الجانب الإيجابي في التجربة السجنية مثله مثل صاحب "نظارات أمي فيضيف إلى العنوان الرئيس لكتابه سارق الطماطم عنوانا آخر زادني الحبس عمرا فيغدو العنوان دعوة صريحة إلى التجريب وشدّ الرحال إلى عالم المساجين : مساجين الرأي أو سجناء الفكر والفعل السياسي.
تطالع الكتاب فتكتشف أنّ صاحبه رسم لنا مسار تشكّل صور عديدة :السجن ، السجّان، الأصدقاء،حاكم التحقيق، القاضي، ...وضمّن دلالات عديدة للمعاني فأن تكون حرا هو أن تعيش وراء القضبان لا خارجها ... و"الإيداع بالسجن خلاص" (ص32) وأن تكون متعففا وكريما وأبيّا ...هو أن لا تتوغل في وصف المعاناة وهول التعذيب ... وأن تكون سجينا و أن تتمسك بتعريف نفسك : المعتقل ....وكأنّ الصادق دخلن المثل المتداول الطير البرني كيف يطيح ما يتخبطشي
تتأمّل في سرد الوقائع فتعجب من الكنايات والاستعارات والترميز والتلاعب بالصور: صورة البعير حين يعلق الجزار الجمل اعلانا عن موعد طبخ "الملوخية " وصورة السجين حين يعلقه الجلاد إيذانا بحفلة تعذيب...فتعقد صلة بين الحيوان والبشر فتتعاطف معهما معا (ص28)
التجربة السجنية تجعلك تعيد ترتيب علاقتك بذاتك وبالآخرين وبالأشياء(الخبزة والبطاطا والطماطم والخضر ...) من حولك والكائنات المختلفة كالبقّ الذي يهجم عليك ليلا (ص34) و القفة والتواصل مع الخلان فيصبح الكلام مع الآخرين باعتماد الشفرات ، والكنايات...ويصبح التحديق في الوجوه وسيلة لفك الرسالة ، وإدراك التطورات التي حصلت للآخرين.
التجربة السجنية تحثّك على أن تتصالح مع جسدك بعد أن خطّ عليه الجلاد سطورا فوصمه "ومن يومها أحببت بدني أحببتني لدرجة أنني لم أكره جلاديّ، ولم أحقد عليهم. أشفقت عليهم فقط وغضبت لهم فازددت حنقا على آمريهم خانقي شعبنا (ص28) وتعلمك الإقامة في الزنزانة ما اللمس؟ ما الشمّ؟ ما الإبصار؟ ما الظلمة؟ ما النور؟ ...وتدرك دلالات السوائل: الدم، البول... ، وتستمع إلى الضراط بين الزملاء والأصدقاء...
ولمّا كان السجن في المتخيل الجمعي مرتبطا ب الرجال وهو فضاء لاختبار الرجولة والشجاعة والجلد وصناعة الزعماء بامتياز...فإنّ التجربة السجنية ظلّت مخبرة عن بطولات أصحاب نمط من الرجولة المتميزة. ولكنّ الصادق يعترف بأنّه ما كان ليصمد لولا حضور الزوج: ذكورة/انوثة. لست أنا من صمدت ...صمدت فيّ جميلة بوحيدر تعذّب ولا تنثني "(ص32) المرأة حاضرة فيه تلهمه تدفعه إلى الأمام تحفّزه على الوقوف بوجه الجلاّد....اقرار الصادق بالأنموذج المحفّز الذي استلهم منه القوّة يقلب المعايير السائدة : الرجل/القوّة/الشجاعة في مقابل المرأة/الضعف/الجبن.... والصورة النمطية والأقوال المتداولة: "وراء كلّ عظيم امرأة"،...تقرأ فتفهم الأسس التي انبنت عليها علاقة "الصادق بابنته لينا وبغيرها من النساء...
التجربة السجنية تمنحك فرصة صقل المهارات وسد الثغرات المعرفية فتلتهم كل الكتب وتنتقل من عالم الفن التكعيبي والسريالي إلى عالم التخييل :القصص والروايات وغيرها من الدراسات. فتخرج مثقفا بامتياز لتشكر سجّانك ولتسرد على الآخرين محاسن السجن وفضائله....
لا يعنني تصنيف الكتاب ضمن الكتابات السجنية لليسار التونسي التي توثق رحلة النضال والتي تتجاور مع كتابات سجنية للإسلاميين وليس البحث في الأسلوب وتقنيات السرد والحوار ...من مشاغلي فقد حدت منذ البدء عدسة القراءة تفكيك التجربة السجنية باعتبارها رحلة في أعماق الذات الإنسانية تتوغل في مسالك الوعي واللاوعي، الألم والفرح ، الموت والحياة ...إنّها طقس عبور ...ولادة جديدة.