الإسلاموية وتدمير النفس البشرية


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 5795 - 2018 / 2 / 22 - 23:31
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

أصداء الحوار في البحث عن كيفية صناعة ثقافة تنويرية وحداثية في العالم الإسلاموي.
« المتدين لابد أن يستشرس ، عندما يشعر بدنو الأجل » يونج

الإرهاب الفكري المؤدلج يعد من أخطر أنواع الإرهاب وأشدها تدميًر، لأنه يبطش بعقل المرء ووعيه وضميره، فيحوِّله إلى آلة صماء، ويقطع علاقتة بالوطن والتاريخ والذاكرة ويخرب علاقاته الإنسانية بالآخرين. إنه استخفاف بعقول البشر وتدمير ممنهج لفطرتهم الإنسانية، ويؤدي بالضرورة إلى القتل والاغتيال والإبادة والإذلال والظلم، وينثر الخوف والهلع والشعور بالقلق وانعدام الأمن والاستقرار النفسي بين الناس.
والإرهاب الفكري المؤدلج هو ذلك الإرهاب الذي يعتمد على أيديولوجية سياسية أو دينية، تتبناها وتقوم بدعمها ورعايتها تنظيمات ومؤسسات تحرِّض عليه وتؤججه، بهدف إسكات الآخرين وإخراسهم ليتسنى لها نشر أفكارها دون أي معارضة. والويل كل الويل لمن تسول له نفسه الخروج عن خطها المرسوم.
لا شك في أن هذا النوع من الإرهاب موجود بمستويات مختلفة في العديد من المجتمعات، بهدف تسييسها والسيطرة عليها، ويمكن وصفه بأنه ظاهرة عالمية ولكنه ينتشر بشكل وبائي في المجتمعات المنغلقة وذات الثقافة المؤدلجة والشمولية، وفي مقدمتها تلك الدول التي تطغى فيها ثقافة إسلاموية بشكل ما، حيث يتجسد في ممارسة الكراهية والضغط والعنف والاضطهاد والتصفيات الجسدية ضد أصحاب الثقافات الأخرى والآراء المغايرة.
ولكن تحتم على الكثير من دول العالم في وقت ما من أن تنبذ الاعتماد على الدين كأيديولوجية، بهدف تسييس مجتمعاتها، كي تدخل بذلك في عصر النهضة والتقدم والرقي المادي والمعنوي، كما أن إعتماد الإرهاب الفكري فيها على الإيديولوجيات السياسية تقلص كثيرًا بعد سقوط الفاشية في إيطاليا والنازية في ألماني والشيوعية مع سقوط المعسكر السوفييتي، بينما ظل العربان والمتأسلمون يراوحون مكانهم منذ تمت فبركة ديانتهم وتشكيل ثقافتهم على أساس أنها صالحة لكل زمان ومكان، هذا الأساس اللاموضوعي واللاعقلاني أعمى الكثيرين منهم عن رؤية عدم صلاحيتها لهم أنفسهم، وإلحاقها الضرر بهم وبمصالحهم، ودائما ما تكون حججهم في ذلك جاهزه ومُقوْلبة في تعبيرات مثل: ابتعاد المتأسلمين عن صحيح الدين أو أنهم لم يفهموا دينهم على حقيقته أو بسبب غضب من الله أو امتحان منه أو لأن لهم الجنة ولغيرهم نار جهنم وبئس المصير ... إلى آخر هذا الهراء والتحقير لقيمة العقل وكرامة الإنسان. والأدهى من ذلك كله عدم إدراكهم بأن ديانتهم والثقافة القائمة عليها أفرزت منذ بدايتها جماعات إرهابية وإجرامية لا حصر لها وقذفت بالعربان والمتأسلمين في جحيم الحروب الدموية والاغتيالات والقتل والتنكيل. فأصبحوا يدمرون أنفسهم ويدمرون غيرهم!

كيف حدث هذا، ولماذا؟
إن النفس البشرية تصل إلى مرحلة تدمير الذات، عندما لا تقف على قاعدة إنسانية راسخة من الإنصاف والتسامح والمحبة، وتهيم في أثير من الضلال وعدم اليقين والتخبط بين التبريرات المختلفة والمتناقضة للمفهوم النسبي بين الحلال والحرام، وخلط الحق بالباطل، فيتم انتزاعها من سياقها الغريزي وميلها الفطري نحو الخير، والقذف بها في أتون الشر، عندئذ لا تجد أمامها سوى الكراهية المبررة والمدعومة بتعليمات منسوبة لقوة ميتافيزيقية، صنعها الأشرار لإرضاء أنفسهم الشريرة.
ومن المفارقات العجيبة بل والشاذة أن العربان والمتأسلمين بوجه عام يعرفون أن الغرب وأمريكا والعالم برمته يعرف حقيقتهم وحقيقة ديانتهم، ويكرههم ويكره ديانتهم، ويكن لهم عداوة مزمنة، وأن هناك بالفعل خوف رهيب منهم ومن ديانتهم عُرِف حديثًا بمصطلح "الإسلاموفوبيا"، ومع ذلك يحاولون بإصرار - كعادتهم دائمًا - أن يطبقوا العلم الوحيد الذي أتقنوه وبرعوا فيه، ألَّا وهو "علم الطرمخة".
(تعبير الطرمخة الذي ابتكره الذكاء الشعبي المصري أوضحت معناه في مقال سابق، بعنوان: هل التأسلم يُعَلِّم البجاحة والوقاحة؟ نشر بتاريخ 2017 / 3 / 16 في الرابط التالي:
http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=551704&r=0
هذه الطرمخة أو " المسكوت عنه" في الديانة الإسلاموية وتاريخها المفبرك، وعدم التطرق بالحديث إليه، ما هو إلَّا سلوكيات مؤذية ومخزية ولا إنسانية مارسها نبيهم (الكريم) وصحابته (الراشدين) والتابعين لهم إلى يوم الدين، وعندما يفصح عنها أحد العارفين خاصة من المستشرقين، يبادر رجال الدين إلى ضحدها والقول بأنها من الشبهات، وكأن في هذه الديانة شيئًا من الحقيقة أو أن بها ما ينأى عن الشبهات. هذه الطرمخة أخذت بمرور الزمن وضعًا علميا وأكاديميًا منذ بداية تلفيق الديانة على أيدي الأمويين والفرس العباسيين، فأصبحت لها كتاتيب ومدارس ومعاهد وجامعات ودراسات وتخصصات سُفْلَى ومتوسطة وعليا، وكُوِّنت لها الجمعيات والجماعات والمؤسسات والمنظمات والأحزاب والحسينيات، وبنيت لها المساجد والمقامات في كل مكان، لتتولى العمل عليها ونشرها بين الرعاع والسذج ومغيبي الوعي. وقامت جيوش مجيشة ومعبأة دائمًا ممن يسمون أنفسهم "أولي الأمر والنهي" على رعايتها وحراستها، ومعاقبة كل من تسوِّل له نفسه المساس بها.
المتأسلمون مكتوب عليهم بحكم داينتهم ونصوصها المقدَّسة أن يكرهوا إنفسهم ويكرهوا نفوس الآخرين، وأن يكرهوا حياتهم وحياة غيرهم من أجل حياة أخرى في انتظارهم بعد الموت، قال عنها نبيهم الكريم على لسان إلهه : "أعْدَدْتُ لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" (البخاريستاني ومسلم النيسابوري) وقوله: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة 17] .
هنا تنطلق فانتازيا الدَّجالين والمرتزقة وقطاع الطرق لا لتقول لنا فحسب من هم عبادَه الصالحين، بل وتقول أيضًا ما هي جنة إلههم المزعومة وماذا ينتظرهم فيها: " فهي نورٌ يتلألأ ، لبنةٌ من فضّة ولبنةٌ من ذهب، ترابها المسك والزّعفران، قدّ أعدّ الله فيها للمؤمنين المتّقين ما تلذّ أعينهم وتشتهي نفوسهم من الفواكه التي تشبه فواكه الدّنيا شكلاً واسماً وتختلف عنها رائحةً وطعماً، وقد أعدّ الله لعباده من أنواع لحوم الطّير والأنعام ما يشتهون، يطوف عليهم الغلمان المخلّدون بأكوابٍ وأباريق وكأسٍ من معين، فيذوقون فيها ألواناً مختلفةً متنوعةً من الطّعام والشّراب بلذةٍ مضاعفةٍ وشهوةٍ لا تنقطع ولا تنقضي ، ويحلّى أهل الجنّة بالحليّ والجواهر ويلبسون الثّياب الخضر التي صنعت من سندسٍ واستبرقٍ وحريرٍ خالصٍ ، ولكلّ واحدٍ منهم زوجاتٌ له من الحور العين يتمتّع بهنّ ويعدن أبكاراً كلّما أتاهم ، وهنّ مقصوراتٍ في خيامهم لأزواجهنّ ، قاصراتٍ طرفهنّ على أزواجهنّ فلا ينظرن إلى غيره وهذا منتهى النّعيم واللّذّة ، كلّهنّ على سنٍّ واحدةٍ عاشقاتٍ لأزواجهنّ متدلّلاتٍ ، لا يسمع منهنّ إلا أحلى الألحان يغنين بها ، ولا يجد المؤمن منها إلّا الرّوائح التي لم تخطر على قلب بشر في طيبتها ، وإنّ في الجنّة لغرفاً أعدّها الله للمتقين لعباده أصحاب الدّرجات يرى باطنها من ظاهرها ، وإنّ في الجنّة لشجرةٌ يسير الرّاكب في ظلّها مائة عامٍ لا يقطعها ، وهذا الظلّ الممدود الذي تكلّم عنه ربّ العزّة في كتابه ، وفي الجنّة أنهاراً من خمرٍ وعسلٍ لا يسكر ولا يذهب عقل المؤمن المتنعّم ، وكلّ ذلك يتنعّم المسلم به من الخيرات يرشح من جلده رائحةً كرائحة المسك".
وصف الجنة بالتفصيل الممل كالعادة على الروابط الثلاث التالية:
http://forum.el-wlid.com/t501355.html
http://islammme.blogspot.pt/2013/08/blog-post_9357.html
http://mawdoo3.com/ما_يوجد_في_الجنة
من الواضح أن مكان مثل هذا تم إعداده وتجهيزه في المقام الأول لعقول فارغة إلَّا من الرمال، ونفوس متصحِّرة تعيش في بيئة قاحلة جدباء لإشباع غرائزهم الجنسية وحاجاتهم الأساسية المحرومين منها أو التي يتوقون إليها. ولأنهم أقذار ورائحتهم نتنة، فبعد تنعُّمِهم بهذه الخيرات، "يرشح من جلودهم رائحةً كرائحة المسك".
ألَّا يحق إذن للمتأسلم أن يكره نفسه ونفوس الآخرين في الحياة "الدنيا" طمعا في تلك الحياة "العليا" بعد فنائه؟!. وألَّا يسلم من تلك الكراهية الكثيرون ممَّن يفرون من جحيم القهر والفقر والمرض والفساد والانحطاط الخلقي في بلادهم المتأسلمة ويهرولون إلى بلاد الكفر سعيًا إلى الإنصاف والتسامح والمحبة؟. يحملون في نفوسهم فيروس الكراهية المبثوثة بين ثنايا التأسلم الوراثي - الثقافي وأسلمة الكفار بشتى الأساليب المشروعة وغير المشروعة، واستحلال أموالهم ونسائهم.
الكراهية مشاعر إنسانية انسحابية (شبه معدية) ذات طابع إنفعالي أصيل في نفوس البشر، ويصاحبها عادة اشمئزاز شديد، ونفور وعداوة أو عدم تعاطف مع الأشخاص المختلفين أو الأشياء المكروهة، ولكنها لدي المتأسلمين، إلى جانب ذلك، تغرس في أعماقهم رغبة في تجنب الاخرين وعزلهم أو تدميرهم بصورة نهائية. هذه الرغبة المدمرة تأصلت وتترسخت بسبب عقيدة شديدة الخبث وفيها الكثير من التناقضات والخطايا والحث على الشذوذ والانحراف.
إن معرفة كيفية ظهور الكراهية بين الأفراد والجماعات المتأسلمة ومدى تأثيرها عليهم لم تعد خافية أو محدودة أو محيرة لدي علماء النفس والاجتماع، كما هو الحال مع الأفراد والجماعات الأخرى التي تعمل بعقائد سياسية أو اقتصادية. فأفراد وجماعات الكراهية الإسلاموية يعملون باطمئنان تحت مظلة مطاطة من نصوص إلهية هذيانية مقدَّسة. يستهدفون ضحاياهم يوميًا، ويعنفونهم بالاهانات اللفظية في كل محفل من محافلهم، ويبادرون بالهجوم عليهم، وإخراجهم من ديارهم أو قتلهم وسلب ممتلكاتهم وسبي إناثهم واغتصابهن، في رعاية وحراسة مؤسسات دينية وأمنية مجهزة وجاهزة باستمرار. إنها إذن نوع من الكراهية المرضية الدائمة التي تصل بالكثير من المتأسلمين إلى حد الجنون.
ومن هنا يمكن القول بأن هناك نوعان مختلفان من الكراهية:
الكراهية العقلانية rational hate وهي توجه نحو فرد أو جماعة ما، تُمارس أفعالًا ظالمة أو مجحفة ضد الأبرياء من البشر، الأمر الذي يقدم اسبابا منطقية لكراهيتهم. وتظهر الكراهية لهم بتثبيتهم ومعاقبتهم.
أما الكراهية غير العقلانية irrational hate، أو كراهية الجنون، فهي التي تتركز بشكل دائما على الأشخاص بسبب ألوان بشرتهم أو أعراقهم أو ديانتهم أو ميولهم الجنسية أو أصولهم القومية. وتظهر هذه الكراهية على شكل انتقادات عنصرية لاذعة ونكات عرقية وافعال عدوانية تحيل الشخص المكروه إلى الشعور بحالة من الدونية وعدم الأمن والطمأنينة، وهذا ما تتعرض له كل يوم جميعالأقليات العرقية والدينية في الدول الموبوءة بالتأسلم. حيث تلعب النصوص المقدَّسة دورًا رئيسيًّا لا حيدة عنه لتأجيجها وإعطائها المبرِّر اللازم للراحة النفسية. إن النصوص المقدَّسة تقدِّم للكارهين اسبابا يرونها منطقية بل وضرورية في القيام بأفعالهم العدوانية والإجرامية بحق الأفراد والجماعات المختلفة عنهم أو المخالفة لهم.

الفرد والجماعة
لا شيء يعزّي الإنسان ويريحه نفسيًا أكثر من الإنضواء تحتَ "جماعة" ما، تخفّف عنه تداعيات العالم الخارجي وتحدياته، إلى جانب الإحساس الكاذب بالحماية من المجهول في المستقبل. تماما كما يرتبط الطفل بعالم أسرته، ينجذب المتدين نحو أنا كليّ "أمة أو ملّة أو جماعة مأدلجة"، هذا الانجذاب يظل كامنا في الخافية الجمعية (اللاوعي الجمعي) لديه، حتى وإن بَعُد عنها. لأن المهمة الأساسية لأية أيدولوجية سواء كانت دينية أو سياسية، هي أن تَعِد المرء ضمنياً بهذا الانجذاب والاطمئنان والإحساس بالأمان في أحضانها، وذلك بإيقاظ احاسيس كونية تأملية بداخله تتسم بالشمولية والعمومية. لا تختلف في هذا حتى الأديان التي لا تُلقي بالاً لمسألة الجماعة، كالبوذية مثلاً. الدول المتحضرة تعرف هذا الأمر فتترك المتديين الوافدين إليها، بما فيهم المتأسلمين، ينشؤون أماكن عبادتهم ويمارسون فيها طقوسهم الدينية كما يشاءون تحت حمايتها ورعايتها، بشرط ألا يتدخلون في الشأن السياسي، ولا يضمرون العداوة لغيره.
إن التديّن من الناحية السيكولوجية هو احساس طفولي تجاه المجتمع والعالم الخارجي ككل، والحاجة لنفي الشعور بالخطر الناجم عن تحديات الحاضر أو المجهول القادم، ويعمل ذوبان الأنا الفردي ضمن الأنا الجمعي على تقليل ذكاء الفرد إلى أقل حد ممكن، فتسهل السيطرة عليه وقيادته. مما يخلقُ لديه جملة من التصورات، أهمها: أن الحزمة الدوغمائية أو العقائدية التي تراها الجماعة، هي في وجدانه بمثابة العالم الموضوعي بيقينه وعيانه، فلا يدانيها شكٌ مطلقاً. إلَّا أن الأنا الفردي عندما ينغمس كلية بالأنا الجماعي، فإن أيّة رضّة أو هزّة تتعرض لها الجماعة، بسبب عوامل اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية خارجية، لابد وأن تثير في نفسه الهواجس من قبيل اقتراب القيامةٍ أونهاية الزمان أو الفناء.
الإنسان المتدين يعيش نظرياً بحالة وعي، لكنه عملياً كما يقول عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونج (1875 - 1961): « يقفُ تحت الرجع الآتي من الخافية الجمعية واللاوعي مباشرة. مما يتسبب في عزله عن المستوى الاجتماعي لامتلاء مشاعره بالارتياب والشك وعدم اليقين ».
ويخبرنا العالم الفرنسي جان لاكان (1901 - 1981) عن العلاقة الفنتازية التي تربط الأنا بالعالم الخارجي، فعلى الرغم من أنها تكون موجودة بنسب متفاوتة عند الجميع، إلا أنها عند المتدين تأخذ طابع الانقطاع عن الواقع بشكل كامل، فالأنا عنده يتمثّل العالم من خلال تصورات مستعارة من الثقافة الدينية كلياً، فأيَّما حادث على مستوى الكون والطبيعة هو مرتبط بشكل رئيسي بما " قد أُخبرنا عنه في كُتبنا المقدسة" وأنه واقع يوماً ما، كعلامة أو إشارة للنهاية. وكذلك الحال بالنسبة للمتغيرات الأخرى. بطبيعة الحال فإن هذا الافتراق النهائي عن الواقع يتفاقم حتى يصل إلى مستوى فصامي كامل.
لا شك في أنّ هيمنة الإيديولوجيا الإسلاموية على المنتج الثقافي العام، تشرعن وتعمق استمرار الإحساس الشمولي لدي المتأسلمين، مما لا يتيح لهم أي هامش للإبداعي في ذات المنتج الثقافي أو المساس به، هذه الحالة عبر عنها المفكر السوري هاشم صالح بـ« المعضلة التراثية »أو « الانسداد الثقافي» في كتاب له بنفس العنوان تمت الإشارة إليه والتعليق عليه في مقال سابق. ولكن لهذه الشمولية الإسلاموية إبداعها الخاص المتمثل في خلق حالة حصار مستديمة عيانياً وراسخة عقلياً. وفي السعي الدائم لإقصاء المدني، وتفضيل الديكتاتوري العسكري. وفصل نفسها عن الجديد في الفكر والمعرفة الإنسانية. إنها لا تتوانى عن دفع كل اجتماعي مدني معرفي للتقهقر نحو الخلف، نحو ضمانات الولاء المرتبط بما قبل الدولة الحديثة، ولاءات القبيلة والجماعات أياً كانت ماهياتها أو هوياتها، دينيةً أو دون ذلك، إثنيةً أو مناطقيةً أو دموية.
على ذلك النحو يتصور رجال الدين وسدنته من الحكام العجزة أنهم ضبطوا الهرم الاجتماعي بآليات القمع الاقتصادي والثقافي والسياسي والبطش العاري، وإعادوا إنتاجه على قاعدة الولاء المطلق للزعيم الفرد، فتحول كل فردٍ في المجتمع المتأسلم إلى مقموعٍ من أعلى وقامعٍ لمن هو أدنى.
ولكن الخطورة الأكبر والأفدح في هذه الثقافة هي كونها مَصْدرًا لتكوين القطيع وما يصاحبه من مخاوف تشل الفردَ والمجتمع، الخوف من الله ومن عذابه، والخوف من الآخرين، والخوف من الفقر والمرض كعقاب إلهي. الخائف يعجز عن التفكير الصحيح والتجديد والإبداع. والخائف مطيع. والمطيع غير مبدع، لأنه ينفِّذ ببساطةٍ ما يُملَى عليه، وهو دائما في حالة إنتظار لإملاءات الآخرين، من ذوي السلطة والنفوذ. التقدُّم يتطلَّب من الإنسان أنْ يستعمل عقله بحرية وينقلَ فكره من مكان ويَضعُه في مكان آخر، بينما هذه الثقافة تأمر أتباعَها أنْ يتشبَّثوا بالقديم، بــ"الأسوة الحسنة"، بــ"التابعين". فتعتبرُ كلَّ جديد بدعةً وكلَّ بدعة ضلالةً وكل ضلالة في النار. وبالتالي فإن كلُّ خطوةٍ إلى الأمام تعد مفارَقةً للجماعة وابتعاداً عن الصراط المستقيم. هنا لابد وان تصاب عقلية المتأسلمين بالشلل، فلا تعود قادرةً على التحرك نحو أي جديد.

متى يتحول المتأسلم لقنبلة بشرية؟ 

الثقافة المؤدلجة دينيًّا قائمة على تغذية المتديين بالإيحاء الدائم الذي يمرُّ بأطوار أساسية، تتشابه تماما مع أطوار صعود الحضارات وسقوطها التي شرحها ابن خلدون وآرنولد توينبي، فالدين في نشأته ينمو ويصعد وينتشر بشكل أفقي مريع وكأنما هو الخلاص بعينه الذي كان الناس بانتظار قدومه ليرفع عنهم عذاباتهم ويضع عنهم أوزارهم بشكل نهائي، ثم يأخذ بالنمو الرأسي أي التحول إلى دين مؤسساتي تدريجيًّا بهدف ترسيخ وجوده وديمومته، وذلك بإنشاء المؤسسات الدينية التي تعمل على حراسته ورعايته وفرضه على البشر إمَّا بالاستيلاء على السلطة أو احتوائها والعمل كل ما بوسعها من القوة والبطش والعنف لتأسيس عوامل البقاء والاستمرار تحت لوائها، وضم مزيد من المؤمنين ترغيباً وترهيباً، وفي هذه الأثناء يكون الإيحاء الذي تغذيه الثقافة المؤدلجة دينيًّا في المؤمن على أشده وفي كماله وغايته القصوى، على قاعدة أنه مركز العالم ونقطته المحورية.، فقد خصه الله بالتفضيل على الآخرين جميعًا في الدنيا والآخرة.
لكن لأن كل شيء في الحياة يتغير، فلن يلبث طويلاً حتى تظهر التناقضات الاجتماعية التي أقحمها الدين في السياسة عنوة، خلال فترة التوسع السطحي وإجبار الناس على الدخول في حظيرته. هنا تبدأ الجماعة تشعر بالخطر يهدد بقائها ويعمل على شرزمتها وتفتتها، وبالتالي تتباين الرؤى والإيحاءات الدينية، حتى يترسخ الشرخ نهائياً، وتتعرض بالفعل للانحلال التدريجي والعجز في مواجهة سير العالم خارجها.
هذه هي ردة فعل المتأسلمين إزاء التنوير والحداثة في الغرب وغيره. بكلمات أخرى: موج التنوير والحداثة في العالم المتحضر وضعت المتخلفين والمؤدلجين دينيًّا مكشوفين في العراء. فبرزت بيهم تيارات انقلابية رافضة تدعو إلى التخلي عن الجمل بما حمل، إي التخلي عن الديانة برمتها، وظهرت ردات فعل جنونية مِمَّن وكلوا أنفسهم حماة للأمة وللهوية وللعقيدة، معتمدين على الغوغاء والجهلة ومغيبي العقل والضمير. لأنهم يشعرون بأن مجابهتهم بالقوة والعنف والبطش تدفعهم إلى المزيد من التصدّع، ولا يبقى أمامهم مفر إلَّا الانتحار، بمعنى "عليَّ وعلى أعدائي"، هذا التطور هو الصدمة التي تسبق الانهيار الكامل، وهذا ما يعيشه العربان والمتأسلمون الآن تحديداً.
إن تصدّع الجماعة المؤدلجة دينيًا يُفقد المتدين قوة الإيحاء التي كان يتغذي، فيبحث تلقائيا أو مدفوعا بلا وعي عن طريقة في رأب هذا الصدع، طريقة تخوله أن ينام مساءً ولا يفكر بماذا سكون الرد - بالقول أو بالفعل - على من يتحدى معتقداته في الغد، سواء كان في البيت أو الشارع أو العمل أو في وسيلة إعلامية. ولكنه يستفذ طاقته الفكرية دون جدوى، فهو ضمنياً يدرك أن معتقداته ليست بمقولات عقلية حتى يستخدم المنطق للإقناع بها، ومع ذلك فهي في نظره حقائق موضوعية وإلَّا فكيف يؤمن بها كل هذا العدد الغفير من الناس، ولماذا مات عليها الآباء وقتل في سبيلها من قتل من الشهداء؟ إذن كما يقول ليفي شتراوس.." لابد أنه ثمة مؤامرة ما عليه وعلى مجتمعه" إن واجبه النبيل هو التخلص من أولئك المتآمرين، في محاولة يائسة لرأب الصدع. واجبه الديني أن يعيد كل من سولت له نفسه أن يتطاول على الجماعة أو يفارقها "، إلى جادة الحق والصواب - أي إلى اليقين الديني - وإما أن يُبعث به إلى عالم الآخرة، لأنه خالف الأوامر الإلهية: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وغيرها الكثير، والأحديث النبوي: « إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً، فيرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال». ومن هنا يصبح فعل القتل الذي يقدم عليه المتدين القاتل ليس إلَّا فعل تطهري وليس انتقام، إنه يقتل المتطاولين على ديانته وعليه بسببها، ليطهركم من الرجس، ويجنبهم شقاء الدنيا وعذاب الآخرة ككفار. هذا الحدّ الذي يطبقه علي أعداء الله وَرَسُولِهِ سوف يهيئهم لمغفرة من الله يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إن سيفه ما هو إلَّا صكّ غفران، والسيارة المفخخة هي المعمودية التي يحتاج إليها الكفار والملحدين وغيرهم من لا يفهمون، وستار الدخان الناجم عن التفجيرات ليس إلإخفاء مشهد تحلل الآخرين وانحلالهم الأخلاقي الذي لا يستطيع رؤيته. المقاهي والمدارس والنوادي النهارية والليلية المختلطة، تجعله يشعر وكأن الأرض تتشقق وتنهار من تحت قدميه. هذه الأشياء وغيرها تسحبه بقوة الإيحاء إلى عالم يشعر فيه بالضياع، إلى عالم لا يمكنه الانتماء إليه رغم إغراءاته، وتخلق في داخله تناقضاً لا يرى أي أمل في تجاوزه. لا سبيل أمامه سوى حماية الأشرار من شر أعمالهم، بأوامر إلهية أو محمدية، ليكون هو الخيِّر الوحيد في الدنيا والآخرة!
من هنا يعتقد عالم النفس يونغ بأن المتدين لابد أن يستشرس ، عندما يشعر بدنو الأجل، عندما يجد الجماعة تلفظ أنفاسها الأخيرة، وعندها ينكشف نفسياً، يتحول تلقائيًا إلى الماضي ويحاول التماس الإيحاء المفقود في كتب السلف الصالح على طول الخط، مما يجعل من الشرخ بينه وبين عصره انزياحاً وانفصالاً وانعزالًا لا رجعة فيه، فيبدأ بالميل إلى الانطواء، ويحاول أن يجعل من مظهره موحياً أيضًا بانتمائه إلى العصر النبوي الشريف، الذي يتغذى من إيحاءاته، وبالطبع كلما زاد في تشرب هذا الإيحاءات كلما كان صِدامُه مع واقعه وعصره أشدّ وأقسى ليصل إلى مرحلة الرفض الكامل لعصره، فإما أن يعيد العجلة إلى العصر المنشود، وإما أن يقضي على حياته انتحاراً محاولاً تكبيد هذا المجتمع أكبر قدر ممكن من الضحايا. إنه عملياً ينتقم لنفسه، لغربته ولإحساسه لاحقاً بالنبذ لمظهره ولفكره المتخلف.
وفي الوقت الذي يوجه المتدين العنيف عنف باتجاه العدو الداخلي المجاور له، لأنه في نظره يعمل على تصدّع وتفسخ الجماعة، فإنه يؤجهه بالمثل إلى أولئك الذين في الخارج، يتأمرون عليه وعلى ديانته، ويطعنونه في ظهره، فليس لديه من الحضارة ما يستطيع أن يواجهه به ذلك العدو المتربص به وبديانته وثقافته، الحل هو تحطيمه وتدمير حضارته!
في هذا السياق يمكن مراجعة آراء الشيخ السلفي سفر الحوالي وهو - لمن لا يعرفه - أحد كبار علماء "أهل السنة والجماعة" في مملكة آل سعود، وله حضور إعلامي وثقافي واجتماعي متميِّز على الصعيدين العروبي والإسلاموي، وقد أشار إليه بعض المفكرين في الغرب في كتاباتهم مثل هانتنجتون الذي كتب صدام الحضارات، وكذلك أشار إليه وإلى نظيره سلمان العودة الباحث والخبير الأميركي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية أنتوني كوردسمان في دراساته التالية :
Iraq and the United States: Creating a Strategic Partnership (CSIS, 2010)؛ Saudi Arabia: National Security in a Troubled Region (Praeger, 2009)
بالإضافة إلى تقارير من مجموعة الأزمات الدولية التي أشارت إلى الحوالي ودوره في الساحة السياسية والفكرية في السعودية والعالم المتأسلم، وإصرار هذا الحوالي على ان انهيار الحضارة الغربية وشيك لمخالفتها عادات وشرع الإسلاموية! وعلى ضرورة سقوط الغرب لأنه يبتلعنا، وذلك بتفجيره وتفخيخه! لا ريب في أن ما يجول في خاطره هو أن طباعة ملايين النسخ المترجمة من كتبنا الصفراء ودفع الأموال الطائلة كعطايا وهبات لإغراء الأوربيين ليس مهماً، المهم أن نستدرجهم إلى حيث نقف نحن من سلم الحضارة، أن ينزلوا إلينا إلى حضيضنا ويتماهوا معنا، فنحن آيلون إلى السقوط لا محالة ولا نريد أن نسقط وحدنا. لذا فالعزاء الوحيد لنقصنا وعجزنا وقلة حيلتنا هو أسلمتهم، إننا بتفوقنا الروحي في مقابل تفوقهم المادي السطحي الساذج نكشف لهم تفاهة هذه المادة التي يموضعون الوجود عليها، وكم هي ناقصة فيما نحن نمتلك التفسير الأكمل والرسالة الأسمى، نعم تراثنا وقرآننا هو منجم للذهب، فيه كل تلك العلوم التي يتبجحون بها علينا، إننا خير أمة. وأولئك الذين خرجوا من بيننا ينادون باستيراد نظم الغرب إلينا، إنما يسلمون بانحطاطنا ويعرون حقيقتنا ويكشفون حضيضنا، لذلك يتوجب علينا إذن أن ننكل بهم أشد تنكيل. فإنما نحن معذبون بذنوبنا وسكوتنا وبالسفهاء الذين يأخذنا الله بجريرتهم، وعلينا أن نغير ذلك بالعنف والاستيلاء على السلطة، واستعادة عصر السلف الذي نتغذى من إيحائه.
ولا يفوتني في نهاية المقال أن أستحضر (باختصار) أقوال الشيخ محمود شاكر في مطلع القرن العشرين في خضم سجاله مع د. طه حسين و د. لويس عوض وغيرهما، في كتاب "جمهرة مقالات الأستاذ محمود شاكر" الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة 2003 ص 149:
« إن عقيدة الفن عند هؤلاء لا تتقيد بمصلحة الجماعة، فأدباء الطابور الخامس الذين اتخذوا لأنفسهم شعاراً من حرية الفن، وحرية الأدب وحرية التعبير عن ثورة النفس، "المشتهية المستكلبة"! هم أعدى أعداء شعبنا المسكين (...) إن الحقيقة العظيمة التي أعطتنا إياها الجماعة هي الحياء من ناحية والتقليد من ناحية أخرى ! (..) إن الغرب يريد القضاء على هوية الأمة المسلمة وإلحاقها بحضارته، حضارة الدمار والخراب ...» انتهى.