انتلجنسيا بلا شهداء(ماسبب انعدام المثقفين الشهداء في العراق؟)


سلمان رشيد محمد الهلالي
الحوار المتمدن - العدد: 5793 - 2018 / 2 / 20 - 20:41
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

انتلجنسيا بلا شهداء (ماسبب انعدام المثقفين الشهداء في العراق؟)
نشر الكاتب الاستاذ صادق ناصر الصكر مقالا في جريدة الصباح عام 2008 بعنوان (البرمائيون / الثقافة وقصصها القصيرة) (المقال موجود على الانترنت) شكل في الواقع صدمة في الوسط الثقافي حول ظاهرة انعدام المثقفيين الشهداء في العراق ابان الحقبة الاستبدادية والمرحلة الديكتاتورية . وقال ان المثقف الشهيد الوحيد عندنا هو المنظر الماركسي / القومي عزيز السيد جاسم (ولانعرف في الواقع سبب استشهاده), ووجه نقدا للمثقف العراقي قائلا (انه كالمخلوق البرمائي , يظهر للعيان في اوقات السلام ويغوص في مستنقع الصمت ايام المحنة والاستبداد, وينام عندما تستقيظ الوحوش , ويستقيظ ويملا الدنيا زعيقا بعد ان تموت الوحوش على ايدي مخلوقات اخرى , فيما ان السياسيون وحدهم امثال محمد باقر الصدر ويوسف سلمان يوسف المعروف ب(فهد) قد وقفوا امام تلك الوحوش) (بتصرف). بمعنى ان الكاتب الصكر قد اعتبر الصدر الاول وفهد هم سياسيون وليسوا مثقفين , الامر الذي ادى الى حصول جدل ونقاش وردود مع الكتاب الاخرين .
في الواقع ان مبلغ الصدمة (عندي على الاقل) هو ان العراق تاريخيا بلد الاستبداد , حتى ان احد الكتاب الغرب قال (ان هذه البلاد هى ذكرى مستبدين ومحتلين) . ومن جانب اخر ان العراق يصنف بانه بلد المثقفين (طبعا مثقفين على الطريقة العراقية) بغض النظر عن التمايز بين المثقفين المؤدلجين (الشيوعيين والقوميين والاسلاميين) او الليبراليين (التنوييريين الواقعيين) او التقليديين (رجال الدين ودعاة القبيلة), ومن الطبيعي ان تحصل مواجهات وتناقضات حادة - او ربما حتى دموية - بين المستبدين والمثقفين , فمجال الثقافة هو التنوير والحرية والديمقراطية والعدالة والحقوق الطبيعية والمساواة وووووغيرها من القيم التي تبلورت على هامش التنوير الاوربي الحديث , فيما ان مجال الاستبداد (في العراق على الاقل) هو التسلط والديكتاتورية والتمييز الاثني والطائفي والديني والظلم والارهاب والاستئثار ووووووغيرها , وبما ان المثقف العراقي - بصفته فردا من الانتلجنسيا - فان مهمته الاولى وموقفه الاساسي هو الوقوف بوجه تلك القوى الاستبدادية ومقاومتها ومواجهتها بجميع الوسائل المتاحة , واهمها النقد والهجوم والتعرية والاحتجاج والسخرية والرفض - ان لم يكن رفع السلاح - وبالطبع ان ذلك الموقف المفترض سيؤدي حتما الى وقوع العشرات - ان لم يكن المئات من الشهداء المثقفين - الا انه في العراق للاسف لم نحصل حتى على شهيدا مثقفا عصريا واحدا . بل العكس فقد انضم اغلبهم الى مؤسسات الديكتاتور كمنظرين ومروجين ومطبلين وشعراء , سيما في عقد السبعينات وتصاعد واردات النفط وتحول البلد الى دولة ريعية تحصل على الاموال السهلة التي يمكن بواسطتها شراء الذمم , ومن تنتفي الحاجة منه يلقى به الى الخارج او يسمح له بالهروب . فمثلا وبعد ان ظهرت بوادر تسلم صدام حسين السلطة عام 1979 وتلاشي الجبهة الوطنية والقومية التقدمية بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث الحاكم ومضايقته للادباء والكتاب والمثقفين الشيوعيين - او غير البعثيين بصورة عامة - نصح ميشيل عفلق الشاعر سعدي يوسف وغيره بالهروب الى الخارج , لانه بصراحة لايستطيع ضمان سلامتهم من صدام حسين . ولاندري هل ان نصيحة ميشيل عفلق عفوية بصورتها , ام بالاتفاق مع السلطة الحاكمة من اجل ازاحة المثقفين والتخلص منهم الى خارج البلد .
وقد يذكر احدهم ان المثقف ليس مهمته الاستشهاد او المقاومة , وانما وظيفته الاساسية انتاج النصوص والخطاب التنويري والفكري الناضج بما يسهم بارتقاء المجتمع وعقلنته وتطويره . في الواقع لاخلاف بان هذه مهمة المثقف الاساسية والرئيسية , ولكن يبقى هذا الاعتراض يواجه اشكالين :
الاول : اغلبية الانتلجنسيا العراقية في النصف الثاني من القرن العشرين تبنوا مفهوم فلاديمير لينين عن (المثقف الثوري) ورؤية سارتر عن (المثقف الملتزم) . بمعنى ان المثقفين انفسهم هم من حدد المرجعية الثقافية التي يسيرون بموجبها ,سواء اكانت المرجعية الثورية عند المثقف اليساري والشيوعي والماركسي الذي ينادي بالثورة والرفض والمواجهة , او المرجعية الوجودية والعدمية والعبثية التي تقدس الحرية والتمرد والانطلاق نحو الذات التي تحدد ماهيتها بنفسها . اذ لو كانوا قد حددوا الاتجاه الليبرالي اليميني المحافظ مثلا , لما طالبهم احدا بالاستشهاد والمقاومة والرفض , فليس من المعقول ان تتبنى التوجهات الثورية والحماسية ثم تنزوي تحت مظلة الديكتاتور والطغيان كموظف حكومي او تهرب الى ملاجىء الامان في الدول الاسكندنافية !! .
الثاني : في الوقت الذي لايطالب احدا من المثقفين بالاستشهاد , الا انه من جانب اخر لانريده ان يكون مثل المخلوق البرمائي (يظهر للعيان في اوقات السلام ويغوص في مستنقع الصمت ايام المحنة والاستبداد) , فهذا الموقف المخجل لايجب ان يقع به الانسان البسيط , ناهيك عن المثقف الواعي الذي من المفترض ان تكون النوازع اللاشعورية والرغبات الذاتوية عنده ضعيفة جدا – ان لم تكن منعدمه اصلا - وقد شهدنا هذه الظاهرة للاسف في العراق باجلى مظاهرها بعد سقوط النظام الاستبدادي عام 2003 , حيث شهدنا زعيقا وضجيجا من الانتلجنسا - وصل الى درجة الهيستريا – على النظام السياسي واشكالاته وسلبياته , وادرجوا خطابا يوتوبيا وعصريا لايخرج الا من مثقفين عاشوا الحرية والمقاومة والرفض باجلى صورها , وليس مثقفين خانعين ومستعبدين ارقاء , او في احسن الاحوال مرتزقين اذلاء .
في الواقع حتى الان لانعرف سبب ظاهرة انعدام المثقفين الشهداء في العراق , فبعض الاراء التبسيطية تقول ان الجبن والخوف هو السبب الاساس , فالانتلجنسيا العراقية معروفة تاريخيا بهذا الامتياز , بل ان الخوف هو من يحدد اغلب التوجهات الفكرية والمسارات السياسية للمتعلمين والمثقفين, وقد عبر عن ذلك صراحة الاديب عبد الرحمن مجيد الربيعي في روايته (الوشم) بقوله ( يوم اعطيت راسي للكتب عرفت الجبن والخنوع , ويوم عرفت الانتماء شربت الخيانة والغدر) . في الواقع ان هذا الراي - وان كان يحمل جانبا كبيرا من الصحة والواقعية - الا انه حتما ليس السبب الوحيد او حتى الرئيسي , وربما يشكل الاصرار عليه تبريرا موضوعيا للسكوت وعدم مواجهة الديكتاتورية , لان الخوف - هو في الاخير - عذر مشروع ومبرر عقلاني للصمت والسكوت , فالخوف هو الخميرة اللازمة لتحويل الخائفين الى جلادين – كما يقول زهير الجزائري - وهو نمط ليس محتكر عند المثقفين العراقيين , بل هو نسق عربي بامتياز, واخشى ان يكون السبب هو ان الانتلجنسيا العراقية قد تصالحت في يوم من الايام مع الاستبداد بدعوى مواجهة الغرب والقيم الليبرالية الراسمالية , وتحصنت معه لرغبات ايديولوجية ودوغمائية على حساب المتبنيات الكونية والقيم الانسانية , وربما تكون الاصول الريفية التي ينحدر منها الاغلبية الساحقة من المثقفين الذين وردوا من بيئات مقصية اثنيا (الكورد) ومهمشة وطائفيا (الشيعة) دورا في البحث عن التمايز الثقافي والاجتماعي والمعيشي من خلال المصالحة مع الديكتاتور , ومن ثم الاندراج في مؤسساته الاعلامية والحزبية , والصمت عن تجاوزاته وانحرافاته .(فالصمت لايولد من الخوف , بل من فقر الافكار وضحالتها , الصمت هو لغة النرجسية الداخلية الساعية الى اختصار العالم واحالته الى تاملات ذاتية) (كما قال ذلك كنعان مكية في كتابه القسوة والصمت) .