صفعة ترامب وصفعة عهد التميمي


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 5788 - 2018 / 2 / 15 - 00:29
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


عندما قال رئيس «السلطة الفلسطينية» محمود عبّاس، في الخطاب الحماسي الذي ألقاه قبل شهر بمناسبة افتتاح اجتماع المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، عندما قال أن «صفقة العصر» التي وعد بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد حالت «صفعة العصر» بعد اعتراف الأخير بالقدس عاصمة للدولة الصهيونية، لم ينتبه إلى أن المجاز السياسي الذي استخدمه باللعب على الكلام إنما نقلته الشابة عهد التميمي إلى حيّز الفعل السياسي، وبامتياز، قبل شهر من خطابه.
والحقيقة أن صفعة عهد التميمي للجندي الإسرائيلي يوم 19 كانون الأول/ ديسمبر 2017، التي جاءت صفعة رمزية مدوّية للاحتلال الصهيوني، كانت ردّاً أقوى وأنجع على صفعة ترامب التي سبقتها بأسبوعين مما كان خطاب عبّاس. هذا ولا بدّ مع ذلك، من باب الإنصاف، أن نثني على اعتراف الرئيس الفلسطيني للمرة الأولى بما حذّر منه الكثيرون عندما نشأت «السلطة»، ألا وهو أنها، على حد تعبيره الموفّق، «سلطة من دون سلطة وتحت احتلال من دون كلفة».
كان عبّاس يقصد بالطبع أن سلطته لا سلطة لها بمعنى انعدام السيادة إزاء الاحتلال الصهيوني، وليس بمعنى السلطة على قمع المعارضين داخل الأراضي المحدودة التي كلّفها الاحتلال الصهيوني بحفظ الأمن (أمنه) فيها، بحيث يكون حقاً احتلالاً «من دون كلفة». فالتشخيص الصحيح للوضع هو أن «السلطة الفلسطينية» أرادها الاحتلال منذ البدء سلطة منتدَبة، يستطيع بواسطتها إخضاع الفلسطينيين بكلفة أقل بعد أن بيّنوا من خلال الانتفاضة المجيدة التي انطلقت في كانون الأول/ ديسمبر 1987 في الأراضي المحتلة سنة 1967، أنهم شعبٌ أبيّ قد ترتفع كلفة السيطرة عليه إلى ما يتعدّى طاقة الدولة الصهيونية على تحمّله.
وعندما انقلبت «السلطة الفلسطينية» على الاحتلال برفع السلاح في وجهه خلال ما سُمّي «انتفاضة الأقصى» بدءًا من خريف سنة 2000، هجمت الدولة الصهيونية على أراضيها بوحشية فائقة مستخدمة كافة أسلحتها، بما فيها الطيران، بغية تدجين «السلطة». وقد حققت غرضها مع اغتيال ياسر عرفات، فتفاقم مذّاك، تحت رئاسة محمود عبّاس وبصورة خطيرة، تعاون «السلطة الفلسطينية» مع الاحتلال.
كانت العلّة طبعاً في طبيعة «اتفاقية أوسلو» بالذات، التي لم تتعدّ الغاية الصهيونية منها حدود «خطة آلون»، وهي الخطة التي صاغها إيغال آلون بُعيد عدوان حزيران/ يونيو 1967 وكان عضواً في الحكومة التي أشرفت على العدوان. مفاد تلك الخطة أن تحتفظ إسرائيل بالضفة الغربية باستثناء أراضي الكثافة السكانية الفلسطينية، التي رأى آلون أن يُعاد إسناد مهمة إخضاعها إلى المملكة الهاشمية. هذا وقد صرّح بعد سنوات بأن المهمة عينها يمكن إسنادها إلى منظمة التحرير الفلسطينية بشرط لخّصه بمجاز بليغ: «لو تحوّل النمر إلى حصان سوف نركبه».
وقد خلقت اتفاقية أوسلو شروطاً سمحت للاحتلال بأن يضاعف عدد مستوطنيه في الضفة بين تاريخ توقيعها و«انتفاضة الأقصى»، أي أن عدد المستوطنين الذين انضافوا خلال السنوات السبع التي انقضت بين 1993 و2000 ساوى عدد الذين أتوا الضفة خلال 26 سنة مضت بين حرب حزيران/ يونيو واتفاقية أوسلو! هذا وناهيكم من قيام الاحتلال بشق الطرقات وإقامة الحواجز وغيرها من الإجراءات التي جرى تنفيذها على الأرض بعد أوسلو بوتيرة محمومة لغاية الاستيلاء الأبدي على معظم أراضي الضفة.
ولمّا استدرك ياسر عرفات وفطن لكونه قد انخدع بوهم حصوله على «دولة مستقلة على كافة الأراضي المحتلة سنة 1967 وعاصمتها القدس» اعتماداً على حسن النوايا الإسرائيلية والضغوطات الأمريكية، ظنّ أن حمل السلاح في «انتفاضة الأقصى» سوف يعيد الأمور إلى نصابها المفترض. لكنّ ذلك أيضاً شكّل خطأً استراتيجياً، وقد تمكّن الاحتلال من ترويض «السلطة» وإعادة تحويل النمر إلى حصان بعد أن ارتدّ نمراً لوهلة.
كمن الخطأ الاستراتيجي في عدم الاكتراث لقاعدة بديهية صيغت في ضوئها نظرية حرب العصابات، ألا وهي أن الضعيف لا يواجه القوي بالطرق التي يتفوق فيها هذا الأخير، بل بطرق تستهدف مواطن الضعف لديه. وهذا ما يفسّر أن «ثورة الحجارة»، كما سُمّيت الانتفاضة في عام 1988، شكّلت ذروة النضال الفلسطيني من حيث المفعول على الدولة الصهيونية منذ نشأتها وإلى يومنا. وقد سبّبت للاحتلال إحراجاً عظيماً، وأزمة معنوية فاقمت وتعدّت تلك التي أصيب بها الجيش الصهيوني من جرّاء احتلاله للبنان.
أما رئيس «السلطة الفلسطينية» الحالي، الذي احتاج إلى 13 سنة من ممارسة الرئاسة قبل أن يكتشف أنه يرأس «سلطة من دون سلطة وتحت احتلال من دون كلفة»، فيتوهّم اليوم بأن الاتكال على روسيا والأوروبيين سوف يتدارك الضمّ الرسمي لمعظم أراضي الضفة التي تزمع حكومة نتنياهو على إعلانه، بتشجيع من إعلان ترامب عن القدس. والحقيقة أن لا سبيل لردع الدولة الصهيونية عن المضي بمشروعها سوى بانتفاضة جديدة تعود إلى أساليب التعبئة الشعبية والمقاومة الجماهيرية غير المسلّحة للاحتلال، كالتي شهدتها «ثورة الحجارة».
وهي الأساليب التي استوحت منها عهد التميمي بصفعتها التي أزعجت الاحتلال أكثر من كافة خطابات رئيس «السلطة من دون سلطة». هذا ويحتاج سبيل الانتفاضة إلى أبطال لا يخشون زنازين الاحتلال، أمثال شباب «ثورة الحجارة» وعهد التميمي، ولن يسلكه أناس ينعمون برخاء يسّره لهم الاحتلال وحلفاؤه الغربيون لإدراكهم أن الرخاء خير كوابح النضال.