المتأسلمون بين نظرية المؤامرة والشوفينية


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 5787 - 2018 / 2 / 14 - 16:06
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

أصداء الحوار في البحث عن كيفية صناعة ثقافة تنويرية وحداثية في العالم الإسلاموي.

من أفضل الأفلام التي شاهدتها حتى الآن، فيلم "نظرية المؤامرة (1997) (Conspiracy Theory)" الذي يؤدي الممثل الأسترالي، ميل جيبسون، دور سائق سيارة (جيري)، ويغرم بفتاة (جوليا روبرتز) كان قد صادق أباها بعدما كُلِّف باغتياله. ويحب الفتاة، ويدافع عنها من شرير يعمل في المخابرات الأميركية، ويرأس قوة اغتيال مدربة خصيصاً لهذه الغاية.
ويؤكد السائق، للفتاة التي لا تعرف هويته أن هناك مؤامرة تحاك لاغتيال رئيس الولايات المتحدة، وهي بالطبع لا تصدقه. وفي النهاية، يتبين أن ظنون جيري، ذي الشخصية المتقلبة والعاطفية، كانت في مكانها، وأن مؤامرة بالفعل حيكت لاغتيال الرئيس.
هذا الفيلم وشخصية السائق (جبري) يذكّرني دائمًا بوضع العربان والمتأسلمين، فكلما ابتلوا بشيء، وما أكثر ابتلاءاتهم، شاع بينهم خبر يقيني بأن هناك مؤامرة غربية أو كونية تحاك وتنفذ ضدهم، بهدف تدمير ثقافتهم العروبية وعاداتهم الصحراوية وأخلاقهم الدينية الإسلاموية (؟!)، وبذلك لا يريد لهم الغرب (على وجه الخصوص) التحرر والتقدم والرخاء. يتساوى الكثير من المثقفين وعامة الناس المتأسلمين في الإيمان بهذا الطرح الغريب، حتى أصبحوا جميعًا مهووسين بنظرية المؤامرة، دون دليل أو إثبات على الإطلاق. ومن المرجح أن يتمادوا في هوسكم، حتى تحدث المؤامرة بالفعل، عندئذ سوف يعرفون أنهم هم الذين صنعوها بأنفسهم. فكل إنسان يساهم بقدْر ما في قَدَرِه.
نظرية المؤامرة من أكثر الأمراض النفسية انتشارًا بين البشر، وهي أن يشعر المرء بأن كل شئ يحدث حوله من احداث هامة أو كبرى، تُؤثِّر عليه شخصيًا بشكل سئ، هي مؤامرة، و يبدأ بعد ذلك بربط الأحداث بشكل يجعله يقتنع بأن المُؤامرة التي يفكِّر فيها، صحيحةً فعلاً ! وهي نظرية يتم إستخدامها كـمُحاولَة لتفسير حدثٍ سياسي أو تاريخي أو إجتماعي، لا يظهر له تفسيرٌ موضوعيٌّ. وقد اهتم بدراسة هذه النظرية العديد من عُلماء النفس وعُلماء الإجتِماع و خُبراء الفولكُلور.
هذه النظرية مجرد اصطلاح إنتقاصي يشير إلى تفسير لموقف ما اعتماداً على مؤامرة لا مبرر لها، وربما ليس لها وجود على الإطلاق، وغالبا ما تنتج عنها حالات إفتراضية تتناقض أو تتعارض مع الفهم التاريخي للحقائق البسيطة، بأن هناك مؤامرات بالفعل بين البشر كما هو الحال بين الدول، لكن ليس بشكلها المُتخيل والموهوم، إن المؤمرات تعكس نهجًا طبيعيًّا يمكن أن يفعله أي إنسان في موضع القوة والنفوذ، وليس صعباً الاقتناع بأن هناك مَن لهم ميول تأمرية لتحقيق مصالحهم سواء كانوا من الأفراد أو الجماعات أو حكومات الدول القوية.
المؤامرة الحقيقية تعتمد في مضمونها على أفعال غير قانونية أو مؤذية يقوم بها الأقوياء للحصول على ميزات لا يستطيعون الحصول عليها بالأساليب العادية.
جاء في موقع الويكيبيديا
https://ar.m.wikipedia.org/wiki/نظرية_المؤامرة
أنه وفقاً للعالم السياسي مايكل باركون، في كتابه: ثقافة المؤامرة: رؤى مروَّعة في أمريكا المعاصرة. (ص 4 - 3):
Barkun, Michael (2003). A Culture of Conspiracy: Apocalyptic Visions in Contemporary America. Berkeley: University of California Press..
« تعتمد نظريات المؤامرة على نظرة أن الكون محكوم بتصميم ما، وتتجسد في ثلاث مبادئ هي: لا شيء يحدث بالصدفة، ولا شيء يكون كما يبدو عليه، وكل شيء مرتبط ببعضه.
وقال باركون إن أحد الصفات الشائعة هي تطور نظريات المؤامرة هذه لتَدْمِج في تفاصيلها أي دليل موجود ضدها، لتكون بذلك جملة مغلقة غير قابلة للدحض (أي من المسلمات) وعليه تصبح نظرية المؤامرة "مسألة إيمان بدلاً من دليل"».
أمّا الشوفينية فهي الإعتقاد المغالي والتعصب الزائد لشخص أو لشيء، أو لفكرة معينة، وهي العنجهية والتعالي والغرور في التعامل مع المخالفين والمختلفين، وتُعبِّر الشوفينية عن غياب رزانة العقل والإستحكام في التحزب لمجموعة ينتمي إليها الشخص والتفاني في التحيز لها؛ وخاصّة عندما يقترن الإعتقاد أو التحزب بالحط من شأن جماعات نظيرة والتحامل عليها، وتفيد معنى التعصب الأعمى.
*****
في كتاب: عقول مريبة، لماذا نؤمن بنظريات المؤامرة،
Rob Brotherton“Suspicious Minds: Why We Believe Conspiracy Theories, by Rob Brotherton, Bloomsbury Sigma, 2015
يتحدث الدكتور روب بروثِرتون بصورة حصرية عن سايكولوجيا نظرية المؤامرة. فقال إن السِـمات التي تجعل الناس يؤمنون بأن تلك النظريات حقيقية ’’هي نفسها السمات التي نعاني منها… إنها الأحكام المسبقة والإنحيازات التي تتكون منها ادمغتنا‘‘، ويغطي الكتاب طيفًا واسعا من الظواهر النفسية المنتشرة، من ضمنها ظاهرة (الإنحياز القصدي) "Angular bias"- وهي ميل الانسان إلى الإعتقاد بوجود قصد وهدف في تحركات أي شيء جامدًا كان أو متحركًا، ولا وجود للصدفة - بالإضافة إلى النزعة الطبيعية لدى أدمغتنا لرؤية الأحداث بشكل نمط منتظم (متعلّقة أحدها بالأخرى) حتى إن كانت العلاقة المباشرة ضعيفة ومستبعدة.
ونظرية (الإنحياز التأكيدي) ”Confirmation Bias“ التي يتضح فيها ميل الانسان إلى تفضيل المعلومات التي تؤكّد المعتقدات والنظريّات التي يحملها دون الأخذ بنظر الإعتبار المعلومات التي تنفيها، قائلًا :« المثال الأوضح عن قوة هذه الظاهرة قد يتمثل في ما يُـسمى بـ (تأثير رد الفعل العكسي) ”Backfire Effect“ الذي تم تحليله عبر عدة دراسات من قبل البروفسور بريندان نيهان ”Brendan Nyhan“ استاذ العلوم السياسية في جامعة دارتماوث. وهي ظاهرة تحدث عندما تحاول أن تطلب تفسيرًا منطقيًا عن المعتقدات التي يتمسّكون بها بقوة، بسبب هذه الظاهرة لا يمكن إزالة قناعة بعض الناس بقضية (لجان الموت) "Death Panels*، المزعوم تبنيها من قبل الحكومة الأمريكية في خطة اوباما للرعاية الصحية مهما حاولت ان تشرح لهم أنها مجرد خرافة، وبسبب نفس الظاهرة هنالك الكثير من الناس الذين يعتقدون بأن اللقاح يسبب مرض التوحّد رغم كل الأدلة العلمية التي تدحض ذلك الإدّعاء».
*****
توضيح
* لجان الموت: هي إشاعة أطلقتها سارة بيلن الحاكمة السابقة لولاية
الاسكا ضد خطّة اوباما للرعاية الصحية مدّعيةً بأنّ الخطة تتضمّن لجان من الحكومة الأمريكية لتحديد ما إذا كان بعض الأشخاص الكبار في العمر أو الأطفال المصابين بمتلازمة داون**، يستحقّون نيل الرعاية الصحية أم لا. وهي إشاعة تم إثبات عدم صحتها.
** متلازمة داون: نسبة إلى الطبيب البريطاني جون لانغدون داون الذي كان أول من وصف هذه المتلازمة في عام 1862 والذي سماها في البداية باسم "المنغولية" أو "البلاهة المنغولية" ووصفها كحالة من الإعاقة العقلية بشكل موسع في تقرير نشر عام 1866، وهي تنتج عن تغير في الكروموسومات الوراثية.
*****
لا جدال في أن الغرب لدية صور أو تصورات نمطية ثابتة منذ زمن بعيد تجاه العربان والمتأسلمين، وإنّ محاولة استقراء هذه التصورات وتفكيك أبعادها قد يمكننا من فهم لحظة الصراع الذي بدأ ومازال قائمًا بين الشرق والغرب حتى اليوم، وهي لحظة فارقة في التاريخ الوسيط، وأفضت بالعربات في العصر الحاضر إلى الإيمان بـ "نظرية المؤامرة" دون دليل. وذلك بحكم ما ترتّب علي تلك اللحظة من نتائج، لعلّ أهمّها، التراجع الحضاري للعربان والمتأسلمين بوجه عام، واتساع فجوة التطور والتقدم بينهم وبين الغرب المسيحي في شتى مجالات الحياة. الأمر الذي غرس في اللاوعي الجمعي لديهم إحساسا بالنقص والذل والهوان وقلة الحيلة، مع إيمانهم الراسخ بأنهم خير أمة أخرجت للناس...!
ولأنَّ العربان والمتأسلمون مصابون بمرض الشوفينية المصحوب بالبارانويا ”Paranoia“، أي الاضطراب العقلي، فقد نما المرض بشكلٍ تدريجي منذ ظهور الأسلمة المحمدية وانتشارها حتّى صار مزمنًا ومتميزًا بنظام معقّد يبدو منطقيًا ولكنه يتضمّن هذيانات الإضطهاد والشك والإرتياب، الذي يجعلهم يسيؤون فهم أيّة ملاحظة أو إشارة أو عمل يصدر عن الآخرين ويفسّرنه على أنّة إزدراء بهم، مما يدفعهم إلى البحث عن أسلوب لتعويض ذلك فيتخيلون أنّهم عظماء وعلماء بكلّ شيء.
إطلع على مقالي بعنوان: البارانويا والإسلاموية بتاريخ 16.2.2017 على هذا الموقع
http://m.ahewar.org/s.asp?aid=548577&r=0&cid=0&u=&i=0&q=%ED%C7%D3%ED%E4+
إنه إختلال في موازين القوى العقلية الذي يحدث عندما يدرك الإنسان بوجود قوة أكبر على الجانب الآخر ويظنّ أنها لن تُـقهَر، وأنها تتحكّم في قدره وتلاحقه باستمرار دون الرجوع إلى التبريرات المنطقيّة.
ومن ناحية أخرى نجد أن هذه التصورات المختزنة في الثقافة الغربيّة منذ القِدَم تعود إلى القرن السادس الميلادي، حيث بدأ تتمدد غزوات البدو العربان إلى الغرب البيزنطي (بلاد الشام ومصر) ومن ثمّ إلى القارة الأوروبية، واكتساحهم شبه جزيرة إيبيريا، ومحاولاتهم بسط نفوذهم على جنوب أوروبا بكامله. إن الصور أو التصورات التي تتشكل في أذهان البشر عن أنفسهم وعن الآخرين، ومن ثم تحدد سلوكهم في الحياة تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين، لا تنشأ من فراغ، ولا تأتي من عدم، ولكنها ناجمة عن التعامل مع بعضهم البعض. فكيف يكون الوضع إذا كانت هذه التعاملات تتسم بالعنف والإرهاب والسبي والاغتصاب؟
كان لا بد وأن يسشعر الأوروبيون الخطر القادم إليهم من الشرق، فانطلق المؤرّخون ورجال الكنيسة شرقًا وغربًا إلى الترويج لفكرة تقوم على اعتبار أن هجمات العربان البربرية، ما هي إلَّا غضبا إلهيّا مسلّطا على العالم المسيحي لعدم تمسكه بدينه. ولم يكن التسويق لهذه الفكرة نابعًا عن الجهل بعقيدة العربان الجديدة كما ذهب إليه العديد من المحللين والباحثين، لأن هذه العقيدة، التي سُميت "الإسلام" فيما بعد، لم تكن موجودة أو على الأقل لم تكن مكتملة بالفعل في ذلك الوقت، ولم تلعب دورًا بارزًا في هجماتهم على جيرانهم. وكانوا يُعرَفون آنذاك بـ"السراسنة Saracens وهي كلمة مأخوذة من اليونانية واللاتينية القديمة، وقد اختلف الكثيرون في تفسيرها، فقال البعض انها تعني "عبيد سارة" في إشارة إلى أنهم من نسل هاجر زوجة النبي إبراهيم الثانية وكانت أَمَةً لدى السيدة سارة زوجته الأولى، وقال آخرون إنها تعني اللصوص السراقين" ويعرفون كذلك بـ"الوثنيين Pagans" و"الكفار Infidels" و"الهراطقة Heretics" و"المحمديين Mouhammadans" ... إلى غير ذلك من الأوصاف التي لم يرد ضمنها على الإطلاق لفظ "المسلمين Musulmans".
وبدأ يظهر الإطار المرجعي لديانة المتأسلمين، والذي تبنته الوساطة البيزنطية ونقلته إلى الغرب، في مؤلفات يوحنا منصور بن سرجون (676م - 749م)، المعروف بـ"يوحنا الدمشقي" خلال حكم الأمويِّين. هذه المؤلفات كوَّنت رافدًا من روافد التصور الأوروبي تجاه العربان وعقيدتهم الجديدة. وساهمت بقدر مهم في إثراء الجدل الكلامي بين الإسلاموية والمسيحيّة، وإضفاء نوع من "العقلنة" على نمط المناظرات حول القضايا الدينية بين علماء الكلام المتأسلمين وعلماء اللاهوت المسيحيين. وفي نفس الوقت أسست لرسم ملامح المتأسلمين، بتتشكيكها في كون ديانتهم ديانة إبراهيمية ووصفهم بـالإضافة إلى "السراسنة" على أنهم "الهاجريون" نسبة إلى هاجر الأمة زوجة إبراهيم، أو "الإسماعيليين" نسبة إلى إسماعيل ابن هاجر وزوجها إبراهيم، وذلك تحقيرًا لهم ، كما وصفوا بـ "المفسدين"، وصوّر نبيهم محمد بأنه واحد من "أتباع بدعة أريان" وأنه استقى الكثير من الهرطقة الآريانية (الآريوسية) والنسطورية.
وقد ظهرت الآريوسية كمذهب مسيحي في القرن الرابع الميلادي على يد كاهن من الإسكندرية اسمه آريوس (256م - 336م) يرى أن يسوع كائن فانٍ، وليس إلها بأي معنى وليس شيئا آخر سوى كونه معلما يوحى إليه، ومن الطوائف المسيحيّة التي تأثرت بهذه العقيدة "التوحيديون" الذين شكلوا طائفة منشقّة عن المعتقدات التقليدية في الديانة النصرانية، وأصبحت تعرف فيما بعد بـ الإسلام"، وهي لا تؤمن بألوهية المسيح ولا بالثالوث ولا بصلبه. ويعدّ آريوس من وجهة نظر الكنيسة الأرثودكسية هرطقيا أو زنديقا شكّل خطرا على العقيدة المسيحيّة طوال القرون العشر الأولى من تاريخ المسيحيّة. لمزيد الاطلاع، اُنظر: نهاد خيّاطة: "الفرق والمذاهب المسيحيّة حتى ظهور الإسلام"، دار الإوائل، دمشق 2002، ص 98.
أمَّا النسطوريّة فتنسب إلى "نسطور" بطريارك القسطنطينية، وهي العقيدة القائلة بأن يسوع المسيح مكوّن من جوهرين يعبّر عنهما بـ "الطبيعتين" وهما جوهر إلهي هو الكلمة وجوهر إنساني بشريّ هو يسوع نفسه، وحسب النسطوريّة لا يوجد اتحاد بين الطبيعتين البشريّة والإلهية في شخص يسوع المسيح، بل هناك مجرد صلة بين الإنسان والألوهيّة. لمزيد الاطلاع، اُنظر: عبد الملك خلف التميمي: التبشير في منطقة الخليج العربي، دراسة في التاريخ الاجتماعي والسياسي، 1982، ص 81.
كذلك اعتبر يوحنا الدمشقي أن القرآن نتاجٌ "لأحلام اليقظة" والنبي محمدًا "شخصًا مضلِّلًا" و"نبيًّا مزيّفًا"، وانتقد بقوة "المعاملة التي لا تليق بالنساء من قبل المتأسلمين" وعدد ممارسات شاذة عديدة في الأسلاموية، مثل الختان، وإحداث تغيير في محرّمات الطعام ومنع شرب الخمر.... إلى آخره، وناقشها باعتبارها بدعة "هرطقة" أو "زندقة" مسيحيّة مرتدّة ومنشقّة، وقال : "إنها عقيدة ابتدعها محمد، تتسم بالكذب والتشويه المتعمد للحقائق، إنه دين الجبر والانحلال الخلقي والتساهل مع الملذات والشهوات الحسية، إنها ديانة العنف والقسوة". بالتأكيد لم يكن يوحنا الدمشقي يبتدع شيئا من نفسه، ولكنه رَآه بأم عينه، ومازلنا نراه نحن بأم أعيننا حتى الآن!
منذ ذلك الوقت بدأت تغذية المخيال الأوروبي بكمّ كبير من الكراهية والعداء للعربان ومن ثم لعقيدتهم، كنتيجة حتمية لسلوك وتصرفات أولئك البدو البرابرة التي اتسمت بالإفراط في العنف والهمجية، واللهفة إلى السلب والنهب، والشغف بالنساء واغتصابهن، تحت مسوغات إلهية. صحيح أن كل شيء يمكن أن يكون مباحًا في الحرب، وأن الحروب البشرية في كل العصور يمكن أن تتسم بمثل هذه التصرفات الحقيرة، ولكن من الفجور أن تنسب إلى إرادة إلهية بشكل ما، فتصبح من المصوغات الدينية.
إن تأصّل هذه الفكرة في الذهنيّة الغربيّة أوجد سيكولوجيّة عامّة كارهة للعربان خاصة، ولأهل الأسلمة عامة، تراهم أعداءً لا سبيل إلى التعامل معهم، باعتبارهم أهل عنف وقسوة ودمويّة. إن التراكمات السلوكية للعربان والمتأسلمين على مر التاريخ ساهمت في تشكيل طبيعة العلاقة بينهم وبين غيرهم من غير المتأسلمين، وفق صور نمطيّة رسمت على أساس الغلو في الغرور بوصفهم خير أمة أخرجت للناس، وأن ديانتهم هي دين الحق وحده، وعداهم كفار وأقذار ويجب عليهم هدايتهم إلى سواء السبيل بشتى السبل الإرهابية والإجرامية، تعود جذور هذه الصور إلى النصوص الدينية المقدسة على أساس أنها مطالب إلهية، مازالت تعبّر عن نفسها بوضوح أكثر كل يوم.
ومع التهم الساذجة من قبل علماء الكلام المتأسلمين بأن المستشرقين الأوروبيين لا يقدمون صورة صحيحة عن الأسلمة لشعوبهم بسبب جهلهم بحقيقتها وعدم معرفة تامة بلغتها العروبية، يبقى العربان بنصوص ديانتهم الإجرامية، وبسلوكهم المشين وطباعهم الخشنة ونواياهم السيئة وميولهم الإجرامية وتعاملاتهم الخادعة هم السبب الأول وربما الوحيد في تأجيج الصراع بينهم وبين الآخرين المخالفين لهم، إضافة إلى عجزهم عن تقديم نموذج اقتدائي لحقيقة الأسلمة المزعومة. إنهم بذلك أوجدوا مادة خصبة لكراهية وعداء الآخرين لهم. وما كان من الآخرين إلَّا أن حبّروا في شأنهم الكثير من المدونات والأبحاث المتخمة في غالبيتها بالنعوت المنفرة منهم، على سبيل المثال نعتهم بـ"الجنس الشرير" و"أعداء الله" و"البرابرة الوثنيين" و"القتلة" و"سفاكي الدماء" و"أتباع الشيطان" و"الأمم النجسة" و"البشر الذين لا تعرف قلوبهم الرحمة" وغير ذلك من العبارات التي تزخر بها قواميس القذف والشتم. فهل يمكن أن يوصف شخص بهذه العبارات مالم تتضح، أو يتضح البعض منها، في سلوكه؟
إن هذه اللهجة المتشنجة من الطرفين لا يمكن أن تكون وليدة لفترة ما تسمى بـ" الحروب الصليبية" وحدها، بل هي رجع لصدى الماضي الذي يعود بنا إلى بداية التمدد البدوي العروبي إلى أوروبا وتشكيل الظاهرة الإسلاموية الدافعة والمبررة له. لم تكن أوروبا في بادئ الأمر، تلحظ تحولًا دينيًّا، ولم يتم طرح إلَّا أسئلة قليلة عن هذا الدين الجديد وأتباعه الذين اعتبرتهم المسيحية غير مختلفين عن بقية الشعوب البربريّة الأخرى، وأن دينهم لا يتجاوز كونه تعبيرا عن "هرطقة" مسيحية جديدة، ولذلك، فليس ثمة حاجة تدعو إلى المزيد من المعلومات عنهم في هذا الوقت المبكر.
لدينا وصف معبّر للمسلمين، رسمته كلمات فوشيه دى شارتر Foucher De Charters) (1127 - 1059)) المؤرخ والقسيس المولود في شارتر الفرنسية والمتوفي في مدينة القدس، والذي شارك في معظم الحملات الصليبية الأولى، يقول في كتاب: تاريخ الحملة على القدس ترجمة وتحقيق: د. زياد العسلي، دار الشروق، القاهرة 1990: "كانوا (يقصد المتأسلمين) يبجّلون معبد الرب تبجيلا عظيما ويفضّلون تلاوة الصلوات فيه، غير أن هذه الصلوات كانت تضيع سدى لأنها تقدّم إلى صنم أقيم هناك"، وكان يعني بهذا المعبد "مسجد قبة الصخرة" والصنم الذي تُقَدَّم له الصلوات هو "محمد" نبي الأسلمة. ولام المسيحيين بقوله: "يا له من عار على المسيحيين أن يلوموا مَنْ لا دين لهم على ديننا"، كما نستحضر قوله في حيّز آخر "يا له من عار إذ قام جنس خسيس مثل هذا الجنس (يقصد المتأسلمين) جنس منحلّ تستعبده الشياطين بهزيمة شعب يتحلّى بإيمان عظيم". ووصف العربان بأنهم أناس أغبياء يعيشون في الفيافي يتقاتلون فيما بينهم.
وهكذا، تمّ شحذ أذهان الأوروبيين بأن المتأسلمين ليسوا أهل دين وما نبيهم إلَّا "ذاك الشخص المثير للجنون، وَعَـدَ أصحابه بالملذات الحسية من مأكل وجنس... وحتى كلامه عن قوى روحيّة لم يستند إلى وقائع برهانية قويّة، بل هي ثرثرات يفندها العقل البشري البسيط...ما هو إلا شخص جاب بسيفه كاللصوص ربوع الصحراء، حيث خَشَيَتْهُ الشعوب هناك، مستهزئا بقصص وثرثرات ما قبل النوم المأخوذة من حكايات العهد القديم" أنظر كتاب: أحمد الشامي: "تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب في القرون الوسطى"، ط1، دار النهضة العربية، القاهرة 1992.
وإذا كانت الحضارات تنتصر - كما يزعم فرنان بروديل Fernand Braudel (1902-1985) في كتابه: تاريخ وقواعد الحضارات، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة 1999، لأنها تعرف كيف تمارس كراهيتها للآخرين، فهل يصحّ القول حينئذ، بأن الكراهية التي يتعرض لها العربان وديانتهم من طرف الأوروبيين يعبّر عن حاجة ضروريّة لدي الأوروبيين "للتعويض عن شعورهم بالنقص"، أم أن العكس هو الصحيح؟. فالشعوب المسيحية تمكنت في وقت مبكّر من الخروج من الظلام إلى النور ولم يعد لديها أدنى شعور بالنقص، بينما العربان والمتأسلمون منذ قرون عديدة يرفلون في حلل الظلام والجهل والانحطاط، لم تنفعهم كراهيتهم للآخرين والتعالي عليهم، ويمكن القول بأن نظرية المؤامرة التي تعشش في عقولهم وتسيطر على وجودهم ما هي إلَّا إسقاط لهذا الجانب المظلم في حياتهم. إنهم في الحقيقة لا يملكون شيئا يتآمر الآخرون من أجل الحصول عليه، وليس لديهم ما يقدمونه للإنسانية يغري الآخرين بالتآمر عليهم من أجلة.
إن العربان والمتأسلمين شكلوا - لمدة طويلة - بالنسبة إلى الغرب المسيحيّ، خطرا قبل أن يصبحوا مشكلة في الوقت الراهن، من خلال جدلية المد والجزر، والاحتكاك العنيف. فبدأت الصور الأوروبية عن العربان وديانتهم تظهر بوضوح وتتحدد أكثر فأكثر، وبدأت تقترب أو تتطابق مع الوقائع. لقد غدا البعد الأسطوري لهذه الصور حاسما في إعادة إنتاجها وتكريس معانيها في أعماق اللاوعي الجمعي الأوروبي، خصوصا أنها تعلقت بمنظومة دينية وثقافيّة تحمل كل عناصر الضدية للإنسانية.
إن سمة العقل العربي هي الإيمان بنظرية المؤامرة التي تريح العقل من عناء البحث عن الأسباب، وتغني المراقب عن نقد الذات، وتغذي الشعور بأننا ضحايا لأعداء متآمرين، لولاهم لكان وضعنا أفضل بكثير. هذا الاعتقاد هو أحد أسباب الموت البطيء للأمم والشعوب، والذي يبدأ بدعوة إلى الركون والخضوع والخنوع عن التغيير، وينتهي بتفسير كل ما هو غير مألوف على أنه من صنع المؤامرة، إنها لذة التفسير التآمري، عندما يشعر المرء بالعجز أو الفشل أو بصعوبة التحكم في حياته اقتصاديا أو عاطفيا أو مستقبليا، فهو يجد السلوى في تقبل أن هناك مجموعة أو جهة ما لها علاقة أو سبب في عجزه، وليس هو السبب! هذا الطرح أرْيَح له نفسيا، من تقبل أنه عاجز وخاضع وخنوع، انطلاقا من ذاته وسوء فهمه لوضعه، بما فيه من حقوق وواجبات تجاه نفسه ونفوس الآخرين. إن الشعوب التي تلقي بعجزها وتدهورها على المؤامرة بدلا من مواجهة واجباتها تجاه ذاتها وواقعها، تتبع بذلك ميكانيزم دفاعي يعرف في علم النفس بـ"الإنكار"، أي عدم الرغبة بمواجهة حقيقة الواقع لأنها مؤلمة للنفس وجارحة للنرجسية الشوفينية، كما أن هناك أيضًا عدم الرغبة لدي هذه الشعوب بالاطلاع على التفسير الصريح والتشبث العام بالتفسيرات والتأويلات الخاصة لأنها تعودت عليها وتكيّف معها بشكلها المَرَضي.
ومهما تعددت مبررات إسقاط العجز على الآخر كسبب ـ فإن "نظرية المؤامرة" تظل الجانب السحري الذي يعلّق العربان فيه سوء أوضاعهم وغباء تفكيرهم وانحطاط سلوكهم، مادامت هناك مؤامرة عالقة بأذهانهم، بانتظار تدخل شخص أو حدث (صدفة) ينهي سيطرتها، بقطع خيوط تحكمها الخفية.
إن الصراع بين الشرق والغرب ليس صراعًا دينيًّا، بقدر ما هو صراعًا حضاريًا، تلعب فيه النصوص الدينية المحددة لثقافة العربان دورًا رئيسيًّا، فـ“ ثقافتنا تعبد النصوص!، يكفي أن نقول: قال فلان ... ويتوقف العقل » تبعًا لقول الدكتور نصر حامد أبو زيد، لذلك على رجال السياسية والدين وكافة النخب الثقافية والاجتماعية في البلدان المتأسلمة أن يتحلوا بالشجاعة الإنسانية المطلوبة، ويطرحوا هواجسهم جانبًا ويعيدوا النظر في مقومات ثقافتهم المدمرة، ويعملوا على إدخال شعوبهم إلى عالم ينعم بالنور والحداثة والحريّة والإزدهار المادي والمعنوي، قبل أن يجبروا على ذلك بتضحيات جسيمة، فالعالم بأسره لم يعد يحتمل وجود العربان والمتأسلمين بهذه الكيفية.