قراءة حزينة وممتعة في كتاب -مطارد بين ... والحدود- للكاتب يحيى علوان (5،2-5) يتم، شكوك وآلام واعتقال!


كاظم حبيب
الحوار المتمدن - العدد: 5785 - 2018 / 2 / 12 - 11:56
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات     

حط يحيى علوان أخيراً في مدينة مشهد المزدحمة بسكانها وبالزائرين الذين يأمون إليها من سائر أرجاء العالم الإسلامي، وهي مدينة قديمة تستحق المشاهدة للتعرف على معالمها وضواحيها. بعد أيام قليلة استعاد جزءاً من عافيته ومزاجه الطبيعي بعد أن كان قد هدَّهُ التعب والألم. وجد في دار المضيف بعض الراحة النفسية، إذ التقى بالرفيق أبي حيدر (حمزة عبد)، الذي كان قد أصيب بشظية في ساقه وعاني من ضربة الكيمياوي التي تعرض لها رفاق قاطع بهدينان في العام 1988، وكان في طريقه إلى أفغانستان للمعالجة. قضيا معاً أسابيع عدة بانتظار توفر فرصة العبور الآمنة، فتسنى لهما التجوال في المدينة والقيام بسفرة ممتعة إلى مدينة طوس. كتب يحيى: "في مشهد شعرت أنني أتخفف نوعاً ما من مخاوفي السابقة ورحت أقترب من سجيتي.. كنت أخرج مع أبي حيدر، نستكشف المدينة، شوارعها أسواقها.. زرنا مرقد الأمام الرضا، سافرنا معاً مع عائلة أم أيسر إلى متنزه في مدينة طوس ... حيث مرقد الشاعر الإيراني المشهور أبو القاسم الفردوسي..". (ص 268).
كانت الحرب ما تزال تثير الناس، رغم مرور ما يقرب من ثماني سنوات على اندلاعها. تدفع الناس إلى الاحتجاج.. يثيرهم التشدد والتزمت الديني.. يستفزهم فرض الچادر على النساء، حتى المسيحيات بطهران أو غيرها. تعرف يحيى على واحد من الاحتجاجات التي بدأ الناس يمارسونها في إيران.. "كانت امرأة تُفرد إزارها [تشادور]، مثل عارضة أزياء، فتكشف عن جسدٍ عارٍ تحت الإزار، إلا من ملابس داخلية شحيحة.. ولما حضرت قوة من "أخوات زينب"!.. سارعت تلك المرأة وغابت بين الجموع في السوق الكبير، حاول بعض المارة عرقلة مطارديها!..". (ص 269). في إحدى زياراتي إلى طهران، ركبت حافلة عامة، سمعتُ شخصين يتحدثان عن أوضاعها في إيران: قال أحدهما: "زندگی ما مرگ تدریجی است" (حیاتنا موت تدريجي أو بطيء)، أجابه الثاني: "خداوند به کلمات شما درست است" ( والله كلامك صحيح)!!
كنت يوماً مع الرفيق أبي سرباس (أحمد باني خيلان) نجوب شوارع همدان نفتش عن دار القنصلية التركية للحصول على سمة الدخول إلى تركيا.. سألنا أحد المارة.. قال: سيروا على هذا الطريق، ستواجهكم ساحة واسعة، في الوسط منها مسلة عالية، ستجدون عليها الكثير من (ميمون) (القردة)، عندها سيروا على اليمين ستجدون القنصلية هنا. وحين وصلنا الساحة، رأينا المسلة ولم نجد قردة هناك، وجدنا عدداً كبيراً من صور كبار الملالي المسؤولين عن النظام الإيراني الإسلامي المتحجر، ملصقة على جوانب المسلة! إنه أحد أوجه الاحتجاج الشفاهي الساخط والصامت!
لم تكن أسابيع وجوده في مشهد ثقيلة على يحيى، فالصحبة الطيبة والتجوال والتعرف على المدينة خفف من ضائقة الطريق المريرة، رغم رغبته العارمة في العودة إلى البيت واللقاء بصغيرته، بابنته الحبيبة. ثم حان موعد مغادرة مشهد، بعد أن كان الرفيق أبو حيدر قد غادرها قبله بأيام.
تهيأ للسفر.. من كراج "مشهد" نحو قرية السلامات.. أعطيت ملامحه واتكاؤه على عصاه لمن سيستقبله هناك، يناديه بـ "أبي فلاح".. سينقله إلى حيث الحدود الإيرانية-الأفغانية.. وصلوا القرية، غادر المسافرون السيارة وفوجئ بصوت يقول: "أغاي أبو فلاه!.. بفرموا..!"، صوتٌ فيه بحة، يصلك قبل أن ترى مصدره، تتلفت حولك فلا ترى أحداً، ركاب السيارة ابتلعهم الغسق والدروب الضيقة، ذابوا كحبة ملح في ماء." ثم يصف دليله للعبور فيكتب: "يصل إلى مسامعك شيءٌ يدق الأرض فيرتد مخنوقاً.. رأس كبيرٌ، لا يتناسب مع قامة قصيرة تقترب منك.. بطيئاً، يتكئ على عكاز خشبي، ورجل تتمرجح في الهواء بلا ساقٍ، بشرة دكناء حمّصتها الشمس وكستها بطبقة من التجاعيد.. مدَّ يدهُ يمسحُ غبارَ الكآبة عن وجه مكدود وعينين تفيضان مكراً.. ما أن انفرجت شفتاه حتى بان صفان من الأسنان شديدة الصُفرة، قُل قهوائية..". (ص 283). كان يدخن الحشيش، قدم له لفافة اعتذر، فهو لم يجربها، سار معه حتى الدار.. استقبلته زوجته الشابة.. ظنها ابنته.. كتب يحيى "ابتسمت لكَ، فَرَّشت وجلك، على الزرع في باحة الدار.. فتحت بصدرك حجرات مغبرة الأقفال، كنت نسيتها، فأرسلت إليها صعقة من دفق فتنتها .. فتتتها ومشت."، إنها النفس الخضراء ليحيى التي ينتعش لمرئى النساء الجميلات.. تجده يقول:
"ناديت روحك.. لم تسمع. كان داخلك يصرخُ بصمم، فاكهة دانية القطوف في بستان محرم، ستبيت على اشتهائها ما العمل؟ .. ثمرة تغص بها إن قضمتها.. تطعن قلبك إن لم ... تموت إن هي التهمتك!.. أنت أمير بلا إمارة، مفلس في حيرة طواحين تعبث بالريح، لهفةً لدون كيخوته، لكنني سأمتطي الحرفَ، كما تفعل الساحرات مع العصيِّ..". (ص 285). يذهب الدليل إيهاب يستكشف الطريق.. تبقى وحدك.. تقول "منذ ستٍ، تصيح ربابة الشوق، تقاطع نياط "الأبوذية"، ولا بدوي ينتبه أو يصغي!" عربة تجرها خيول الرغبة والرهبة كانت.. تراءى لك أن رغبتها تفح بنوع غريب من الإثارة والتمني الصارخ، يهذيان شبقاً.. تطبق على صدرها تعتصره، فتطرد ما تجمع فيه من زفرات الحرمان والنهي، الذي يرفض أن يلبي توسلات جسد بض.. سترضع شحمة أذنك، فتحس برعشة تخضك من آخر ركن فيك، وتدخلان في أحلى لعبة في الكون.. ستترنح تتركها تفعل بك ما تشاء، تعجنك، بعد أن صيرتك هلاماً تعيد تشكيله، كيفما تشتهي.. سينسى الزمن نفسه، حتى يجرفكما الطوفان، يطفئ الحرائق ويخرس لعثمة الانتظار والتردد.." هكذا قضى يحيى جزءاً من ليلته بعد ذاك العذاب الطويل في درب التيه والعطش والجوع.. "يقول يحيى "خنقت سعيدة صرخة انفلتت منها.. تلقفتها خيول الريح وركنتها في واحد من رفوف الأمس، لتكون طعماً للحنين..". (ص 291/292). بعد هذا يقول يحيى ضمن مقطوعة من نثر شعري مرطب بحلاوة الحب:
"تعالي إذ اشتهيك، فأحلى لعنة صدفةٍ أنتِ.. تعالي، الساعة، لا يبل عطشي إليك إلا أنتٍ.. تعالي وحكي دمي بطارف غمّازتك.. اغفري، سعيدة، خطيئة آلهة أورثتني شيئاً من أنكيدو.. كفاني خبأت شهواتي في السر، الذي عشته، حتى لم يعُد بمقدوري إفناؤها في جسدي، فالموعود رهان خاسر للُسذَّجِ". (ص 296).
يم تكن سعيدة عصية ً.. كانت قوية كما الخطيئة أمام ضمير محاصرٍ أعزل!.. انكسرت نظراتكما، وسقطت في المسافة بين بين.. فارت المهجة، شاغت الروح.. كانت سعيدة مُبللةً بالفراش.. ترقص فوق جنون الأقحوان.. تضوع الممر بنسائم خليط من الحبق والفل..". (ص 291).
ما ان انتهى من حلمه بسرعة في رحلة الحب الخطيئة، خشية عودة "إيهاب"، حتى عوقب على تلك الخطيئة، إذ وجد نفسه في خطر جديد داهم، كتب يحيى: "دون "إنذار مسبق" تضيء المكان َ أنوار كشافة، وتسمع وقع أقدام كثيرة تتراكض وتتقافزُ كالأباليس في كل الاتجاهات، تلتها رشقات رشاشات.. ترمي بحالك على الأرض، دون الحاجة إلى تفكير، وتزحف ناحية الزريبة. تدفع الباب الموارب وتنسلُّ بين قوائم البقر، الذي سيسترك دون خوار قد يفضحك.. تندفع بهدوءٍ زاحفاً حتى آخر الزريبة، فيفسح البقر الوديع لك في المكان المظلم، الذي لا يصله حتى خيط ضوء.. تكاد تشعر بالاختناق، ينهمر دمعك وتغالب شعوراً بالغثيان يجتاحك من روث البقر....، .. فجأة يندفع باب الزريبة بعنف وتمتد ماسورتا رشاشين ومصباح يدوي.. كأن البقر الكريم "شَعَرَ" بخطورة الموقف وارادَ أن ينتصر لشخص مطارد بين الله والحدود.. فراح يخور ويدور على نفسه بحركات عنيفة حفَّزها الضياء الحاد.. وضع الشخصان المناديل على وجهيهما اتقاء الروائح الكريهة، التي اختزنتها الزريبة.. وغادرا المكان.... ". (ص 298). ظل يحيى قابعاً في مكانه طوال الليل.. رغم وصول إيهاب قبل ذاك.. لم يكن مستعجلاً على إخراجه من الزريبة.. خشية عودة حراس الحدود. كان المطر قد تساقط طوال الليل، منعت تلك الروائح النتنة يحيى حتى من الإغفاءة القصيرة. ثم توقف المطر. تناولا الفطور الذي أعدته ذات الإزار الجميل.. تقرر الرحيل..، اتجها صوب طريق العبور. يقول يحيى: حملتَ صُرتكَ تتوكأ على عصاك، وعندما أيقنت أن "صاحبك" تخطى باب الدار، استدرت إلى الوراء، أومأتْ سعيدة مودعةً... "خدا حافز". انطلقت بهما الدراجة النارية "بسرعة جنونية"، لا تتناسب مع أرض زراعية محروثة حديثاً ملأى بالمطبات والحفر.. وراح يدندن بأغنية، فيما تختض أنت كشگوة اللبن..!". (ص 303).
ولكن عذابهما لم ينته.. لقد عاشا مرارة الانتظار والعطش واشعة الشمس المحرقة، كانت تصب بحممها على رأسيهما، كان رأس الدليل مغطى، بينما رأس يحيى مكشوف للشمس والريح.. وجد الدليل نفسه مجبراً على العودة.. بين حظ عاثر، لم يصل دليل الطرف الآخر، لم تصل إشارة وجوده، وبين فرحة اللقاء الثاني بسعيدة، عادا بالدراجة إلى الدار بانتظار الغد. حال وصولهما الدار سقط إيهاب على الأرض من شدة الإرهاق.. بعد أن صاح بصوته المبحوح سعيدة!.. يقول يحيى "جاءت تركض حافية، حاسرة الرأس، مُهَدَّلةَ الزيق، انحنت عليه تلطم وجهها وتصفق بالأخرى.. قلت لها "عجلي بشربة ماء"، دون أن تكلف نفسها عناء إلقاء نظرة عليك.. كانت مرتبكة، إذ رأت إيهاب ملقى على الأرض، يصدر ما ليس يشبه الشخير، بل ما يصدر عن ثور ينحر!.." من شدة الإنهاك. أحضرت طاسة ماء، وكانت قد ألقت إيشارباً خفيفاً على رأسها..". تعاونا "على حمل إيهاب إلى الغرفة، حيث نام فوراً على بطنه ودفنَ وجهه في الوسادة.". (ص 330). فيما كنت تجلس على الحصير، غير بعيد من باب الغرفة، خرجت سعيدة منها مكتئبة.. قرفصت إلى جانبك صامتة. شاردة الذهن، تُجرَّحُ وجه الأرض بعود.. جاءته بعد الغروب، وذهبت قبل الشروق، وتركت في يديَّ حفنة من التوريات ٍ ولم تعدْ..".
في صباح اليوم التالي تسنى له العبور، لم يكن سهلاً، جاءت إشارة الدليل في الجهة الأخرى. انتهت مهمة إيهاب وعاد أدراجه.. لم يسقه حتى قطرة ماء يسد بها رمقه! "لا قَطرَ يطفئُ الهسيس بجوفك.. صحراء عارية إلا من شظايا الجحيم، فأين الهرب؟ لا أبنية ولا أشجار ولا نبات... قفرٌ أقرعٌ"! (ص 314).
كان على يحيى والدليل الجديد أن يقطعا صحراء قاحلة. أرضاً رملية "ضجرٌ يبحث عن ظله، ومضجرٌ هذا الرمل الأخرس، يعجز حتى عن إرجاع صوت كعب عالٍ، تتلهف إليه مسامعي، تتلهى به مخيلتي، ترسم قواماً ملائكياً فوقه!.. السراب هو سيد الموقف حين تكون في البراري والشمس تحرقك والعطش يغرقك في الأوهام، السراب. حين التقيت، مع مجموعة من الشبيبة، بسكرتير عام الحزب الشيوعي في تشيلي لويس كورفيلان، حدثنا عن السراب حين يكون الإنسان في الصحراء تائهاً ويهدَّه العطش، إذ كلما يقترب منه يبتعد!..، كان يقارن ذلك مع قائد عسكري من النظام يتحدث عن ضرورة تحالفه مع الحزب الشيوعي لبناء الاشتراكية في تشيلي.. كان ذلك في كانون الثاني/ يناير من عام 1972 أثناء انعقاد المهرجان العالمي لاتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي.. فهل يمكن أن يكون سراباً تحالفات سياسية محتملة مع قوى إسلامية سياسية!..
كتب يحيى وقد هدَّه التعب والعطش "ها هو عويل الريح تماهى مع مدارات الضياع في ملكوت الرمل.. ودفقات الخوف من أفق متبرج/ مليء بفوهات التيه.. فالهواء هنا هتوك.. يمر خفيفاً، ثم يلتهب، لا جدران، حتى تلك التي تعبت من الوقوف وحمل التمائم و"علق النذور... الشمس تجلدني بشواظٍ من جحيم..". على الصفحة 339 يستذكر يحيى رحلة الضنى فيكتب:
رَملٌ.. رَملٌ.. ثم رَملٌ.. فرَملٌ.. على امتداد النظر.. وما خلف تخوم المدى.. لا شيء غير الرمل.. حتى ما وراء السراب، وحيداً يتمطى في عزلته.. رَملٌ يقضي العمر يلتحف ب رَملٍ، رَملٌ يرحل.. ورَملٌ يأتي، بروق ورعود من سحاب عاقرٍ.. موحشٌ هذا الرملُ..". إن هذا النثر الشعري يدلك على حالة يحيى ومزاجه وهو يخوض رمال الصحراء بركبته المعطوبة وعطشه..
حين يواجه يحيى أوضاعاً صعبة يلوذ إلى الأصغاء لذاته، يحاورها ويحاور غيره.. نقرأ في هذا الكتاب الشيق مقطوعات من النثر الشعري الجميل.. في فقرة تحت عنوان "يتيم" نقرأ الكثير من ذوقه الأدبي، بلغةٍ جميلةٍ، وغنى مفرداتها، وخصب خيال صاحبها، ومصداقية الحالة النفسية التي تنساب الكلمات والجمل من بين أصابعه لتحط على ورق لا يمحى.. منها:
"من ذا يطرق باب ليلتي.. يشاركني وحدتي؟.. أنا الرازح المُعنى في غربتي، أُشعلُ بخور الحنين، أسامر وحشتي.. أُلملمُ شَواردي، مثل هُدهُد أضاع الكلام.. لا يكترث لخسوف بدرٍ. أي مناكد أتى يسلبني أثامي الجميلة، يبعثر زهوراً نثرتها فوق فراش الصمتِ.. حيث نصبتُ شباكي أستدرج طيفاً شقياً؟" ... (ص 275).
يصف يحيى ريحاً عاتية في وسط صحراء رملية: كأن شفاطة رهيبة حطَّت فوقنا، تحاول اقتلاعنا مع الدراجة النارية.. تشبثنا بها ودخلنا مع الإعصار في ما يشبه لعبة "شدَّ الحبل"! ولما يئس منا، تركنا يعدو في عجلة من أمره، كأن لديه موعداً هاماً!...". (ص 357).
عبور الحدود بمثل هذه الطرق فيها الكثير من المخاطر، فالمهربون لا يدفعهم النبل في نقل أمثالنا عبر الحدود، بل النقود، وهم يسعون في الحصول عليها بشتى السبل.. قال الدليل ليحيى: "هات ما عندك!.." قلت له صاحبك الأعرج، في الجانب الآخر، هو الذي رتب الأمر وتسلم المبلغ!.. فقال.. لا شأن لي به، أريد أجر أتعابي هنا، منك، وإلا سيكون مصيرك مجهولاً، سأتركك هنا وأمضي، لن أكون مسؤولاً عما يحصل لك!.. قلت فتشني وأن وجدت نقوداً أو شيئاً ينفع، فهو لك.. شرع يفتش جيوبي عابساً، فما لقي سوى هوية مزورة.. تناول كيس البلاستيك، كانت به بعض حاجياتي.. أدوات حلاقة، فرشة أسنان، ملابس داخلية متسخة وجوارب تزكم الأنوف، كنت أخفيت فيها بها 1500 تومان إيراني، و500 على انفراد، ... وعندما فتح الكيس صدمته الرائحة، أدار وجهه عابساً..." (ص 359)
وأخيراً وبعد مرارة الطريق ولف ودوران "وصلنا إلى مبنى متواضع.. قدمت نفسي ... شيوعي عراقي قادم من كردستان، وهذه الهوية المزورة التي استخدمتها لعبور إيران، وأن قيادة حزبكم في كابل لديها علم بذلك، ..". سجلوا محضراً بذلك.. ليجري تسليمه مع يحيى علوان للمسؤولين في هرات.. وصلوا عصراً. نقل بسيارة جيب روسية إلى دار تابع للمخابرات العسكرية الأفغانية، فوجئ بوجود رفيقٍ نصيرٍ له فيها، إنه الرفيق أبو واثق (المسرحي لطيف حسن) ورفيق نصير آخر. كانت أيام الحجز ثقيلة بعد كل مرارات الطريق من طهران إلى هرات. يقول يحيى "الزمن كسول.. سيغدو الأسبوع سبعة "قرون"!
وبعد أن حلحلت الملابسات، التقى رفاق الدرب الطويل، التقى، أبو علياء وأبو حيدر وأبو سامر، في طائرة عسكرية روسية نقلتهم إلى كابل، وتخلف عنهم أبو واثق لعدم وجود مكان له في الطائرة التي حجزت لهم للثلاثة مع رابع يحرسهم، ثم توفرت إمكانية المغادرة منها إلى موسكو ومنها إلى برلين حيث صدم ما لا يشبه كل الملمات والأوقات المرة والعثرات التي مرّ بها في طريق العودة من كردستان العراق إلى برلين!! إنها الحياة بمفاجأتها السارة والحزينة، وأحياناً كثيرة ليس لها من مرد!!!
وأخيراً، إن من يقرأ هذا الكتابة الحافل بالأحداث الشخصية، التي مرَّ بها يحيى علوان، والتي تقترن برؤيته للأحداث، كما حدد نفسه ذلك بصواب في بداية الكتاب، سيدرك دون أدنى ريب عدداً من المسائل المهمة التي يمكن تلخيص بعضها القليل: ** لقد كان الأنصار الشيوعيون أوفياء للوطن والشعب، بغض النظر عن مدى صواب أو خطأ، هذه القضية أو تلك، كانوا جادين ومخلصين فيما سعوا إليه، رغم الوهم الذي رافق ذلك الحلم الجميل؛ ** قدموا التضحيات الغالية، بأنفسهم أم بعائلاتهم أحياناً، دون أن ينتظروا شكراً أو جزاءً جراء تلك التضحيات؛ لم يختاروا هذا الطريق الصعب، بل فرض عليهم، حين أجبروا على ترك العراق أو الالتحاق بجبال وأرياف كردستان وتشكيل حركة الأنصار الشيوعيين، لقد كان هروباً من نظام استبدادي مطلق سلط جام غضبه وعدوانه على الشيوعيين وأصدقاء الحزب وكل القوى الديمقراطية، ومارس الأساليب الفاشية مواجهة كل المعارضين له؛ ** كما إن نهاية الحركة الأنصارية، التي دامت قرابة عشر سنوات، (نهاية 1978-نهاية 1988)، اقترنت بهجوم عسكري كاسح لمنطقة وجود الأنصار الشيوعيين من جانب قوات النظام الدكتاتوري المطلق، أجبروا على إثرها مغادرة جبال وأرياف كردستان العراق صوب الخارج؛ ** لقد تحملت جمهرة كبيرة من رفاق الدرب الأنصاري الكثير من الحزن والألم والعذابات الشديدة، قدم الرفيق أبو علياء بهذا الكتاب لوحة حية وواقعية لواحد من هذه النماذج المهمة، بغض النظر عن هذا الرأي أو ذاك حول هذه المسألة أو تلك. كما نشر أخرون كتباً حول تجربتهم الأنصارية؛ ** وقدمت حركة الأنصار عدداً كبيراً من الشهداء، يمكن أن نقول، أن جلهم كان يفترض أن يكون اليوم معنا، لولا الأخطاء التي ارتكبت من أبرز القيادات التي لم تكن ناضجة ولا بحجم المسؤولية التي أنيطت بهم. ومع ذلك قدمت هذه التجربة دروساً كثيرة وغنية لم تدرس بعد، وبحاجة إلى الكثير من البحث والتدقيق للوصول إلى استنتاجات تنفع القادم من المناضلين والمجتمع العراقي، والقادم من الأيام!!
ليس في هذه القراءة المكثفة لكتاب الكاتب والإعلامي المميز يحيى علوان بأسلوبه الشعري وخياله الخصب ما يشبع عن قراءة هذا الكتاب، أتمنى أن يجد الكتاب طريقه إلى أيدي قارئات وقراء اللغة العربية، فهو خزين من المعلومات والتجارب الغنية والتي يمكن أن ينتقى منها الكثير من الدروس والعبر! للكاتب التحية والشكر الجزيل على ما وفره لي من متعة القراءة والكتابة عن الكتاب.