وجة نظر في البحث عن ثقافة التنوير والحداثة


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 5780 - 2018 / 2 / 7 - 18:05
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

 قبل التعليق على الحوار المتمدن الذي أجري مع القراء الأعزاء، بشأن البحث عن كيفية صناعة ثقافة تنويرية وحداثية في العالم الإسلاموي، أود الإشارة أولا وبإيجاز عمَّا حدث من تغيرات حضارية وفكرية في عصر النهضة الأوروبية.

مع بدايات القرن السابع عشر أصبحت سلطة العقل التنويري هي السلطة الوحيدة في الفكر الأوروبي، فأينما يمّم المرء وجه في القارة الأوروبية يجد أصداء تلك الاكتشافات المعرفية الهائلة التي أغرت العقل الأوروبي واستحوذت عليه، وجعلته معتدًّاً بذاته واثقاً من قدراته التي بدت في تلك اللحظة التاريخية على أنها قدرات لا محدودة.
 
ففي فرنسا كان الفيلسوف الشهير رينيه ديكارت (1596 - 1650) يعمل على صياغة تصور جديد للإنسان، يتجسد في مقولة (الكوجيطو/ الذات العقلانية) التي تقتحم الكون وتكتشف أسراره، (باللاتينية: Cogito, ergo sum )، فكانت هي المبدأ الذي انطلق منه ديكارت لاثبات الحقائق بالدليل والبرهان، معبرًا عن ذلك بقضية منطقية هي (انا اشك إذا انا موجود) وليست (أنا أفكر ... كما يترجمها البعض خطأً)، فأصبحت هذه العبارة في غضون فترة وجيزة علامة على صياغة إنسانية جديدة تقوم على اعتبار أن الوعي والعقل هما أساس الوجود.
 
أما في إنجلترا فقد كان الفيلسوف جون لوك (1632 - 1704) يعمل من ناحيته على كتابة مؤلفيِْه "مقالة في الفهم الإنساني" و"عن العقل البشري"، اللذيْن خصصهما للرد على أطروحة ديكارت، ولكنه لم يختلف معه حول قدرة العقل على الوصول إلى الحقيقة، لأن النقاش في هذه القضية قد بات محسوماً آنذاك، إنما كان الجدال بينهما يجري حول أي المنهجيات التي ينبغي توسلها للوصول إلى الحقيقة، هل هو المنهج (التجريبي/ الاستقرائي) كما يذهب لوك، أم أنه المنهج (العقلي / الاستنباطي) الذي يتبناه ديكارت.

وفي النهاية أدَّى جدال الفلاسفة والمفكرين والمثقفين الأوروبيين إلى وضع أسس لثقافة التنوير التي أفضت بدورها إلى الحداثة التي نشهدها الآن، وقد عبرت حدود القارة، واحتوت تحت لوائها العديد من الدول في جميع أنحاء العالم.

في مقال بعنوان ما هو التنوير؟
Was ist Aufklärung?« in: »Berlinische Monatsschrift«, Dezember- Heft 1784, S. 481-494.
عرَّف الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 - 1804) التنوير بأنه:« إنعتاق المرء من حالة العجز الذاتي. الذي يعني عدم قدرة المرء على استخدام فهمه الخاص دون توجيه الآخر. اذا لم يكن سبب هذه الحالة، من عدم النضج الذاتي، هو نقص في ملكة الفهم، فهو بالأحرى، نقص في الشجاعة والاقدام لإستخدامها دون إرشاد الاخر. لذلك، يكون شعار التنوير إذن: تحلّ بالشجاعة لإستخدام عقلك بنفسك.
إن العجز والكسل، هما السبب، وراء إنقياد هذا الحجم الكبير من البشر، على الرغم من أن الطبيعة حررتهم دائماً من اي قيادة دخيلة، الا انهم يبقون، بسعادة، عاجزين طوال حياتهم. وللأسباب ذاتها، يكون من السهل جداً، للآخرين ان ينصّبوا انفسهم قادة ومرشدين. انه من المريح جداً، أن لا تكون ناضجاً!

وعندما اقترب القرن الثامن عشر كان فلاسفة التنوير في المانيا مثل لايبنتز (1646 - 1716) وهيغل (1770 - 1831) وفيخته (1762 - 1814) وكانط والعديدين غيرهم، قد أيقنوا ان انقاذ المانيا من براثن تطرف الكنيسة وتعصب رجالها وما ينجم عن ذلك من إرهاب وقتل وتدمير لا يمكن ان يتم إلا بعد تخليق أو ابتكار قراءة عقلانية او تنويرية لتراثهم الديني، بحيث لا تكون معادية للدين في جوهره، اي في روحانيته الصافية واخلاقيته المثالية وتعاليه، وانما تكون معادية للتفسير المتعصب والظلامي للدين المسيحي. وراحوا يتهمون هذا التفسير بأنه السبب في كل مآسي المانيا وفواجعها، وذلك لأنه يؤلب الناس على بعضهم البعض ويبرر المجازر والقتل والارهاب. وبالتالي فقد آن الاوان للتخلص منه اذا ما ارادت المانيا الا تسقط في جحيم الحرب الاهلية مرة اخرى، وأن تلحق بركب الامم المستنيرة التي سبقتها على طريق العلم والعقل، كالامة الانكليزية، والأمة الفرنسية. وبذلك استطاعت المانيا ان تتجاوز محنتها وتضمد جراحها وتمشي على خط التطور والتقدم. لقد فتح لها هذا الخط فلاسفتها ومفكروها الذين تحملوا مسؤوليتهم التاريخية امام شعوبهم وضحوا بطمأنينتهم الشخصية من أجلها، عندما قالوا لها الحقيقة بدون مواربة او خداع.

من الواضح أن الثقافة الإسلاموية الطاغية تفسِّر نفسها بنفسها ولا تحتاج إلى تأويل أو تفسير، وأن كل ما يقوم به رجال الدين على مر العصور والأزمنة، هو إمَّا إخفاء النصوص الدينية الإرهابية المشينة والسكوت عنها أو ليِّ عنقها والتلاعب بمعانيها في قوالب شكلية ذات دلالات منفلتة تخضع للأهواء والمصالح الشخصية في محاولة عبثية يائسة للانسجام مع العصر، دون إجراء أية إضافات جديدة عليها، فهي تشكل ديانة شاذة خالية من الروحانيات الصافية أوالاخلاقيات المثالية، وفوق ذلك أُعتُبِرت نصوص متصلبة لا يمكن المساس بها، أو النيل منها. هذه النقطة الجوهرية هي موضع الخلاف بين التراث الدين المسيحي الذي فرضه رجال الدين المسيحي في القرون الوسطى المظلمة على شعوبهم ولا يمت بصلة لما أتى به المسـيح، وبين التراث الإسلاموي الذي يعد فريضة إلهية وتعليمات نبوية وإجماع مزعوم لفئة من الدجالين والمخادعين والمدلسين وتجار الدين يطلقون على أنفسم علماء.

أثناء إجراء الحوار على هذا الموقع المتميز ( في السادس من يناير 2018 ) نشرة قناة الحرة على موقعها في شبكة الإنترنت مقالا للأستاذ الدكتور عماد بوظو بعنوان : هكذا أدى فشل الإسلام السياسي إلى تراجع التدين الشعبي
https://www.alhurra.com/a/political-islam/415408.html
تحدث فيه عن الأحداث السياسية والدينية التي وقعت إبان العشرين سنة الماضية وأثرها في تراجع التدين الشعبي الإسلاموي، وزيادة عدد الملحدين بين المتأسلمين، وتوصل سيادته في نهاية المقال إلى أن: « كل ما نشاهده ونقرأه اليوم ومناخ الحيوية الثقافية والفكرية النسبي الذي يحدث في كل دول الشرق الأوسط وخاصة تلك التي تعرضت لتجربة حكم إسلامي مثل مصر، والبرامج والندوات التي تعقد للمطالبة بتجديد الخطاب الديني لم تكن لتحدث لولا فترة الحكم الفاشلة هذه، ولولا إخفاق حركات الإسلام السياسي بشكل عام في تقديم نموذج مقبول أو واقعي أو حلول لأي مشكلة يواجهها العالم الإسلامي. وبرزت إلى السطح الكثير من التساؤلات حول بعض القضايا التي كان يعتبر التطرق لها من المحرمات سابقا، لقد اتضح بعد هذه التجارب أن الحل للمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعاصرة لا يمكن أن يكون بالعودة إلى الماضي وأن الإسلام ليس هو الحل.»

بالفعل، إن مشكلة المتأسلمين الأساسية هي تعلقهم الدائم بالماضي، الأمر الذي يبعدهم تمامًا عن رؤية المستقبل، وقد ذكرت في مقالات سابقة أن السبب في ذلك هو حاضرهم الذي يفيض بالقهر والظلم والانحطاط والفساد والفقر والجهل والمرض. إن حاضرهم ينتقل بهم كل يوم من السيِّءِ إلى الأسوأ.

ومع أن التراث الإسلاموي نفسه كان في حينه وفي مكانه عبارة عن رؤية مستقبلية، ونقلة نوعية أخرجت بدو الصحراء من كمائهم المظلمة إلى النور، وأن الثراث البشري بوجه عام يجب أن يكون مرننًا ومنفتحًا، كمنتج ديالكتيكي يخضع ويتجاوب مع تغيرات الأزمنة وسطوة العلم، ظل هذ التراث (الإسلاموي) متصلبًا يراوح مكانه، فأصبح عقبة كأداء في طريق أية رؤية مستقبلية جديدة، يمكنها تحرير المتأسلمين من قبضته وتنوير حياتهم من ظلماته، ليواكبوا ركب الحضارة الإنسانية وتطورها.

لا أحد في العالم الآن ينكر حقيقة أن المتأسلمين عامة بحاجة ماسة إلى إصلاح ديني للتخلص نهائيًّا من السلطة الدينية، وفرض التنوير والتحرر من كل سلطة عدا سلطان العقل، ليبدأ العقل في التفكير بحرية مطلقة واقتحام الكون واكتشاف أسراره دون معوقات، إلَّا أن ذلك كان ولازال يواجه دائما بالعنف والقمع، إذ تم قتل الشيخ محمد عبده عندما تحدث عن الإصلاح الديني، وقتل فرج فودة عندما طالب بالتنوير، وتم الاعتداء الجسدي والذهني على نجيب محفوظ وتهديد سيد القمني وخليل عبد الكريم وملاحقة نصر حامد أبو زيد حتى قبره والكثيرين غيرهم ممن طالبوا بإعادة العقل إلى طبيعته التنويرية.

يرى الدكتور مراد وهبة وهو أحد أهم رواد التنوير في مصر في الوقت الراهن، ضرورة « تحقيق الرؤية المستقبلية في الواقع وبعد ذلك تتحول إلى تراث، وبالتالي فِهْم التراث يأتي من خلال فِهْم الفكرة المستقبلية، الأفكار المستقبلية تطبق ثم ترحل إلى الماضي، ومن ثمة لا بد من التشبث بالرؤية المستقبلية وليس بالتراث، والنظر في التجارب التراثية والاستفادة منها، وهو ما يعني عدم وجود مقدّس في التراث لأنها تجاوزت الواقع ورحلت إلى الماضي، يجب أن نخرج من حالة تقديس التراث لنكتفي بالنظر في الرؤية المستقبلية التي شكّلته.»

إن تخليص الثقافة الإسلاموية من العنف المقدس يقتضي في البداية عدم تقديس هذا التراث، بمعرفة أنه كان رؤية مستقبلية في زمانه ومكانه لأناس ذوي طبيعة خاصة، ومن ثمة التركيز على النظر في الرؤى المستقبلية التي انطلق منها، لأن تقديسه يعني أننا عزلناه عن زمانه ومكانه وأناسه، والتزمنا به بشكل مطلق. وأن هذا الالتزام يمنع عمل العقل الناقد لدينا. إن إعمال عقلنا الناقد يتطلب نقدا للثابت والمقدس، فنحن بحاجة إلى حركة ثقافية لا تجعل من المقدس مانعًا من ممارسة العقل. لا بد إذن من عزل المقدس عن العقل الناقد وعدم إلزام الآخرين بتبني نفس المعتقدات. لا بد من إيجاد آليات التأسيس لعقل ناقد في ظل عمليات تغييب العقل المستمرة منذ ما يقرب من 1500عام، والبحث الجاد عن إمكانية التغلب على الحساسية المرضية تجاه الفكر الناقد في المجتمعات العروبية والمتأسلمة، بحيث يمكن لهذا العقل تحديد المحرمات الثقافية، والعمل على الوصول إلى جذور التخلف. طه حسين استخدم المنهج الديكارتي (العقلي / الاستنباطي) الذي يرفض قبول أيّ فكرة إلا إذا كانت واضحة ويقبلها العقل، واستند إلى هذه القاعدة في نقد التراث الجاهلي، والشيخ علي عبدالرازق قال إن العلمانية مشروعة في الفكر الإسلامي، فووجه الإثنان بوابل من الاتهامات والانتقادات وصلت إلى حد التكفير.

يجب أن يفهم العقل السليم بأنّ العلمانية تطور طبيعي يفرض نفسه على واقع البشرية في الوقت الراهن، وأنها ليست تجربة خاصة بالغرب وحده، وأن الفصل بين الحضارات ما هو إلَّا مجرد وهم، ومغامراة دون كيشوتية تذهب هباءً، لأن حضارة العصر الحديث ما هي إلَّا حضارة واحدة عابرة للقارات ومتعددة الثقافات، لا توجد خصوصية أو تميز لحضارة عن الأخرى، سوى وجود ثقافة هنا أو هناك، مازالت متخلفة وتجد صعوبة بالغة في الانسجام مع الثقافات الأخرى. الشيء الوحيد الذي يميزنا عن غيرنا أننا متخلفون وهم متقدمون، ولدينا حساسية مفرطة وغير مبررة تجاه الفكر الناقد، بسبب الفصل الثنائي بين العربي وغير العربي وخاصة الأوروبي، أو بين المتأسلم ومن لم يتأسلم عنوة، فكلّ ما عدانا مرفوض، والذي أسّس لهذا الفكر هو منظِّر الجماعات الدينية الإرهابية، سيّد قطب في كتابه “المستقبل لهذا الدين” إذ قال إن “عصر النهضة في أوروبا وعصر التنوير والعصر الصناعي كلها أمراض عقلية لا بد من القضاء عليها”، وهذا يعني أن تعود أوروبا إلى العصر الزراعي أو ما قبل الزراعي، الأمر الذي لن يفيدنا أو يفيد أحدًا على الإطلاق. مجرد هذيان تقوم عليه ثقافة بكاملها.

وبينما يقف التطور والتقدم إلى جانب العلمانية في العديد من الدول في العصر الحديث، نجد المتأسلمين يتشبثون بالدوغماطيقية وهي وهم امتلاك الحقيقة المطلقة والتزمّت لأفكار معينة دون قبول النقاش فيها أو الإتيان بأي دليل ينقضها لمناقشته أو كما هي لدى الإغريق الجمود الفكري. والتشدد في الاعتقاد الديني أو المبدأ الأيديولوجي، أو موضوع غير مفتوح للنقاش أو للشك. إنهم يعتمدون في تشبثهم على آيات قرآنية وأحاديث نبوية وأقوال السلف الذين لا نعرف عنهم أي شيء على الإطلاق. لا بد إذن من تحرير المتأسلمين من الدوغماطيقية. المترسخة في عقولهم وفي وجدانهم وتجري في أجسادهم مجرى الدم. ليعرفوا أنه لا توجد في حياة الإنسان حقيقة مطلقة. الحقيقة دائمًا نسبية وتقتضي البحث الدائم في فحواها من خلال العقل والعلم. إن هدم هذا الوهم يمكننا من تشكيل ثقافة شعبية تنويرية، تكون قاعدة راسخة لانطلاقة تنويرية ومدخلا واسعًا نحو الحداثة.

الكثير من المثقفين المتأسلمين إينما وجدوا، يقفون ضد الفكر التنويري وضد العلمانية، بسبب تلاحمهم وتماهيهم مع الجماعات الدينية المتطرفة منها وغير المتطرفة، إن المثقف هو المسؤول بشكل أكبر عن تغييب الوعي النقدي وليس الحاكم، خاصة في منطقة العربان، حيث يكون الحاكم جاهلا ومنعدم الشرعية ويلهث وراء السلطة والنفوذ والثروة، ولذلك فإن غياب المثقف الناقد سمح لتجار الدين والحكام، أن يفرضوا على المجتمع معتقدات مطلقة. المثقفون هم الذين كفروا الفيلسوف العقلاني ابن رشد، وفرضوا على الحاكم أن يكفّره، وحديثًا يقفون مكتوفي الأيدي أمام ما يحدث أمام أعينهم من تصفية جسدية وتكفير وتهجير وتكميم أفواه زملائهم من المثقفين. ربما يمكن القول إن المثقف هو الأساس وليس الحاكم، وإن دور الحاكم ينحصر في أن يختار ما بين عدة اختيارات ثقافية يضعها المثقف، خاصة عندما تحظى بشعبية كبيرة، لا رجعة فيها.

عندما قامت الثورة الفرنسية، كان المثقفون هم المحرّك الأول لها، إذ كانو يستندون إلى التنوير والعلم، وفي التاريخ العربي الشيخ أبو حامد الغزالي قام بتكفير الفلاسفة ومنهم ابن رشد في كتابه “تهافت الفلاسفة”، نحن بحاجة إلى أن نخوض معركة ضد ملاك الحقيقة المطلقة، الوهابيين والإخوان ومن هم على شاكلتهم، خاصة وأن التطور الاجتماعي وحده سوف يحسم المعركة لصالح العلمانيين وليس الأصوليين، لأن العلمانية تقف مع التطور في حين تقف الأصولية مع التخلف. لذلك لا يمكن الحديث عن تغييرات جوهرية نحو التنوير والحداثة في ظل هيمنة الأصولية الدينية على الفكر العروبي، وبالتالي مطلوب من المثقفين أن يقفوا وراء فكر العَلمانية لأنها الضامن الوحيد للخروج من المشهد المأزوم إلى آفاق أخرى أكثر رحابة، والعلمانية، في تعريفي لها، تعني التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق، وبالتالي البحث في الظاهرة تحت مظلّة العقل الناقد وليس تحت مظلة الفتوى الدينية، إعمال العقل الناقد في المشاكل المجتمعية هو السبيل للخروج منها وهو ما يحتاج جرأة ومغامرة من المثقفين لتبنّي الفكر العلماني المنبوذ والمحارب.
استطاعت أوروبا أن تخرج من النّفق المظلم في العصور الوسطى عبر مثقفين حملوا على عاتقهم تلك المهمة، فالفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، والذي يلقب بـ”أبو الفلسفة الحديثة”، قال لا أؤمن بفكرة إلا إذا كانت واضحة ومتميزة، أما الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بيكون فقال يجب أن نحرر العقل من الأوهام لكي نتقدم.

وفي منطقنا عندما اجتاحت الثورات الجماهيرية بعض البلدان ضد الحكام مطالبة بالانعتاف من حالة الجمود الفكري السياسي والاجتماعي ظلت النخب الثقافية في أبراجها بعيدًا تترقب وتتخوف، لم تشارك الجماهير الغاضبة مشاركة فعلية لتشكيل منهج ثوري تسير عليه، بحيث يؤدي إلى نقلة نوعية في جميع مجالات الحياة.

نعم، إن للمثقف دورًا في نهضة شعبه او أمته. وأن دوره اهم من دور السياسي، أو قل انه يسبقه ويضيء له الطريق على الاقل. إننا إذن نحتاج إلى مثقف جرئ لديه رؤية مستقبلية تطرح حلولا للواقع المأزوم، وآليات للتفكير في الخروج من الأزمات الراهنة التي تسببت الأصوليات الدينية في استفحالها، مثقف لديه وعي بأهمية العلمانية في الخروج من الأزمات والانسداد التراثي، يجب على المثقف مواجهة الأصولية الدينية وإعلاء فكر العلمانية في المقابل، فدون العلمانية سنظل في ذلك الوضع المأزوم دون أمل للخروج منه.

وتبعًا للدكتور مراد وهبة: يجب تسليط الضوء على المحرمات الثقافية من خلال العقل الناقد للوصل إلى كمّ الوهم الذي يعشّش في العقل العربي، على سبيل المثال، الانشغال بالحديث عن عمل المرأة يبرز هيمنة المحرمات الثقافية على الذهنية العربية، التي لا زالت قاصرة عن إعطاء مساحات من الحرية في التفكير والحياة، أيضًا التربية مهمة جدًا لتعزيز العقلية الناقدة؛ فلا بد من إعطاء مساحات من الحرية للطفل حتى سبع سنوات لكي يخطئ ويدرّب على الخطأ والصواب دون تكبيله وفرض أفكار بعينها عليه، ويجب تعزيز فكرة التساؤل لديه، وتشجيعه على البحث والتفكير.

إن كبت الإبداع مسؤولية فردية واجتماعية، من الممكن أن يمنع المجتمع الإبداع ويغامر الأفراد بتبني أفكار مغايرة للسائد، ويتحمّل نتيجة خروجه عن المعتقدات السائدة، فعندما غامر الكاتب فرج فودة بالحديث عن العلمانية وأهمية تطبيقها كان القتل مصيره، وعندما تحدث جاليليو عن دوران الأرض حول الشمس تمت محاكمته، وكل ذلك نتيجة للتخلف، هي مغامرة لا بد منها للقضاء على التخلف، فالفيلسوف الألماني كانط كان يقول “كن جريئًا في إعمال العقل”.

من خلال الحوار الذي دار على هذا الموقع ظهر أن بعض المتحاورين مازالوا يُؤْمِنُونَ بوهم المؤامرة، ولكن الملف للإنتباه أولئك الذين لديهم مقدرة فذة على المراوغة لامتلاكهم عقلية حلزونية تصدر عنها أفكار زئبقية يستحيل التعامل معها أو الاقتناع بها. إنهم السفسطائيون الجدد الذين يستعملون اللغة بهدف تمويه الحقائق مع فساد في المنطق أو لصرف الذهن عن الحقائق والأحوال الصحيحة أو المقبولة في العقل وتضليل الأطراف الأخرى عن الوجهة الصحيحة في التفكير. فالسفسطة هي الحديث بغرض الحديث، أو الكلام الذي لا يفضي إلى شيء.

هؤلاء السفسطائيون يفكرونني بشخصية "دون كيشوت"، ففي المناخ الفكري الذي ساد في عصر التنوير الأوروبي الذي أشرت إليه بإيجاز في بداية هذا المقال ، كان الروائي الإسباني الشهير ميخائيل دي سرفانتس (1547 - 1616) يفكر في صياغة الشخصية التي بدأت ملامحها تتكشف الآن، والتي تجسد في اندفاعاتها العاطفية وتخيُّلاتها وتوهماتها غير العقلانية وهوسها بأدب الفروسية وأخلاقها البائدة، وتجسد القطيعة المعرفية مع التصورات الغيبية القديمة للعالم التي أنجزها التنوير الأوروبي؛ حيث تتمثل هذه الشخصية العالم بصورته السحرية اللاعقلانية.
 
إنها شخصية الفارس المتجول "دون كيشوت" التي تشكل علامة فارقة بين النقلة المعرفية التي حدثت في تلك الحقبة والقطيعة بين الزمن التقليدي بكل منجزاته الثقافية والفكرية والأدبية، والولوج إلى الزمن الحديث، زمن العقل والحسابات الكمية التي لا ترتهن إلى استيهامات الخيال وخلجات الوجدان. إن الـ"دون كيشوتيين" إذن يقاومون طواحين الهواء بتصديهم بهوس عاطفي وعقل مغيب لكل تغيير مهما كان.
 
ولكننا نرى دون كيشوت في نهاية المطاف يوقد أقعده المرض على الفراش لسبعة أيام وليال، وعندما أتى الطبيب ليعاينه وجد أنه لا أمل من شفائه، وفي إحدى تلك الليالي يستفيق دون كيشوت من جنونه ويعود إلى رشده آخذاً في لعن الفروسية؛ إذ يقول "لقد كنت مجنوناً والآن صرت عاقلاً".
 
 إن دون كيشوت رمزٌ يدل على فوات الأوان والغفلة عن الواقع، كما يشير لذلك الشاعر العراقي وليد الصراف (من مواليد 1964) في بيت شعري له إذ يقول:
" جاء المغول و"دون كيشوت" منتفضاً
ما زال يضرب أعناق الطواحين!"
 
 من الطبيعي أن يجد المرء في كل الثقافات حضورًا لـشخصية دون كيشوت، ولكنه له في ثقافتنا الإسلاموية حضورًا طاغيًا وكثيفًا دونه الموت، ويرجع هذا الحضور لما تمثله من أسلوب أو نمط في الرؤية إلى العالم، فكل إنسان مهما بلغت عقلانيته وموضوعيته في التعاطي مع الواقع، يظل يحلم بعالم موازٍ، عالم مثالي تتطابق فيه تصوراته وأحلامه الذاتيه مع العالم الخارجي وهو ما دأب دون كيشوت على فعله.

إن صعود أو استمرار أو انتهاء أية ثقافة يعتمد بشكل أساسي على مدى انفتاحها وليونتها بمعنى قدرتها على التواؤم والانسجام مع المتغيرات التاريخية الجذرية اقتصادية كانت أم سياسية وبالتالي اجتماعية، والتملص أو التخلص أو الإفلات من الأفكار التقليدية البالية. طبعاً لا يتحقق ذلك إلا بأن تتنازل عن نفسها شيئاً فشيئاً لتتحول في النهاية إلى فلكلور شعبي يرتبط بالذاكرة أكثر من ارتباطه بالحاضر، وبالمتحفية لا الديناميكية، وهذا هو مآل أية ثقافة، ففي يومٍ ما سوف تخرج مسننات آلياتها الأيديولوجية الحادة عن الخدمة، وتصاب بالضعف والْوهن، وعندما تكون هذه الثقافة متصلبة ولا تمتلك الليونة المطلوبة، فإن شرف التحول إلى فلكلور طيب في ذاكرة الشعوب، يصبح مطلباً غاية في الصعوبة، إننا نشهد اليوم ابتلاع الإسلاموية العسكرية والسلفية والانغلاقية للإسلاموية الشعبية أو المدنية أو المعتدلة - مع أن الإسلامويات الثلاثة الأخيرة كانت على الأقل بمثابة كذبة سمجة بيضاء - في محاولة يائسة للانكماش والانغلاق والعنف بهدف المحافظة على ما تبقى من الإسلاموية ومواجهة الصدع الداخلي لها، في إطار انقطاع كامل بين المتدين وعصره، لكن هذا النوع من الانكماش والانغلاق والعنف ، أحدث المزيد من التصدع وخلق موجات كبيرة من الردة، لا سيما بين الشباب حيث تبدو أعدادهم أمام الردة المزعومة في عهد إبن أبي بكر كنقطة في بحر، وقياساً بالأعوام الماضية فإن تدخل الإسلاموية بشكل فج في الشؤون السياسية وانتشار الحركات والتنظيمات الأصولية والإرهابية وتطبيقها للأحكام الشرعية التي كانت مغيبة عن ذهن العامة، كل ذلك بالجملة خلق ردات فعل هائلة باتجاه اللادينية والإلحاد، فالله يبدو من خلال أحكامه، كمجرم يتلذذ بقتل ضحيته وتقطيعه وصلبه ورجمه وجلده، وخلال السنوات القليلة القادمة سنشهد ولاريب وصول الشرخ داخل مجتمعاتنا إلى تمامه بين اللادينية كأغلبية على ضفة والأصولية على ضفة أخرى، دون وجود ما يطفو في الوسط، تمهيداً للانتحار النهائي للأصولية بصدامها الكامل مع العالم - وقد بدأ بشكل تدريجي اعتباراً من عقد السبعينيات من القرن الماضي - ولنقل أخيراً مع أحد أشهر المؤرخين في القرن العشرين, البريطاني أرنولد توينبي (1889 - 1975): " إن الثقافات في طورها الأخير تقضي انتحاراً".
الموضوع ممتد إلى مقال قادم
دام الجميع بخير وتنوير وسعادة