ضد العملية التركية في عفرين


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 5770 - 2018 / 1 / 28 - 20:56
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

يوجه العملية التركية في عفرين تصور للمصلحة القومية التركية لا يتعارض فقط مع أي تصور لوطنية سورية مستقلة، ولا يرجح أن يكون مصدر معاناة إنسانية إضافية فقط، وإنما هو فوق ذلك تصور أناني، قائم على مركزية تركية موروثة من سنوات تأسيس الجمهورية، ولا تقبل المساواة مع الغير، إن في الإطار التركي او في المحيط. الضحايا الأول للعملية التركية سكان مدنيون في عفرين وحولها، منهم لاجئون من مناطق سورية أخرى، يقع عليهم قبل الجميع غرم الاعتداء التركي.
لقد جرى من عام 2012 تصدير الصراع بين حزب العمال الكردستاني والحكومة التركية إلى سورية، وهو ما عمل من أجله النظام الأسدي أولاً حين انسحب من مناطق الكثافة الكردية في تموز 2012 ليركز قواه في مناطق سورية كثيرة كانت تخرج من سيطرته تباعاً في ذلك الوقت. وقبل نهاية العام نفسه كانت الحكومة التركية تحرض وتسلح مجموعات سورية لتهاجم مدينة رأس العين، ما كان له إسهام كبير في اشتعال العدواة بين كرد المنطقة وعربها، وما يناسب النظام دوماً، ومما لم يبال به الحكم التركي في أي وقت.
ولا تفعل تشكيلات محسوبة على الجيش الحر الذي ظل عنواناً فضفاضاً لمقاومة سورية مسلحة، محلية ووطنية وغير إسلامية، تحارب الحكم الأسدي حصراً، لا تفعل شيئاً مختلفاً حين تضع نفسها تحت الإمرة التركية وتقوم بعملية تركية في سورية عما يؤخذ على تنظيم الاتحاد الديمقراطي الذي خاض في سورية حرب الأميركيين التي لا قرار له في شأن نطاقها وأمدها ونهايتها ودوره فيها. المقاتلين السوريين الذين يحاربون في العملية التركية كرداً سوريين يدرجون نفس في الاستراتيجية التركية مثلما التنظيم الأوجلاني، ومثله لا يتحكمون بأمد العملية ونطاقها ودورهم فيها. كان التنظيم الأخير هو الأكثر انعزالية عن نضال السوريين طوال عقود، والأقرب إلى النظام طوال تلك العقود، يستند إلى الاميركيين والروس، فضلاً عن النظام الذي كان مصدر سلاحه الأول قبل الأميركيين، ليتوسع جغرافياً في مناطق ذات أكثرية عربية، وليفرض نفسه كحزب واحد في مناطق سيطرته الكردية. لقد فوت على نفسه وغيره فرصة العمل على إقامة أوضاع مغايرة لما خبره السوريون في ظل دولة الأسديين، ومضى في التحايل باصطناع واجهة تعددية لا تختلف في شيء عن واجهة الحكم الأسدي ذاته. قد يكون حزب العمال الكردستاني قوة تحررية في تركيا، لكنه لم يكن كذلك قط في سورية بحكم روابطها العضوية مع النظام وأجهزته، وانشداده العضوي الثابت إلى كردستان تركية. وهو اليوم بالذات ينظر إلى مناطق سيطرته في سورية كأوراق في صراعه مع السلطة التركية، فلا يرى سورية غير إطار لصراعه ولا يرى سكان المنطقة كمجتمع حي له كيان وتاريخ ومطالب سياسية واجتماعية، ولم يهتم وقت السيطرة على الرقة المدمرة بغير رفع صورة أوجلان! وأسهم اختراع اسم روجوفا لشمال سورية في المزيد من تجهيل سكان المنطقة وجعلهم غير مرئيين، فشكل ذلك استيلاءاً رمزياً على المنطقة يؤازر الاستيلاء العسكري والسياسي الجاري فعلياً على الأرض، بفضل التخطيط السياسي الأميركي وسلاح الجو الأميركي والوحدات الخاصة الأميركية والبريطانية والفرنسية. وأسعفت التنظيم الأوجلاني في ذلك "الحرب ضد الإرهاب" الأميركية التي تطوع من جهته لرمي غير الكرد من مناطق الجزيرة السورية بصفة حاضنة اجتماعية لداعش. ومعلوم أن هذا التنظيم لم ير في نفسه في أي وقت جزء من الثورة السورية، ولم يعبر في أي وقت عن الاحترام لكفاح السوريين التحرري في جولته الحالية أو في أي جولات سابقة، ولم يخاطب جمهور الثورة السورية في أي وقت. وهو اليوم شريك نشط للحكم الأسدي وأتباعه في اغتياب السوريين في العالم كنا تسنى لي أن أعاين غير مرة في أوربا، حيث ينسب لنفسه حصراً في كل مكان في العالم قيم الحداثة والمساوة والتحرر، كأن لا تاريخ للكفاح من أجل التحرر في سورية قبله.
لكن لا يكمن أي شيء من ذلك وراء العملية التركية التي تحركها اعتبارت تركية محض، يصدر بعضها عن دوافع سياسية ضيقة: كسب نقاط في الصراع السياسي الداخلي، وتحصين مواقع رئيس الجمهورية أردوغان وحزبه الحاكم منذ نحو 15 عاماً. لكنها مرتبطة بتصور الجمهورية التركية لذاتها كدولة قومية صافية، ترفض تعددها الذاتي، على نحو يستأنفه اليوم حزب العدالة والتنمية الحاكم. تركية ستبقى غير قابلة للدمقرطة دون قطيعة مع هذا التصور القومي الحصري.
وخلافاً لما فضل أن يتصور تنظيم الاتحاد الديمقراطي الذي طلب العون العسكري من دولة بشار الأسد باسم السيادة السورية، فإن الاعتداء التركي لا يزعج الحكم الأسدي في شيء. هذا الحكم المفتقر إلى السيادة لمصلحة الروس والإيرانيين وأتباعهم، لا يضره أكثر مما يضر الضفدع أن يبصق في وجهه أن يكون الشريك التركي لراعييه الروسي والإيراني في مسار سوتشي طرفاً عسكرياً على الأرض السورية مترسخاً مثل شريكيه، فوق كونه طرفاً سياسياً. هذا يعمق اندراج تركية في الرعاية الثلاثية القائمة على طي صفحة الانتقال السياسي نهائياً في سورية. تركية بعد العملية لم تصر أبعد عن نظام الأسد بل أقرب، و"غصن زيتون"ـها في عفرين يبدو اليوم أقرب إلى يد النظام من أي وقت سبق.
من هذا الباب فإن الائتلاف الذي أيد العملية التركية يتخلى تماماً عن أساس القضية السورية، وأوليتها المتمثلة في تغيير النظام. وسيقوده هذا الخيار إلى مسافات أبعد باتجاه النظام ورعاته في الفترة المقبلة، أو إلى مزيد من التفكك والعطالة.
ليس في كثرة الضباع التي تنهش الجسد السوري من قبل ما يحول دون إدانة كل ضبع إضافي. وليس في تعقد أوضاعنا الهائل، وهو نتاج فاعلي تعقيد متنوعين، ما ينبغي أن يحول دون تبين جوهر قضيتنا: تقرير المصير للشعب السوري، ومنه الكرد السوريين.
نهاية الاحتلالات كلها (الإيراني والروسي والأميركي والتركي) وخروج المقاتلين غير السوريين كلهم، والانتقال السياسي الجدي إلى سورية تعددية ونظام سياسي واسع القاعدة، تؤهله سعة قاعدته لمعالجة إرث الخراب الأسدي الهائل، وتوفير بيئة آمنة لعودة المهجرين واللاجئين، هي مداخلنا الأنسب إلى تجديد سورية وإلى وحدة سورية ديمقراطية.