النقد فن أدبي!*


شاهر أحمد نصر
الحوار المتمدن - العدد: 5767 - 2018 / 1 / 24 - 00:27
المحور: الادب والفن     


ترجمة: شاهر أحمد نصر
النقد ـ يا له من عمل غريب. مهما كتبت فإنّهم يضعونك في الحاشية. لكن وما أن يختفي النقد، كما حصل في التسعينيات من القرن الماضي (وأجرؤ على البوح بأنّه مستمر حتى الآن)، حتى يختفي الأدب نفسه، ويصبح نواد صغيرة مغلقة على ذاتها، لا تسترعي الانتباه الجدي من قبل أي سياسي يحترم نفسه. لهذا السبب يطوى في مجلس الدوما للمرة العاشرة قانون الاتحادات الإبداعية، ومن هم أولئك الذين يحجبونه؟
يحدد الناقد الجيد، أو الرديء مستوى ومقام العملية الأدبية، يحدد القيمة الحقيقية الحالية لهذا المؤلف، أو ذاك، وبعده يضع الزمن وحده العلامة النهائية. الناقد ـ يعادل الزمن، ويقوم بدوره.
لقد عانى النقد من الضحالة إبان جيلي الذي أكتب عنه كتاب "عصر الوحيدين". ضحالة كبيرة. وخاصة في معسكرنا الوطني. تحلل، وتفسخ الزمن نفسه، حلّ غسق أغبش، لحظة "ما بين الكلب والذئب"، كما سمى أفضل كتبه، من وجهة نظري، ساشا سوكلوف ("بين الكلب والذئب").
وهكذا أخذ أترابي يتسامرون نقدياً دون إعمال النظرة ثقابة، كلٌّ حسب مهارته. البعض يساراً، والبعض يميناً. أولئك الذين أحياناً فرادى وأحياناً معاً تسلقوا جبال كوكتيبيل نفسها، أمثال تشوبرينين وبوندارينكو، بوشيني وأوسبينسكي. (كوكتيبل: منطقة جبلية في القرم. يوجد في الوقت الراهن أكثر من احتمال لاشتقاق كلمة "كوكتيبل". الأول يعود إلى البروفيسور فيكتور فيلونينكو المشهور بمعرفته لجغرافيا منطقة القرم، الذي يقول إنّ كلمة "كوكتيبيل" تتكون من ثلاث كلمات تركية. الأولى ـ كوك: أزرق، لازوردي، أرزق سماوي. والثانية ـ تيبي ـ قمة، أعلى الجبل، تل، سقف. والثالثة ـ إيل ـ منطقة، بلاد، شعب، قبيلة، عائلة. فتصبح مأخوذة معاً ـ بلاد القمم اللازوردية"، "منطقة الجبال الزرقاء"... أما التفسير الثاني فيعود إلى المرشح في العلوم اللغوية ألكسندر شابوشنيكوف الذي قدمه في أواسط تسعينات القرن العشرين؛ والذي كتب يقول: "كوك ـ تيبيل : كوك: (مرعى القبائل الرحل) المناطق الغربية اللازوردية السماوية، وتيبيل: الحيوانات، ولا سيما البقر والخيل ذات العلامة على جبينها. ويوجد تأويل لكلمة "كوكتيبيل"، يعود إلى المستعرب الروسي المبدع البروفيسور تيودور شومفسكي. الذي رأى في أثناء تواجده في كوكتيبيل في بداية عام 1980 أنّ هذه الكلمة ذات جذر عربي، وترجمها إلى "الزرقة الملتصقة بالقمة (الذروة)" ـ عن شبكة الانترنت الدولية ـ المترجم). وسّع زمن البيرسترويكا الهوة الكارثية بين مجموعات الأدباء المثيرة للشفقة المبعثرة في فضاء روسيا، الذين لعبوا لعبتهم السخيفة، وبين النقاد ـ الوحيدين الذين حددوا متحسسين ومتلمسين، بلا فوانيس هذه، أو تلك من الاتجاهات الأدبية الفكرية، قيمة هذا الإبداع أو ذاك من إبداعات أترابهم.
لنتمعن فيما حولنا، وليكن تمعننا فيما يقال من على منبر أي اجتماع موسع لاتحاد أدباء روسيا، أو في صفحات المجلات الوطنية "موسكو"، أو "مولدايا كفارديا ـ الطليعة الشابة" و"ناش سوفريمينيك ـ معاصرنا"، أو صفحات صحفنا الأدبية، (لنرى) من بقي في حلبة النقد النضالية، ومن لم ترطب شحناته النضالية؟ بقي من هو أكبر مني سناً وحده فالنتين كورباتوف، مثله مثل ميكولا سيلنينوفيتش يحاول من أعماق بيئته البسكوفية المحلية النهوض بالعبء الدنيوي للأدب المعاصر، وبجانبه فراغ كامل. قضى يوري سيلزنيوف، وانجرف كلّ من أوليغ ميخايلوف، وفلاديمير غوسيف في اتجاهين مختلفين. أما شيوخنا المقاتلون الأحبّة ـ ميخائيل لوبانوف، وأناتولي لانشيكوف، وفيكتور تشلمايف، ـ ليهب الله لهم الصحة والذاكرة ـ، فإنّهم يكتبون مذكراتهم الجيدة الحاذقة. توجد ظاهرة شاذة مستقلة لايمكن تفسيرها على الإطلاق هي: فلاديمير بوشين. ومهما شتمني في مقالاته وهجائه (في وفاق مع صحيفة "زافترا" و"يوم الأدب"، ومع بروخانوف نفسه) فإنني أقرأه دائماً بمتعة، فليكرر ذاته، لا يمتلك القدرة على التركيز، لكنّه يمسح الصيت الليبرالي الشهير بلمعان مميز. إنّه اليهودي التائه الذي لا نظير له في نقدنا. (ورد في النص الروسي اليهودي الخالد، وهو: اليهودي التائه الشخصية الخيالية عن رجل يهودي حكم عليه بالتجوال في الأرض إلى الأبد عقاباً له على ضربه المسيح. ففي أشهر قصة عنه كان إسكافيا يدعى أحشويرش طلب المسيح منه السماح له بالاتكاء على جدار بيته ليرتاح وهو يحمل صليبه إلى المكان الذي صلب فيه في جبل الجلجلة، فرفض طلبه ودفعه، وأخبره بقسوة بأن يسرع بالذهاب إلى موته، فرد عليه بأنه سيقف ويرتاح، أما اليهودي سيبقى حتى يظهر المسيح، فظل يهيم في الأرض منذ ذلك الحين وهو تائب ويتوق للموت وحلت عليه اللعنة. وردت الحكاية في كتب تاريخية عدة، وكانت مادة هامة في الأدب الأوربي. وأول ذكر لها كان بقلم مؤرخ إنكليزي يدعى روجر أوف واندوفر في كتاب يدعى زهور التاريخ Flores historiarum) ) في سنة 1228 . لقيت القصة فبولاً وشعبية كبيرين، وظهرت ثمان إصدارات للكتيب عام 1602 وظهر الإصدار الرابع عشر قبل نهاية القرن، وترجمت إلى الهولندية والفلمنكية بنجاح ، وأصبحت مشهورة في إنكلترا قبل العام 1625، وكذلك ظهرت نسخ ساخرة في السويد والدنمارك، بينما ظهر في روسيا والتشيك تعبير اليهودي الخالد، ويتم التركيز في بعض الكتب الأدبية على الشخصية الملعونة وهي المعروفة باليهودي الأبدي ـ أهاسفير (بالألمانية: Ewige Jude). ويدعى باسم الجوال أو التائه بالفرنسية le Juif errant) ) ـ المترجم) أتمنى لكم عمراً نقدياً مديداً يا فلاديمير سيرغيفيتش، وأدع مسألة اختلاف وجهات نظري معكم وراء ظهري. وتوزع أوليغ ميخايلوف الواعد على فنون متعددة، كما سار في تلك العوالم الموازية أترابي فسيفولود ساخاروف، وفلاديمير كونيتسين. ومنذ أن تسلق فاديم ديمينتيف إلى أعلى القمم الشرقية: البروس، و تيان ـ شان لم ينزل إلى مستوانا نحن الأدباء الروس الفقراء. في الحقيقة، يقولون إنّه تنطح لقيادتنا، على الإطلاق، أتدرك، أنّه لن يعود هناك وقت للكتابة النقدية. آه، لقد ضاع الناقد اللامع فلاديمير غوسيف في غابر الزمان بين السياسة والحياة الحية بجميع مظاهرها الروسية. عند دفاع سيرغي كازناتشايف عن معلمه ضدي قال غاضباً إنّ غوسيف هو من ابتدع ظاهرة "الأربعينيين"، أما بوندارينكو فقد استولى منه على هذا الموضوع الرابح. نسي الكاتب الشاب من كان في السبعينيات فلاديمير إيفانوفيتش غوسيف، ومن كنت أنا ـ طالب المعهد الأدبي. لقد نشرت مقالاتي الأولى عن "الأربعينيين" في "الدون"، وفي "باديوم ـ النهضة" وفي "الفولغا"، وفي "النيران السيبيرية"، وفي بعض المؤلفات التي تنشرتها شخصياً، قبل أن تتقبلني الصحف المسكوفية، وتتقبل وأبطالي الأربعينيين. لقد أسمونا في المكتب الحزبي المسكوفي بشكل عام المجموعة الجديدة المعادية للحزب، وقالوا حان وقت طباعة هذه الاسطوانة. لو أنّ فلاديمير غوسيف الجبار، الذي شغل في ذلك الحين منصب دكتور، ونائب مدير، وسكرتير قسم، ورئيس العديد من اللجان، دعمني أو أخذ على عاتقه مهمة المدافع الرئيسي عن "الأربعينيين"، لتم الاعتراف بهم قبل ذلك بقليل. لكن غوسيف، وخلافاً لتلميذه كازناتشييف، لم يعترف في حينه، ولا يعترف الآن بظاهرة "الأربعينيين"، كم هو مؤسف أن لا يعترف بها، على الرغم من أنّه وبكافة المعايير في كتاباته أحد أفرادها. لقد مضى ثلاثون عاماً، ودخل "الأربعينيون" في الصفوف الأولى من الأدب، سواء في الجناح اليميني أو اليساري، دون أن نرى فلاديمير غوسيف في صفوفهم، لا في النقد، ولا في النثر. إنّه لأمر مؤسف.
شغل فلاديمير غوسف فيما مضى المكان الذي أشغله الآن في الأدب، اتهموه أيضاً بالتهامه كل شيء، وبسعة الإفراط، وانقض عليه المحارب يوري سيلزنيوف بتهمة الدعاية لشعر فوزنيسسينسكي، والصداقة مع الليبراليين، وعدّ الكثيرون غوسيف أحدهم. يا للأسف، لم يعد المتحمس يوري سيلزنيوف موجوداً منذ مدة بعيدة، لكم كان مفيداً لتحديد المعايير الفنية في الأدب الوطني الكفاحي الموجود حالياً كما هو، وبالمقابل ظهر لدينا جهاز فرز الوجهاء السياسيين المتلاعبين والدعاة من فالنتين سوروكين وحتى فاليري خاتيوشين. ولا أحد يرفع في وجههم أصبع النقد. لقد بعنا، أنا وفالنتين كورباتوف، منذ مدة بعيدة، من وجهة نظرهم، قلبنا وضميرنا إلى القوى الظلامية، ولم يقدموا بعد متملقيهم. وهكذا يتبين أنّه في حضور الأدب الرديء يظهر العديد من العباقرة. بالمناسبة، أنا لا أفهم النابغة العبقرية ليديا سيتشيفا، ولا العبقري بيتر كوشيل، كيف يتاجران بكتابة الكتب لعملائهم الأقل قيمة فنية. أم أن الحياة هي هكذا، كما هي، ولا حياة أخرى؟ ووحده بوندارينكو الأحمق صعب المراس يسعى من زاوية إلى أخرى، خارقاً الفضاء الأدبي بمجمله. لكم أتمنى أن أتقاسم أعبائي مع أحد ما، لكن صديقيّ: لاريسا بارانوفا، وسيرغي ليكوشين غابا منذ مدة عن النقد، وأدار ظهره للنقد ألكسندر كازنتسيف وفسيفولود ساخاروف، وفقط في الأورال لا يدع نيقولاي كوزين المضطرب الأدباء الشبعانين أن يعيشوا. يا للغرابة، يوجد لدينا حسب جداول اتحاد الكتاب 60% ـ نقاداً، ويعادل هذا آلاف الأقلام. وفي الواقع ، عددهم أقل بكثير من الشعراء المبدعين، وأقل بكثير من كتاب النثر. لو أخذنا جميع النقاد المشهورين عندنا معاً، اليساريين واليمينين ـ لما حصلنا على العشرين شخصاً بشق النفس.
من سيلاحظ الفرخ الذي لم ينبت ريشه بعد من غير النقد؟ من سيقدم له ساحة الانطلاق؟ إن لم يوجد نقد وطني، لن توجد أسماء وطنية مشهورة في الأدب. صعد كلّ من راسبوتين، وبيلوف، وليخونوسوف، وأستافيف، وبونداريف بفضل النقد الليبرالي، كانوا ضروريين كمناوئين شعبيين للنظام السوفيتي. دعم الليبراليون في ذلك الزمان النقاد الوطنيين أيضاً. وكما قال مراراً منظر الأفكار الليبرالية ألكسندر ياكوفليف: "نحتاج أيضاً إلى كوجينوف، وبوندارينكوا لتحطيم النظام...". اختفى النظام، ولم نعد ضروريين لهم بأي شكل من الأشكال. ها هو النقد الليبرالي يدعم فلاديمير ليتشوتين، ألم يقم إيغور ديدكوف بالتنويه والإطراء على كتابه في بلدته كوستروم من حين لآخر، نتيجة عدم إدراكه الاتجاهات السياسية الجديدة. قف، لا تبتعد أكثر. يقذفون الوطنيين من سفينة الحداثة. يرسلونهم على قارب آخر، كما حصل مع مفكري الأزمنة اللينينية، لكن ليس إلى باريس، بل إلى بلاد النسيان. وهل نستطيع نحن النجاة؟ حبّذا لو أعطيت الكلمة الأولى للنقاد. وتصدح على قارب النسيان موسيقاه الخاصة، توزع الجوائز الخرافية، وتقلد المنح والمكافآت الكرتونية. وكأنّه لم يعد يوجد لدينا ما نفعله للبلاد، ولم يعد لدى البلاد ما تفعله للأدب الروسي الوطني.
أقترح بدلاً من الخمسة ذوي العلاقات العامة المفككة: بيلفين، ويوروفييف، وسوروكين، وتولستايا، وأكونين، أتراب "عصر الوحيدين" نفسه، (أقترح) كل مرة مجموعة أخرى: يوري كوزلوف، وفيتشسلاف ديوغتيف، وميخائيل بوبوف، ويوري بولياكوف، وتاتيانا ناباتنيكوفا. لا يقل مستواهم الفني بشيء، لكن شخصية العلاقات العامة ليست هكذا. إن وضعت مكان بوريس أكونين سيرغي ألكسييف، لوجدت القارئ راضياً. لكن الجميع اليمينيين واليساريين يصمتون حيال سرغي ألكسييف. ويصمتون حيال سيرغي سيبيرتسيف، ويصمتون حيال الموهبة الأدبية المميزة عند بيتر كراسنوف، ويصمتون حيال فيرا غالاكتينوفا، ويصمتون حيال الفقيد بيتر بالامارتشوك، الذي لا يقل في النثر الأدبي، من وجهة نظري، شأناً عن ساشا سوكولوف. ألم يستحق الشاعر كوليا دميتريف الذي غادرنا منذ مدة قريبة مراسم التكريم مثله مثل تاتيانا بيك؟ لم يلاحظوا الغرباء، والأنصار غير مرئيين تقريباً، حسناً فعل يورا بولياكوف باستجابته واتجاهه نحو مجلة "الأدب".
ها هم الشباب الروس اليافعون يذهبون في كل الاتجاهات، باستثناء مأوانا للعجزة (معسكرنا) حيث فلاديمير كروبين الذي لا يجد من يصلي لأجله للصفح عن الذنوب، ولا من يخفي عنه بطاقته الحزبية تحت إيقونة الصليب.
لم ولن يوجد أدب من غير نقد. عندما يغيب النقاد، يصبح الكتاب أنفسهم نقاداً. ألم تلاحظوا أنّ أغلب حلقات النقد يديرها الشعراء وكتاب النثر ـ إنّه لأمر مؤلم.
لم أجد أحداً من أبناء جيلي من النقاد على الرغم من سعيي الحثيث زميلاً واحداً جباراً. تجد الموظفين والأيديولوجيين بما فيه الكفاية، ولا تجد زميل كتابة واحداً موهوباً فنياً. يوجد من هم أقل سناً: نيقولاي بيرياسلوف، وكابيتولينا كوكشينوفا، وسيرغي كازانتشيف، وإيليا كيريلوف. ويوجد من هم أكثر يفاعة أوليغ دوروغان، وألكسي شوروخوف، ونتاليا دانيلوفا، وأنا كوزلوفا التي لا أعرف إلى أين أضمها. أخشى أن يسلك نيقولاي بيريياسلوف السبيل المسدود الذي سلكه فلاديمير غوسيف، حيث النثر الذي لا يحصى، والشعر الدائم، والولع بالقيادة. "يمتلك سلطة واحدة: سلطة الفكر..." ـ هذا ليس عنه. إن طاردت أرنبين لن تصطاد ولا واحد. هل يستطيع الكتابة ببساطة هكذا، كما لو أنّه لا وجود لأية سلطة فوق رأسه؟
كتبت مرة، منذ زمن بعيد في مقال حول زولوتوسكي : "على الناقد أن يثق بنفسه فقط". وليس بالرأي العام، ولا بنصائح الأصدقاء، ولا القيادة، ولا بامرأة محبوبة، ولا بأية سمعة أو هيبة أو سلطة عليا. عندها فقط يصبح يساوي شيئاً ما. هذا ما يمتاز به فيتشسلاف أوغريزكو، مها كانت علاقة أي شخص به، من المؤسف أنّه قليلاً ما يساهم في النقد الفعّال، لكن "قاموسه" الأدبي، في الجوهر، هو تصوره وحياته، وعالمه الأدبي. إنّه أغلى وأثمن هدية تلقيتها في السنوات الأخيرة، مع كلّ العثرات والدقرات والنواقص التي نصادفها هناك. فهو ينتقدني، وأنا أنتقده، ونعيش، ونتطور، مصححين مواقعنا.
كما أنني أقدر كتاب سيرغي تشوبرينين المؤلف من مجلدين، المكتوب كما هو واضح من مواقع ليبرالية. يستطيع محبّ الأدب الآن النظر فيما وراء الشهادات. سواء إلى أوغريزكو أو إلى تشوبرينين، أما هما فليتصارعا فيما بينهما خدمة للأدب...
ها قد وصلنا إلى الجانب الليبرالي السُّمي. من المستحيل القول إن حال النقد هناك أفضل بكثير. ها هو الحركوك دائماً والمضطرب الذي لا يكل ليفوشكا أنينسكي الذي يكتب عن أعدائه أنّهم يخرجون مبتسمين ورؤوسهم مقطوعة، متباهين بالآاراء والاستدعاءات المهلكة والمميتة. أنا لا أقدر على ذلك. لكنّ أنينسكي، مثله مثل غوسيف وكورباتوف ـ من الجيل القديم. من رعيل "الأربعينيين" المحببين إلى قلبي. وهناك أيضاً لم يبق من القدامى أحد يكتب. لا يوجد غير الذكريات الخبيثة لبين سارنوف، وستانيسلاف راسادين، ولازار لازاريف. لقد خرجوا من العملية، لا وجود لهم في النقد الحي. ولا وجود لـ بوشينـ نهم. ولم يعد يوجد في مجال النقد منذ مدة بعيدة أيغور زولوتوسكي الحاصل على جائزة سولجينيتسين على كتاب ثلاثينيات العهد السوفيتي القديم. علماً أنّ جميع الكتب الحائزة على جائزة سولجينتسين تعود إلى العهد السوفيتي. كما هو نفسه. وتظهر أحياناً آللا مارتشينكو، كسابق عهدها، تقتفي أثر أدب آللا لاتينينا. الستينيون المعتزلون. فهم لا يفهمون المواجهات الجديدة، ولا التيارات الجديدة، ولا الاهتمامات الجديدة. لن يقبلوهم بتاتاً للعمل في صحيفة "أفيشا ـ الإعلانات الملصوقة" بدلاً من المندوب الأدبي التجاري الجوال والعبقري ليفوشكا دانيلكين، لأنّهم لا يعلمون ماذا يعرضون على القارئ الجديد. بالمناسبة، هذا هو الحال الذي وصلت إليه العجوز المتذمرة ناتاليا إيفانوفا، المكشرة والصاخطة على المتطرفين، وعلى الشكليين الجدد، وعلى المعتدلين تماماً. المهم بالنسبة لهم أن ينقّوا في مستنقعهم الليبرالي، ويشتموا حتى حامل الأوسمة بروخانوف، وكأنّهم لم يستلموا معه الأوسمة ذاتها من الأيدي نفسها. لا أحبّ المبتدئين لا في العالم الليبرالي، ولا في العالم الأرثوذكسي. عندما يتحدث هذا الإنسان الجيد ساشا تسيبكو للمرة المائة عبر التلفزيون قائلاً: نحن معادي الشيوعية القدامى، أشعر بالضحك وبالحزن. ما أكثر المعادين للشيوعية القدامى من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، ومن جهاز المخابرات (ك.ج.ب)، ومن القيادات الحزبية، ومحرري الصحف الحزبية ذاتها. من المؤسف أنه لم تحصل عندنا، كما في التشيك، عملية إبعاد الحزبيين عن السلطة التي اقترحتها في صحيفة "دين ـ اليوم" منذ عام 1992، لما وجد عندنا لا اليلتسينيين، ولا البوتينيين، ولا الياكوفلوفيين، ولم تكن الـ ناتاليات الـ إيفانوفيات ليقون عملية النقد، ولتصرّف سيرغي تشوبرينين بتواضع أكبر. لا تنسوا يا شباب أنّه عندما كنتم تتسلمون جوائزكم الكفاحية الحزبية في قاعة الأعمدة، كان قائدكم المحبوب سوروفتسيف يشتمني في صحيفة "برافدا ـ الحقيقة" على مقاربتي غير اللينينية للثقافة. وبقي هو نفسه بالنسبة إلي الآن وطنياً ومعادياً للينينية. وها أنتم تتسلحون باللينينية التي لا تردع وتهاجمون بلا كلل ولا أمل بوابة الأدب الروسي. من الواضح أنّ الماركسية أعاقت أدبنا، كما أنّه لا مكان هنا لليبرالية. تلك هي معارك عميقة في المؤخرة في سبيل الماضي، التي تخوضها مجلة "زناميا ـ الراية"، وتدندن معها ألا لاتينينا ونيكيتا إيليسيف في مجلة "نوفي مير ـ العالم الجديد". لا علاقة لهذه المعارك بالأدب المعاصر على الإطلاق. يمكن أن نعترف، أنّهم حققوا النصر في معاركهم، لكنّ نصرهم ليس ضرورياً لأحد. فكلمة الليبرالية غريبة بالنسبة لأي كاتب شاب غرابة كلمة الاشتراكية الواقعية، بل ـ وأكثر قبحاً وشناعة وقرفاً، مع هذه يمكن اللعب ببعض المشاريع الطليعية، وإعلانها مشروعاً طليعياً جديداً، على سبيل المثال، لكن لا يريد أحد من المعلمين الشباب المبدعين التعاطي مع الليبرالية أو أي نوع من الإصلاح السياسي.
يقف في بيتروغراد، خارج هذه المعارك الأيديولوجية والمدرسية، فيكتور توبوروف ناقداً عملاقاً ملحمياً جباراً واضعاً الوضوح والفنية والجرأة والإيبتاج نبراساً له، إنّه أحد أترابي لعام 1946. (إيبتاج من الفرنسية épatage الفضائحية، تصرف يثير الصدمة تتناقض مع الأعراف الاجتماعية والقانونية وغيرها لجذب الانتباه ـ المترجم) وهو من سننخرط بمرح معه في العام المقبل في صفوف الستينيين الحقيقيين، وليس الوهميين. طبعاً، يقف وراء إيبيتاجه (نظرته الفضائحية) فكرته الطويلة، وأيديولوجيته المعروفة بالأوربة الروسية. يريد كبطرس العظيم أن ينتصر على السويديين كي يأخذ منهم الأفضل. أدبه ـ هو الأدب المديني المتحدي الجديد. لا شك في أنّه أدب ضروري، لكن هل هو ضروري لكل روسيا؟ يخطئ دائماً، ويتعثر، لم يكن ضرورياً له في سلسلته "ناتس بيست سيلر ـ السلسلة الوطنية المثلى" أن يدرج في هذا العام ميخائيل شيشكين، لكن هكذا توضّع الورق. فلنلعب به.
آسف كثيراً على زميلي، من مدينة آرخانغيل يفغيني يرمولين. كتب كثيراً عن رموز روسيا، عن الأمراء اليرسلافيين العظماء غير غريب عن الأرثوذكسية. وفجأة يرتدي زي البروزبيتس الليبرالي. (بروزبيتس: كاتب نثر ـ الكاتب الذي يكتب هواية، لا يسترعي الدقة (عادة كاتب الجرائد). نظم كتاب النثر المحلفون والمنضوون في مجموعة "رول ـ دفة القيادة" حملة ضد الإنتليجنتسيا السوفيتية. ـ المترجم) هذا ما يمكن أن تتعب عليه كابيتولينا كوكشينوفا وفلاديمير كروبين، ألا يمكن أن تعيداه إلى الإتجاه القويم؟ ونظفوا المخ الممتلئ بقاذورات رياح الأزمنة الليبرالية. نعم تتلألأ في مقالاته الليبرالية مسحة الارتداد.
طبعاً، يعطي النقاد الأربعينيون العباقرة المبدعون الأربعة: بافل باسينسكي، وأندريه نيمزير، وفيتشسلاف كوريتسين، ودميتري بافيلسكي نغم النقد ما بعد السوفيتي الحالي. يمكن اللعب مع هذا الفريق. ويبدأ دائماً وإلى جانبهم بالمزاحمة الشباب المتممون: دميتري أولشانسكي، وليف بيروغوف، والمتطرف الليبرالي إيليا كوكولين، ويفغيني ليسين، وسيرغي شارغونوف.
لن أكتم؛ تبدو صفوفنا الشابة أكثر تواضعاً. والسعادة واحدة، فمجموعة الأربعة هذه، ومتمموها الشباب مستعدون للعب في ساحتنا. ونحن جاهزون لقبولهم.
يوجد جيل أدبي جديد. مصيبة واحدة، إن لم يحصل خرق إلى الخارج من قبل اتجاه ما جنوني بما فيه الكفاية، لكنه اتجاه حيوي بما فيه الكفاية، يعطي تعريفاً للحياة الروسية ككل، وللأدب الروسي، وإن لم يتم ملأ الفضاء الأدبي بالأبطال الجدد، فتنتظرنا مصير وشراكة مع أوربا العجوز العنين ثقافياً. حيث يكتبون جيداً، لكن ليس عن أي شيء. يجب على النقاد أن يكونوا أول من يرى ويدرك ذلك، وأن يلتقطوا ويمسكوا بهذا الاتجاه. لهذا السبب كان النقد في روسيا دائماً أيديولوجيا. وعندما يصبح أيديولوجيا، يصبح بشيراً للأدب الجديد العظيم.





عقيدة الناقد**


عندما تجمل حصيلة السنوات الستين التي عشتها، تستغرق لاإرادياً بالتفكير: لماذا عشت، ولماذا عملت؟ من يحتاج إلى عملك في النقد الأدبي؟ وما هو هذا ـ النقد الأدبي؟
طبعاً، يحلو ويطيب دعم الأصدقاء والشركاء في الرأي. حتى الكسندر بوشكين، حجب، ولم يطبع ولم يقم بالدعاية في حينه للوم والعتاب الموجه إليه في صحيفة "سوفريمينيك ـ المعاصر" (سوفريمنينك ـ المعاصر ـ(1836-1866) مجلة روسية أدبية اجتماعية ـ سياسية، أسسها بوشكين. أصدرت في سان ـ بيتربورغ 4 مرات في العام ـ عن الموسوعة الروسية ـ المترجم) غير آسف على أولئك الأصدقاء الأدباء العباقرة، كما أنّ كيوخيلبيكير أجاب، على سبيل المثال، إنّ الأصدقاء أغلى لديه من أية كتابة أدبية شريرة حقود تروق للعامة. (ويلهلم كارلوفيتش كيوخيلبيكر (1797) ناقد وشاعر نشر منذ عام 1815 أشعاراً في مجلات روسية مختلفة ـ عن الموسوعة الروسية ـ المترجم) وفي الوقت نفسه، فإنّه كشاعر فهم ضرورة وجود الأدباء من مختلف المستويات، وأهمية الاعتماد على الزملاء الأوفياء. كما أنّ مسألة وجود، على سبيل المثال، مجلة "ناش سوفريمينيك ـ معاصرنا" الحالية، كعلم ومنارة للأدب الوطني الروسي أهم بكثير من أية مقالات قليلة الشأن. (ناش سوفريمينك ـ معاصرنا: مجلة الكتاب الروس. تصدر في موسكو منذ عام 1956. ـ عن الموسوعة الروسية ـ المترجم)
هل هذا يعني أنه من الضروري للناقد فقط أن يدعم هذا الاتجاه الاجتماعي والسياسي في الأدب أو ذاك، دون أن يعير الانتباه تقريباً إلى القيمة الفنية في الإنتاج الأدبي ذاته؟ كلا، كلا، وألف كلا. طبعاً، إنّ اتجاه الناقد هام جداً، ولن يستطيع الفرار من السياسة، ولا عن توجهه السياسي ولا عن نمط التفكير القومي. لكن لا مجال للنقاش من غير وجود موضوع للنقاش. لا يمكن أن يوجد نقاش أدبي إن لم يوجد الأدب نفسه.
يوجد العديدون ممن يطلق عليهم شرطياً اسم نقاد، والذين يفتقدون تماماً الإحساس بالكلمة، ويفتقدون الذائقة الفنية، لكنّهم مستعدون لدعم أي كتاب، إذا كان قريباً فكرياً من أولئك النقاد. أنا لا أعد أمثال أولئك النقاد ـ نقاداً. هذا في أحسن الأحوال ـ أدب المنشورات الاجتماعية. يوجد الكثير من أدباء المنشورات الاجتماعية المبدعين.
النقاد المبدعون دائماً وفي جميع الأزمنة وفي أية بلاد قلائل جداً. تجد في روسيا في أي عصر عدداً غير قليل من كتاب النثر من الصف الأول، أما الشاعر الجيد اللامع ـ فظاهرة نادرة الحصول، لكن النقاد فيمكن دائماً عدّهم على أصابع اليد. إنّ النقد أكثر المواهب الأدبية ندرة. ولهذا السبب، عندما يفتقد النقاد يقوم بدورهم الشعراء وكتاب النثر أنفسهم. وجدت تاريخياً حالات، جعلت الشعراء وكتاب النثر العظماء يصبحون نقاداً بارزين. فلنتذكر ألكسندر بوشكين أو ألكسندر بلوك. وأذكر من معاصرينا الموهبة النقدية اللامعة التي تحلى بها ألكسندر سولجينيتسين. في البداية اطلعت عرضاً على ملاحظاته الأدبية، لكنني سرعان ما اكتشفت قيمتها الجمالية والاجتماعية، وروئيته الدقيقة والموضوعية للأدب. فعبارة واحدة ـ وحيدة، على سبيل المثال: "الاستعارة الطبيعية عند بروخانوف" تعطي تصوراً فائق الأهمية عن الميزات الفنية للنثر الذي يتم تحليله.
لكن، وفي الحقيقة، فإنّه غالباً ما يفتقد حتى الكتاب اللامعين إلى الموهبة النقدية. أذكر ذلك الكم من المواد التسجيلية المتوعة التي رشحها فيكتور أستافيف لصحيفة "ناش سوفريمينيك ـ معاصرنا". ولم يقبل يوري كوزنيتسوف الشعراء الغريبين عنه. لا يقلل ذلك على الإطلاق من دورهم العظيم في الأدب الروسي. لم يكتب ليف تلستوي بشكل ضعيف نظراً لأنّه شطب شكسبير. ولم يصبح شكسبير نتيجة لذلك أضعف. لكن ما هو مسموح لكاتب النصوص النثرية أو للشاعر يجب ألا يعيق الناقد عن رؤية مجمل العملية الأدبية في زمانه بوضوح.
يحدد الناقد ولو في الحد الأدنى، لكنّه يحدد، مكانة ومرتبة المبدعين في الأدب، ولا يستطيع أحد أن يساعده، أو أن يعرقله في ذلك. الزمن ـ أعظم النقاد، يحدد لاحقاً المقام والمرتبة النهائية في الأدب، لكن حتى الزمن يستند على تنبؤ النقاد. يحدد الناقد غير الموهوب المرتبة والمقام الملفق والكاذب الذي سريعاً ما ينهار.
الشرط الأول للنقد الأدبي الواقعي ـ هو الإحساس بالكلمة. مهما كانت أهمية هذه الأفكار والقيم أو تلك، يجب أن يولد الطفل في البداية، أي النص الفني، بعدئذ يأخذ هذا الطفل يقيس ملابسه. أعتقد أنّ الإحساس بالكلمة، والذائقة الجمالية أكثر أهمية وضرورة للناقد حتى من موهبة النقد الأدبي الذاتية. وجد عدد غير قليل من النقاد الكبار في القرنين التاسع عشر والعشرين الذين تهاونوا بالكلمة، ولم يُعدَّوا ملمين بالبلاغة المرهفة، لكنّهم حددوا نوعية النص الغريب بدقة. على أية حال، لقد أصبحتُ ناقداً أدبياً، على الأرجح، لأنني أحببت النثر العبقري. والشعر. كنت مولعاً منذ الطفولة بالقراءة، جمّعت الكتب النادرة حول الشمال الروسي، بدءاً من طبعات القرن الثامن عشر، وحول الطليعة الروسية، وأدب الغربة الروسي. وقد أكون زرت عملياً جميع مراكز الهجرة الروسية من ميونخ وحتى مونتيري، ومن مونسيبيل الكندية حتى نيس الفرنسية، ولأنني أيضاً جلبت الكتب النادرة من كل مكان. بدت لي الكتابة عن الآخرين أكثر متعة من كتابة الأشعار والقصص الخاصة. وبدا تاريخ أي كتاب، أو مصير أي كاتب أكثر متعة أحياناً من الكثير من الأحداث السياسية الآنية.
مهما يكن فالأدب أولي وأصلي أكثر من السياسة. لقد فهم سياسيو الماضي العظماء ذلك بشكل رائع. غادرنا الجيل الأخير من القادة الوطنيين اللامعين في الستينات. لقد وجد دائماً ديغول، وتشرشل، وماو تسي تونغ وستالين، وحتى سيئي الذكر المشؤمين موسيليني وهتلر، حتى في سنوات الحرب، الوقت لقراءة الإصدارات الأدبية الجديدة. أما اليوم فالقادة اليمينيون واليساريون على السواء جهلة لعدم قراءتهم أي شيء بعد كتاب التهجي. لقد اكتمل، على سبيل المثال، تطور الرئيس بوتين عند المحاربين الأمريكيين والفطرة البدائية لموسيقى البوب. ما الذي يمكن انتظاره من مثل هؤلاء السياسيين؟
أنا لست من عداد أولئك النقاد الذين خرجوا من صفوف الشعراء، أو من بين كتاب النثر الفاشلين. لقد فضلت شخصياً النقد ولست نادماً على ذلك.
يرى الناقد المبدع أحياناً بشكل أفضل من الكاتب نفسه عظمة الفكرة، وطابع أبطاله. ويقيم الكتاب بأمانة ودقة أكبر من الإنسان الذي كتبه.
هل يحتاج الكاتب إلى الناقد؟ مهما غضب بعض المبدعين، وحتى من عداد العظماء، فالكاتب أكثر حاجة للناقد من حاجة الناقد للكاتب. يستطيع الناقد عند الحاجة القصوى أن ينشغل بحرية في عالم الماضي، ويذهب لدراسة الأدب الكلاسيكي الجديد أبدياً، مقترحاً احتمالات قراءاته الجديدة، فكل مرحلة تأخذ من درر الماضي ما هو أكثر ضرورة لها. أما بالنسبة للكاتب فلا يوجد أكثر رعباً من الصمت الثقيل المتلبد والمخيم حول إبداعاته. حتى الشتائم الخلاعية المتهتكة المفرقة تستدعي في روسيا العطف، ومرة أخرى ضحايا جيل العسف والاضطهاد الملفق (أو المؤكد). لكن كم وجد عندنا في روسيا قديماً وحديثاً من الحالات، عندما لا يستطيع كاتب مبدع، ولا سيما من أبناء الريف، حتى ولو طبع عشرة كتب ـ أن يحصل على أي صدى في الصحافة، إن لم يسترضِ لا القيادة، ولا الجندرمة الليبرالية.
ينتشر اليأس والإحباط، وتذبو الأفكار، وتمتد اليد ليس لليراع، بل إلى قدح الخمر. كم هو ضروري في الوقت المناسب لمثل هذا الكاتب ما تفصح عنه كلمة ناقد.
لكنني أعتقد أن الناقد ضروري قبل كل شيء ليس لمؤلفي الكتب، بل للقراء، وللمجتمع ككل. تعم الفوضى في الأدب من غير نقاد، تبرز كل حلقة من الأدباء عبقرها، دون أن ترى عن كثب مجمل الأدب الباقي، يشّيد عملاء الإعلانات الشخصيات والوجوه الأدبية الفاعلة والمؤثرة، ويسلطون بصفاقة وبلا حياء المؤلفين المتوسطين على قيادة الفكر. إنّ جميع بدع الموضة الدارجة في الآونة الأخيرة تقريباً مفلسة فنياً، تعمر ليوم واحد، ويتم نسيانهم في الموسم الجديد. كثيراً ما تتردد في البرامج التلفزيونية عبارات ورموز صاخبة: نقدم إليكم الكاتب العبقري فيلير، واستمعوا الآن إلى الشاعر المشهور إيرتينوف. كيف يميز ويدرك القارئ: حقيقة كل شخص؟ كيف نعيد بناء المراتب والمقامات الأدبية، وليكن، على سبيل المثال، أدب الزمن السوفيتي؟ عندما نعت اليساريون اليمينيين بعدم الموهبة، ونعت اليمينيون اليساريين بعدم الموهبة، وتهكم الجميع من أدب السكرتير (أمين السر) (المقصود أدب السلطة الرسمية ـ المترجم)، وجدت هيبة ومقام للمبدع لم يهدم حتى الآن، لأنّه كان دقيقاً وعادلاً: وجد فيه مكان لتريفونوف، وشوكشين، ولفيسوتسكي، وروبتسوف، ولبيلوف، وأكسنوف.
أرجح أنّه لم توجد في الأدب ـ لا في ألمانيا، ولا في إنكلترا، ولا في الولايات المتحدة الأمريكية، ولا في اليابان ـ لم توجد مجرات أدبية منفصلة. كان بإمكان الكتاب أن يكونوا شيوعيين كأراغون، أو غارسيا ماركيز، ويمكن أن يقعوا لفترة في المزاج الفاشي كـ كنوت غامسون أو إيزرا باوند، أو مارينيتي أو ميريجكوفسكي، لكنّهم لم يسقطوا من العملية الأدبية. لقد حكم الليبراليون على أنفسهم بالهزيمة وبالسقوط المحتم بشطبهم بصورة أوامرية حازمة جناح الأصالة من الصحف ودور النشر (جناح الأصالة في الأدب هو أحد التيارات في الأدب الروسي التي ظهرت في أثناء البيرسترويكا والذي دعا إلى التمسك بجذور الأدب الروسي، وعارض تهافت الأدباء الليبرالين نحو المدارس الغربية في الأدب ـ المترجم)، وشطبهم من ما يسمى بالـ "موجز" العصري للأدب (الموجز العصري للأدب ـ كتيب تنشره الاتجاهات الليبرالية في الأدب يتضمن أسماء من تروج لهم من الأدباء الروس من مناصريها ـ المترجم). لقد تم نسيانهم مباشرة بعدما خانهم مقرظوهم العباقرة. ومن مبعث السعاد أنّ هذه الأزمنة أخذت تغرب. يسعى الجيل الجديد من النقاد، مع وجود بعض الاستثناءات النادرة، إلى متابعة ودراسة جميع البدع الأدبية الرئيسة. فليخضع مستقرئ ومتنبئ الكلمة الروسية فلاديمير ليتشوتين مبدئياً للنقد، وليشتموا يوري كوزنيتسوف ألمع شاعر في نهاية القرن العشرين على "سطوة كهف"ـه. كم روسيا بحاجة لـ"سطوة الكهف" هذه، ولتلك التقليدية الارتجالية القديمة الأصيلة، كي تستمر بالوجود، كحاجتها للمجددين المتحمسين المندفعين في البحث والتبحر في الثقافة العالمية. يحدد النقد قيمة كل جانب واتجاه. لا يعني عدد المطبوعات ولا شعبية أي كونين أو أكونين شيئاً في هذا السباق الأولمبي ـ ليست هذه هي علامة المكانة السامية للأدب ومرتبته.
النقد، بالنسبة إلي ـ إبداع، مثله مثل أي صنف أدبي آخر. والكتاب، بمعنى ما، بالنسبة إلي، طراز أولي وأصل أبطالي الأدبيين. إن لم يتم تفسير الأصل فالنقد لا يساوي شروى نقير. إلاّ أنّ شخصية الكاتب التي وضعها النقاد العظماء في الماضي من فيساريون بيلينسكي، وأبولون غريغوريف، ودوبرولوبوف، وستراخوف ما زالت تعيش في العالم المعاصر، مع بعض التصحيحات والتدقيقات الطفيفية من قبل أدباء جميع العصور والأجيال اللاحقة. تولد هذه الشخصية عند الناقد بشكل خفي مثل شخصيات أبطال الروايات. بعد تحديد الاتجاه العام لمادة النقد، من الممكن تغرق لاحقاً في عالم الإبداع، قبل أن تعلم بدقة إلى أين ستقودك البيئة العفوية للوصف. يرتبط الناقد، طبعاً، بأبطاله، كما يرتبط الشاعر، أو الكاتب بالعصر الذي يعيش فيه. لا يمكن أن يوجد المبدع الكبير في عالم مقفل معزول مختلق ملفق. ينجب الأدب الأبطال الوطنيين، الجيدين والسيئين الذين يهجس ويشعر بهم داخلياً في الشعب نفسه، في المجتمع نفسه، في العالم نفسه.
يساهم الناقد، مثله مثل الكاتب، وأحياناً بشكل أكثر فعالية، في تقدم وتطور الأفكار الوطنية. تجبر عبقرية الناقد الناقد على وضع إشارات على أكثر الكتاب لمعاناً في عصره، القريبين من تلك الفكرة الوطنيةة، ومن نظريات المجتمع، التي تساهم في تطور الأمة، والمجتمع نفسه. وبهذا المعنى يبقى الناقد دائماً ـ أيديولوجياً. هكذا كان، وهذا ما سيكون.
إن كنت حريصاً على النظر ليس فقط في الحلقة الضيقة ممن يشاركونك الرأي، بل وفي جميع المؤلفات المميزة البارزة وغير المتوقعة لممثلي مختلف تيارات واتجاهات حركة الشعب، ابحث عن البطل القومي ـ هذا ليس تخيلاً ولا تلفيقات فكرية. لا أحد يعلم، "من أي هباء" سينبت هذه المرة ليس فقط الشعر، بل والمبدعون العباقرة القوميون الروس. مثال على ذلك ـ طريق فلاديمير ماياكوفسكي من قصيدته الشعرية "أحبّ رؤية كيف يموت الأطفال..."، حتى مؤلفاته الوطنية الجرئية الجسور المليئة بالتحدي والسلاطة. أعتقد أنّه في أفضل كتابات إيدوارد ليمونوف توجد نبرة شعبية ووطنية أصيلة أكبر بكثير من أية كتابات ريفية مقلدة. تكمن عظمة الأدب الروسي ليس فقط في دعم التقاليد الوطنية، بل وفي الاكتشافات الجريئة الجسور أيضاً. أسعى وأجهد لأجمع وأزاوج في نفسي ما يسمى بميزة أصالة الثقافة الأرثوذكسية الروسية والانفتاح الإنساني تجاه ما هو أكثر قيمة في الثقافة العالمية.
أعتقد أنه على مجمل أدبنا الروسي المحوري أن يتمسك بذلك.






ــــــــــــ
)نشر هذا المقال في مجلة الموقف الأدبي ـ الادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق ـ في عددها الصادر في شهر تشرين الثاني 2017)
* فلاديمير بوندارينكو ـ زافترا ـ العدد 08(108) تاريخ 13/8/2005
** فلاديمير بوندارينكو ـ زافترا ـ العدد 0.3(115) تاريخ 19/3/2006




تحتاج روسيا إلى أناس عظماء
الكاتب: إيغور زولتوسكي
(حاور الناقد فلاديمير بوندارينكو الناقدَ المشهور إيغور زولتوسكي على أعتاب الذكرى السنوية 75 لميلاده)
زافترا ـ (الغد) العدد رقم 10(110) تاريخ 15/10/2005
ترجمة: شاهر أحمد نصر
فلاديمير بوندارينكو: تهنئكم هيئتا تحرير صحيفتي: "زافترا ـ الغد" و"دين ليتراتوري ـ يوم الأدب" وكل القراء، يا إيغور بيتروفيتش بمناسبة بلوغكم الـ75 سنة. الجميع معجبون بإبداعكم وبقدراتكم البدنية أيضاً رغم السنين الطوال. ويحبّذون لو بدوا بهذه النضارة في مثل هذا السن.
إيغور زولتوسكي: شكراً على التهنئة.
فلاديمير بوندارينكو: أتتذكرون القول المشهور "لو نبدأ الحياة من البداية..."؟ تصوروا أنّه أتيح لكم أن تعيشوا من جديد، ناسين الأخطاء اليومية الصغيرة والمصادفات، فما هي الأمور الرئيسية التي ترغبون في تغييرها، وسلوك طريق آخر؟
أيغور زولتوسكي: أنا لست نادماً على حياتي التي عشت. لا يوجد ما أأسف عليه، وأنا أشكر الله. ألوم نفسي في أمر واحد: فهمت متأخراً الأمر الذي كان بالإمكان الوصول إليه أبكر. كنت في طفولتي ماكسمالياً (من أتباع الحد الأقصى). علمتني الحياة منذ الطفولة أن أكون مستعداً للمقاومة. لقد علمتني القسوة عندما حرمتني من والدي، وقذفتني في البداية في سجن الأطفال، ومن ثم في دار الأيتام. والإنسان في دار الأيتام إما يموت، إن كان ضعيفاً (وأنا لم أكن قوياً، فقد كنت طفلاً مدللاً في الأصل)، أو يتحول إلى ذئب صغير. كنت أجيب على أية محاولة للاقتراب مني بزمجرة خفيفة. لم أستطع أن أصبح قائداً في أوساط دار الأيتام لأسباب بدنية، لكنني استطعت الانغلاق وعدم السماح لأي كان الاقتراب مني. وهذا ما انتقل معي لاحقاً في الحياة والأدب. حكمت عليّ الإهانات والضيم التي تلقيتها في الطفولة أن أحكم بقسوة على الناس، وعلى الكتب. هكذا كانت الحياة، سواء أسفنا أم لم نأسف على ذلك.
فلاديمير بوندارينكو: بالمناسبة لقد تعلمت منكم، الماكسمالية (أتباع الحد الأقصى) كناقد. كما اجتاز مدرسة البقاء على قيد الحياة التي اجتزتموها كل من فلاديمير ماكسيموف وفيكتور أستافيف...
إيغور زولتوسكي: بالمناسبة، تربطني صداقة معهما...
فلاديمير بوندارينكو: ... وكونكم أصغر سناً بقليل من ـ إيغور شكلياريفسكي، ونيقولاي روبتسوف، وليونيد بورودين ـ فقد أكسبتكم الحياة ليس الماكسماليزم وحده بل والقساوة أيضاً. لقد كنتم ذلك الذئب الصغير، وغدوتم شخصية قوية في الأدب. قد يكون هذا الماكسيماليزم ضرورياً في الأدب؟ أم أنّ اللطافة، التوليرانتية (من الكلمة اللا تينية Tolerantia أي التحلي بالصبر وتحمل آراء وتصرفات الآخرين، والتعامل معهم دون تهيج أو اضطراب. فالتوليرانتية طابع نادر. الإنسان التوليرانتني يحترم معتقدات الآخرين، دون أن يسعى للبرهان على حجته الحقيقة الاستثنائية. وتستخدم كلمة التوليرانتية بالمعنى الضيق في الطب. هنا التوليرانتية ـ هي مقدرة الجسم تحمل تأثرات الوسط الخارجي السلبية دون خسائر ـ المترجم) في التعامل مع الحياة والشخص المقَرَظ تسمح ببلوغ الأفضل أكثر؟
إيغور زولتوسكي: لقد كان غوغول محقاً عندما قال التسامح ـ هو شعار المسيحية. لكن التساهل والتولرانتية غير مسموح بهما في النقد. التساهل والتسامح هنا يعادل غش الذات، وغش القارئ أيضاً. أي ناقد أنت إن شجعت عديمي الموهبة؟ علماً أن كلمة عبقرية واحدة غالية وثمينة بالنسبة إليّ. وأنا على استعداد لدعمها، وأعلم أنّ ملاطفة الكاتب على أي نجاح مهما كان بسيطاً يمكن أن تساعده. وعلماً أنني غادرت وفارقت صفوف النقد الواقعي منذ مدة بعيدة.
فلاديمير بوندارينكو: قد تكون مفارقتكم حصلت حتمياً. النقاد ـ هم مهندسون عسكريون ومهندسو ألغام، نادراً ما يكون عمرهم طويلاً. وهذا ما ينتظرني وزملائي على الأرجح. غدت متابعة العملية الأدبية أكثر صعوبة كل عام. من الضروري الإطلاع في الحد الأدنى على آلاف الكتب، وتصنيفها، وفهم جميع الاتجاهات، وجميع القمم الممكنة ـ يجب امتلاك طاقة هائلة لتحقيق ذلك. وأنت لست ناقداً ـ دون معرفة العملية الأدبية. يمكن أن تقرأ ثلاثة، أو أربعة كتاب محببين إليك، وأن تهزأ من مقرظين لا يستهوونك، لكنّ هذا ليس نقداً. لا يكفي الشعور بالكلمة، ولا يكفي أن تقدر على الكتابة بشكل غير رديء، من الضروري باستمرار رؤية العملية الأدبية بمجملها، حتى في الوقت الذي يقولون فيه إنّها غير موجودة. يتحدث أولئك الذين لست في وضع يسمح لي بمتابعتهم. وأنا، على الأرجح، على تخوم الخروج من النقد الجاري، وسأهتم بتاريخ الأدب، وبكتابي المحبوبين، وحياة الأناس الرائعين، وغير ذلك. النقد الواقعي ـ إنّه عمل صعب، وقبل كل شيء قراءة الكتب. يجب إخراج تلك اللؤلؤة النفيسة من تيار الوحل والأوساخ.
إيغور زولتوسكي: إنّكم محقون تماماً. يبدو لي أنّه من الضروري دائماً يا فولوديا (اسمحوا لو أن أدعوكم هكذا، كما هو مخزن في الذاكرة العجوز لقائد الاستديو الأدبي)، حتى مع المعرفة الدنيا بالعملية، (من الضروري) حمل قدة القياس العالية. وليس فقط تتبع العبقرية الكاذبة، كتتبع حربة صياد السمك لأي نوع من الكراكي، وعدم فقدان الصرامة حتى بالعلاقة مع الذات.
فلاديمير بوندارينكو: تحدثتم مرة بشيء من الحسد عن الأدباء المتعلمين الحاليين. وأسفتم على أنكم لم تفوزوا بمثل هذا الرخاء في حياتكم. و قال لي الشيء نفسه فاسيلي إيفانوفيتش بيلوف بأسلوب آخر. أثمن شعوره بالنقد الذاتي. ولكن عندما كان يتحدث عن نواقصه الأدبية، حاسداً التعليم المسبق الذي حصل عليه أوليغ ميخايلوف، وفيكتور بيتيلين، وبطرس باليفسكي، استمعت إليه، ووافقته الرأي في بعض ما قاله، وفكرت متسائلاً: أين موقع فاسيلي بيلوف في تاريخ الأدب الروسي، وأين أوليغ ميخايلوف، أو بطرس باليوفسكي؟ أنا لست ضد أدبهم، لكن هل حققوا الكثير، وأين كمنت نواقصهم؟ أنا معاد لدود لما يسمى بالعبقرية الطبيعية، التي بواسطتها تؤذي عملية التلميع العالمية وتضر الأدب. لكن ذلك النظام القاسي للبقاء على قيد الحياة، الذي كثيراً ما كتب عنه فيكتور أستافيف، أجبرهم على بلوغ تلك القمم في الأدب، التي لم يصل إليها عملياً صبيتنا النخبويون المدللون. ومع ذلك فإنّ من يتعود على الحياة الناعمة للنخبة، يصعب عليه الانتقال إلى خندق الجنود، أو الاندفاع والانصهار كالماغما في هجوم فوج الفرسان. ومن غير ذلك الانتقال، لا يوجد أدب كبير، بما في ذلك النقد الأدبي الكبير. لنأخذكم كمثال، ولنأخذ كمثال أيضاً بيلينسكي، الذي أخذ الجميع حالياً يشتمونه، ومثال أبولون غريغوريفيتش. لم تصبحوا في سن الثلاثين دكتور في العلوم، لكن هل بمقدور الدكاترة الشباب الحاليين أن يصبحوا شخصيات قوية؟
إيغور زولتوسكي: نعم كان بيلينسكي طالباً لم يكمل دراسته ـ وناقداً نابغة. استمع إليه غوغول، وبوشكين. وكان أول من قال عنهما ما كان واجباً على النقد الروسي أن يقوله. أنا أفهم فاسيلي بيلوف. وحدثتني زيناديا شاخوفسكايا عن معاناة بونين لأنّه لم يكمل تعليمه، إنّه لم ينه المدرسة الثانوية. قالت له: "إيفان الكسيفيتش، أنت حائز على جائزة نوبل، وعضو فخري في الأكاديمية، وكاتب روسي عظيم". أما هو، ومع ذلك، فقد كان يخجل. يوجد مثل هذا الشعور عند أناس من جيلي، المعرفة والتعليم لم تكن لتعيق، بما في ذلك معرفة لغتين، أو ثلاثة. ومع ذلك فالشخصية، سواء في النقد أو في الأدب، أسمى من أدب الدراسات الجامعية الدؤوب التي تنفصل فيها تجربة العقل والقلب.
فلاديمير بوندارينكو: ولا توجد أسس أخلاقية متينة، أضيف أنا، متذكراً ابتهاجكم السابق في "مقالتكم الأدبية النقدية" عن التعليم العالي الذي يحمله فيكتور إيروفيف. وماذا أعطته معرفة إبداعات الماركيز دي سادا؟ شخصية مفككة تماماً. ومع ذلك، كيف أصبح هذا الذئب الصغير إيغور زولتوسكي ناقداً صلباً؟ أنا لا أؤمن بأنّ العبقرية والإبداع يمكن أن تغرس، أو تفقس من المؤخرة، بالجلوس يومياً لمدة عشر ساعات وراء جهاز الكمبيوتر، أو بوجود ريش النعام في اليد. إنّها توهب من الأعلى. وعلى الإنسان أن يخمن ويلبي دعوة عبقريته، وأن يؤدي رسالته. يولي العديد من العباقرة دون أن يكتملوا أو يحققوا ذاتهم. ما الذي جذبكم إلى النقد الأدبي، وليس إلى أكاديمية العلوم، ولا إلى الكتابة الأدبية؟ من المعروف، كقاعدة أن الناس الذين يحصلون على درجة الدكتوراة، قلما يصبحون نقاداً واقعيين، مكتفين بتحقيق انطلاقات نادرة في علم الأدب المعاصر.
إيغور زولتوسكي: تركت أمي أثراً كبيراً علي، لقد أحبّت قراءة الكتب، وأعادت روايتها على مسمعي. وأنقذها ذلك في معسكر الاعتقال، حيث أعادت سرد جميع تلك الكتب برطنة. كانت امرأة متعلمة، على الرغم من أنّها كانت من أسرة فلاحية.
فلاديمير بوندارينكو: ومن هي، ما أصلها؟
إيغور زولتوسكي: اسم أمي يانا يانوفنا، إنّها من أسرة بلغارية، من الفلاحين المنفيين، الذي نفوهم من صربيا إلى الشرق الأقصى. ولدت في الشرق الأقصى.
عاشت في عزبة يحيطها حقل زراعي، هاجمهم الهنهوز لأنهم كانوا على الحدود مع مانتشوجيري. استطاعت أمي أن تنهي المدرسة الثانوية على الرغم من أن والدهم رماهم. وحببت الكتب إلي. قررت منذ الطفولة أن أعمل في الأدب. علمت أنّ الأدب هو مصيري. عندما كنت في الصف الثاني كتبت رواية، عن عازف كمان بدأ حياته كفرخ بط قبيح مقرف قذر، ومن ثم أصبح موسيقياً مشهوراً وحصل على وسام العلم الأحمر للعمل. كانت الأوسمة وحملة الأوسمة في ذلك الحين يعيشون بسعادة كبيرة. تولع الصبية بها... كانت تلك أولى محاولاتي لكتابة شيء ما. وبالمناسبة، من الجدير بالذكر، أنّه وعلى الرغم من أنني كنت أبن "عدو الشعب" ـ ومن مفارقات ذلك الزمان ـ فقد أنهيت المدرسة المسماة باسم لينين في كازان، في المدرسة التي درس لينين نفسه فيها، ونلت الميدالية الفضية. ومن ثم درست في جامع كازان التي انتسبت إليها من غير امتحان. اقترحوا على أن أعمل معلماً في الشرق الأقصى. أتفهم، يا فولوديا، كيف تمت المواءمة بين الانزعاج من السلطة، والشعور الحار والصادق بخدمة الشعب. هكذا تمت تربيتنا، وهكذا ترعرعنا وكبرنا، مهما كتب اليوم عن ذلك الزمان. هكذا كانت أمي تفكر، وأبي، أيضاً، كان كذلك... لقد خدم الوطن، كان جاسوساً.
فلاديمير بوندارينكو: على الرغم من فارق السن، أستطيع القول إنه وفي أسرتي حصلت أمور متشابهة؛ فأبي، كان أوكرانياً، ولم يكن مصادفة وجوده في البداية في المراحل الأولى من بناء البام (الخط الحديدي المنفذ عبر سيبيريا والواصل إلى بحيرة البايكال ـ المترجم)، كان ذلك قبل الحرب (العالمية الثانية ـ المترجم)، ومن ثم في ورش بناء الطريق الواصل بين مورمانسك والفولغدا، التي أمنت إعادة إرسال جميع شحنات العتاد للحلفاء. ولم أعرف في الحياة وطنياً روسياً أكثر من والدي. وغالب الحقد الكثيرين نتيجة أخطاء وعدم صحة تصرف السلطات في البلاد بأسرها وعلى صعيد الدولة بمجملها.
ولم تكن الوحيد الذي اصطدم بمثل تلك المفارقات، فلقد كان أغلب آباء أو أمهات "الأربعينيين" الشباب في معسكرات الاعتقال، ومنهم من أعدم رمياً بالرصاص ـ كما حصل مع والد ليونيد برودين، وألكسندر فامبيلوف، وفالنتين أوستينوف، لكنّهم جميعاً حصلوا على التعليم العالي. أما فصل بينيديكت إيروفييف من جميع المعاهد، على سبيل المثال، فأنا لا أعزوه لاعتقال والده. لقد كان ذلك نتيجة أعماله. وماذا تعلمون عن والدكم، أين عمل؟
إيغور زولتوسكي: عمل في مخفر على الحدود. في عام 1924 أنهى أكاديمية قيادة الأركان، عرف ست لغات، عمل في جميع أنحاء العالم. صدر الآن كتاب "المخابرات الروسية الخارجية"، ولأول مرة يرفعون السرية عن اسمه.
وسافرت أنا كوطني إلى تلك الأصقاع النائية، إلى محطة آمور... أمر ستالين ببناء نفق على الشاطئ تحت الآمور. كي تسير القطارات تحت الماء في حال قصف الجسر. قام المحكوم عليهم والمنفيون بحفر النفق الذي لم تعد من حاجة له بعد النصر. لقد عاشوا في براكات حيث أسكنوننا بعد إزالة المعسكر. تم تحويل مطعم المعسكر السابق إلى المدرسة. بدأت العمل في هذه المدرسة. علمونا في الجامعة اللغة اللاتينية، واللغة البولونية، واللغة السلافية القديمة، ولم نتمكن مخاطبة الأطفال. بالتالي لم أكن مستعداً تماماً كمعلم لمثل هذا العمل. وبدأت الكتابة في المدرسة... ابتعدت مباشرة عن كتابة الرواية، معترفاً بأنني لا أمتلك العبقرية الفنية. علماً أنّ مقالاتي النقدية لا تفتقد إلى بعض الاستعارة. عقدت في عام 1961 في بيريديلكينو ندوة للنقاد الشباب. حضر الندوة كل من أوليغ ميخايلوف، وليف أنينسكي، وأدلوف أوربان، والمرحوم يوري بورتين. رعانا النقاد السوفيت المبجلون. وألهمونا روحياً بقيم الإقدام والجرأة والحرية، معتذرين عن خطايانا السابقة. اكتشفني كورني إيفانويتش تشوكوفسكي. دعاني لزيارته في عزبته وقرأ مقالتي "رابير هاملت"، حيث تعاملت بخشونة واضحة مع كتابات أندادي. وباركني. قال تشوكوفسكي: دع كل شيء جانباً واحترف النقد. ومع ذلك فلقد كتبت قصة تدور حول هروبنا من دار الأيتام في سيبيريا في آذار (مارس) 1944. كان ذلك الانحراف الوحيد عن الصنف الأدبي الذي اخترته. تتلخص وجهة نظري فيما يلي: إذا كنت في آن واحد تحكم على الكتاب، وفضلاً عن ذلك تتبارى معهم في مضمارهم، فيجب عليك في الحد الأدنى أن تكتب أفضل منهم.
فلاديمير بوندارينكو: تباغت تجربة ومحنة الكتابة الروائية والنثرية أي ناقد من حين لآخر. ولتجاوز محنة الكتابة الأدبية هذه يجب أن تكون قوياً، وواثقاً من نفسك، ومن موهبتك النقدية، ومن ذائقتك الفنية، وواثقاً من الدور الرفيع للنقد كما هو، وهذا ما تتحلى به أنت، أو ميخائيل لوبانوف، أو ليف أنينسكي، أو يوري سيليزنيوف الذي قضى باكراً، ومارك شيكلوف. يمكن، على الأرجح، اللعب (المقصود هنا بالكتابة ـ المترجم) مرة أو مرتين، ومعالجة مسألة كيف يحصل ذلك، لكن إن لم تكن مؤهلاً لتبوأ القمة الفنية، فهل يستأهل الأمر التمرغ في صفوف المتوسطين؟ فضلاً عن أنّ موهبة النقد، من وجهة نظري ـ موهبة نادرة جداً. يوجد الكثير من الكتاب العباقرة، والشعراء العباقرة أقل من ذلك بكثير، وتجد دائماً تقريباً ـ أفراداً قلائل من النقاد العباقرة. والنقاد المتوسطون وغير الموهوبين جداً وحدهم كفلاديمير نوفيكوف، على سبيل المثال، يغيرون بسهولة الصنف الأدبي الذي يمارسونه، دون أن يصلوا في أي منها إلى القمة. عندما تفهم قيمة النقد الأدبي العليا، خاصة في روسيا، حيث يرتبط دائماً بالحياة الاجتماعية، وبدور المفكر، يصبح من غير الممكن رفض هذا الدور. ومهما رفع مئات المرات سؤال: ما الحاجة للنقد الأدبي. وبالمناسبة، ما هو جوابكم على هذا السؤال المضجر؟
أمن المعقول، عملياً، أن يتجه الفاشلون في الأدب بحسرة نحو النقد الأدبي؟
إيغور زولتوسكي: النقد الأدبي ـ هو الشقيق الحقيقي للأدب. لم تعرف روسيا علم الأدب. لم توجد تقاليد العلم الأدبي. والنقاد الأدبيون كانوا: بيلنسكي، وبيساريف، ودوبرولوبوف، وإينوكينتي أنينسكي. علماً أنّه اعتباراً من بوشكين، وحتى بلوك، لم يتأفف أو يشمئز أحد من العظماء من هذا الصنف الأدبي. النقد الأدبي كان الشقيق الحقيقي للأدب، وعاش معه في مستوٍ واحد. طبعاً يتعلق النقد الأدبي بالأدب، كما أن الأدب يتعلق بالنقد.
فلاديمير بوندارينكو: وفضلاً عن ذلك، يعد النقد في زمن الفراغ الأدبي جسراً بين نهضة أدبية وأخرى، لأنه يمتلك دائماً ما يمكن الاستناد عليه، على الماضي العظيم، مدركاً ومنافساً الثوابت الأدبية للعصور الماضية... وفي الوقت نفسه لا يسمح النقد بخفض مستوى مقياس قمم الأدب ذاته، والمستعدة للاعتراف بالقمم التي وصلت إليها، ولنقل، رادزينسكي، ودونتسوف. فالنقد وحده يسمح لهما بالشعور أنهما كلاسيكيان، بغض النظر عن أي رئيس دولة يطري على إبداعهما.
إيغور زولتسكوي: النقد ـ هو أدب الفكرة المركزة. الذي يمتلك رؤيته ليس، فقط، عن كتابات الكاتب المحددة، بل ومن خلالها عن الحياة. تؤلمني اليوم رؤية النقد وقد تحول إلى علم تطبيقي، وإلى نقد بالتوصية، للمداهنة والاسترضاء، خادماً أكياس النقود، بما في ذلك وفي الأدب.
فلاديمير بوندارينكو: نعم، تحول قسم من النقاد الشباب الحاليين إلى تجار، وإلى مندوبين تجاريين متجولين للبضاعة الأدبية سريعة العطب. ولكي لا تتعفن هذه البضاعة سريعة العطب، من الضروري وضعها في التداول والدوران بسرعة، وغرسها في الوعي العام، فجميع المخازن ممتلئة بأطنان من بضاعة الكتب، والتي تتطلب التسديد لتخزينها. من الأجدى والأربح بالنسبة لدور النشر اكتراء واستئجار مسوقي كتب فطنين لقاء مبالغ محرزة. لقد اختفى، تقريباً، النقد الجدلي المتبصر المرتكز على أسس سليمة، وذلك في الصحف من كلا الصفين: الوطنية، والديمقراطية على حد سواء.
اختفت مكانة وهيبة العبقرية الأدبية، عندما عرفوا وحددوا بشكل مدهش سعر كل من بلاتونوف، ودومبروفسكي، وراسبوتين. وكذلك الأمر بأخذ: سارتاكوف مع تشاكوفسكي بالجملة، وعندما لم يستطيعوا إعلان الكاتب الروائي المشهور والمتمكن أنتولي ريباكوف مبدعاً أدبياً. أما الآن فلقد أصبحوا يعلنون عن الكتب كما يروجون ويعلنون عن حفاضات البامبرس أو عن مشروب البيرة "الأغنياء الثلاثة".
إيغور زولتوسكي: نعم، يمكن تقديم مثل هذا الأدب مع البيرة فقط. هذا نوع من النقد بالتوصية (الحجز) الذي لا استطيع أن أعده نقداً. يجب أن يكون النقد مستقلاً، مستقلاً عن الكاتب، الذي يكتب عنه، وعن دار النشر. النقود ضرورية للجميع، لكن يجب تحصيلها ليس بهذه الطريقة. حصل وأن تعرضت أكثر من مرة لهذا النوع من الطلبات. بالمناسبة أريد أن أذكر بالعرفان غيورغي موكييفيتش ماركوف، الذي ساعدني في إصدار كتاب عن غوغول، لولاه لما صدر الكتاب. كان قائداً بارزاً في مرتبة وزير اتحادي. اتصلوا بي من دار نشر "سوفيتسكايا روسيا"، بعد دعمه للكتاب عن غوغول، واقترحوا علي تأليف كتاب عن ماركوف، قلت إنني لن أقوم بذلك. وثانية عليّ إعطاء ماركوف حقه: بقيت علاقتنا كما في السابق. والآن أتلقى مثل هذه الاقتراحات اصبحت أحتقر وأزدري نفسي إن التفت إليهم. وفي شبابي، يا فولوديا، لم أسع للتعرف إلى الكتاب الذين أكتب عنهم. هذا يعيق دائماً. إن صادقتهم، فأنت ملزم بشيء ما نحوهم، ولن تستطيع قول شيء ما حتى النهاية.
فلاديمير بوندارينكو: هذه ميزة رائعة عند النقاد الشباب الجسورين والجريئين. عندما بدأت الكتابة عن كيم، وماكانين، وبروخانوف، ولوتشوتين وغيرهم ممن يسمون "الأربعينيين" لم أعرف أحداً منهم. وتتغطى، بلا إرادة، خلال السنين وعشرات السنين من الحياة الأدبية بالمعارف والصداقات، ويصبح عدد من لا تعرفهم من الأدباء الكبار قليلاً جداً، وتصبح الحرية التامة قليلة. يمكن، ويجب ألا تنافق، لكن أحياناً تسكت عن بعض الضرر، وتكتب ملمحاً: علماً أنّ، أو: بالمناسبة. إن أردت مزيداً من الحرية فانتقل للكتابة عن الشباب الذين لا تعرفهم، أو توغل في تاريخ الأدب، حيث تستطيع بحرية التعبير عن آرائك وشكوكك. تغني، من جهة، معرفة حياة الكتاب، وعملية إبداعهم، وتمنح معرفة إضافية لظهور هذا النوع أو ذاك، ومن جهة ثانية، تستعبد وتسترق الناقد. تصوروا أنكم تكتبون عن صديقكم العزيز واللطيف غيورغي فلاديموف، وتتذكرون اللقاء معه، هل تكونون عندئذ أحراراً في تصوراتكم الخاصة عن إبداعه؟
إيغور زولتوسكي: الأمر كذلك في الإجمال. علماً أنّ الأمر مع فلاديموف يختلف. جاءني ناشره. لقد أحبّ فلاديموف كثيراً، وطلب كتابة مقدمة لكتابه المؤلف من أربعة مجلدات ـ قرر طباعة أربعة مجلدات. كتبت مقالاً كبيراً. اعترفت بأنّ "روسلان المؤمن" شيء رائع، وعاينت ما تبقى من كتبه بعين الناقد. طلب غيورغي فلاديموف عدم طباعة هذه المقدمة. وكتبها ليف آنينسكي. أعرف فلاديموف، وأحترمه، ولم أستطع أن أجبر نفسي أن أكتب دفاعاً أو منافحة.
فلاديمير بوندارينكو: وأنتم على تخوم الاحتفال اليوبيلي هل تستطيعون تسمية أفضل ما كتبتم؟ وما هي الأمور التي تريدون التخلص منها بكل رحابة صدر، عادين إياها غير موفقة إبداعياً؟ أي، ما هي نجاحاتكم، وإخفاقاتكم من وجهة نظر اليوم؟
إيغور زولتوسكي: أستطيع أن أعد من الإخفاقات التجربة الأدبية غير الناضجة. ليس لعدم إعجابي ببعض الأفكار المصاغة هناك، بل لأنّها مكتوبة بشكل ضعيف. لا تعجبني لغة مقالاتي الأوائل. "الشاب المعاصر" أو "دفء النعيم" ـ ما هذا؟ وبعض المفاهيم العامة المجردة. علماً أنّ كتاب "دفء النعيم" كان، ولنقل، مقالاً عن قصة فاسيلي بيلوف، التي لا أرفضها. أو "تقليم في الداخل" ـ عن قصة أندريه بيتوف ـ تسمية سخيفة ومغالية في التزويق. يبدو لي، يا فولوديا، أنني تعلمت الكتابة الآن فقط. أصبحت أكتب ببساطة ووضوح. نحتُّ في شبابي العبارات بإيقاع، كجهاز التلغراف. كان الشكل في المرتبة الأولى بالنسبة إلي، وتعلق بالنماذج الأدبية في حينه. ما كتبته في السنوات الأخيرة يبقى بالنسبة إلي كما هو دون تغيير.
توصلت إلى آرائي متأخراً عما يجب. لذلك أنا الآن لست زويل (رمز محاكم التفتيش ـ المترجم) الذي يحيل أي كاتب من الكتاب إلى الطرد والإلغاء. حتى الردود المسممة عن الأدب المعاصر أحاول أن أنهيها بتسامح ما. أمد يدي لكل من كتبت عنهم. أفضل كتبي على ما أعتقد كتاب عن غوغول.
فلاديمير بوندارينكو: كيف وصلتم يا إيغور بيتروفيتش إلى غوغول؟ ناقد جدلي حاد، وماكسيمالي (من أتباع الحد الأقصى)، لم تعد ذئباً صغيراً، بل ذئباً قوياً صلباً، أحد قادة النقد الأدبي الذين لا يستهان بهم، وفجأة يخرج من ماكسماليته (حدوده القصوى) إلى تلك الشخصية اللغز المبهم المسيحي الصوفي: نيقولاي غوغول؟
إيغور زولتوسكي: عانيت من مصير معقد في نهاية الستينات. ظهرت في موسكو، حيث وجد العديد من الأحزاب والمجموعات الأدبية. لم يقبل بي في حينه "اليساريون" في "نوفي مير" (مجلة العالم المعاصر ـ المترجم)، كتبت مقالات نقدية عن يوري بونداريف الذي كان ينشر هنالك روايته، وعن رواية باوستوفسكي المنسية، قائلاً إنّ ذلك جيليه فواكه (مارمالاد) وليس أدب، وعن قصيدة يفتوشينكو "محطة توليد الكهرباء الشقيقة"، والتي أخذت مقتطفات منها مباشرة: "اسمها السطح". فوضعوا اسمي مباشرة في لائحة المخربين. وفجأة تظهر مقالتي عن رواية يوري دومبروفسكي "حارس الأنتيكات القديمة"، التي لم يجرؤ أحد أن يكتب عنها. ظهر المقال في مجلة "سيبيرسكيخ أغنياخ". وأخذ "اليساريون" يتساءلون: من هو هذا النموذج. أهو "معنا" أم "ليس معنا". وتبين أنني لست في أي حزب. كنت مثبط العزم. وفكرت في لحظة ما بعبثية وعدم جدوى معارفي النقدية. عبثية وعدم جدوى الطلقات السريعة. لم يعد الهواء يكفيني. ورغبت في التوقف عند شيء ما عظيم. عندئذ دخل غوغول إلى بيتي.
قصدت الأرشيف. سافرت إلى كييف، وأخذت اقرأ رسائل غوغول. وبعدئذ عملت طويلاً في المكتبة التاريخية. فهمت ووعيت أنّه يجب عليّ انهاء جامعة جديدة. وبفضل غوغول ولجت القرن التاسع عشر. وأصبحت أنظر إلى كل شيء بشكل مغاير، من قمة أخرى، بما في ذلك إلى نفسي. وعُمدت في هذه السنوات بالتحديد في كنيسة القديس بيمين في نوفوسلوبودسكي. لم يكن ذلك عملاً أدبياً بل وحركة روح. للبدء أتلفت مسوداتي، ولم أحصل على شيء. وانتهى الأمر بأن أصبت بالرعاف (النزف الدموي) هنا في: إعادة الخلق، وإكليل الغار، والمجد له في الأعالي، حملني على أكتافه ونقلني إلى المستشفى. ومهما بدا الأمر غريباً فإنّه، يا فولوديا، وعلى الرغم من مرضي الشديد، كانت تلك أسعد سنوات عمري، وبدأت بشكل مغاير تماماً عملياً كتابة كتاب عن غوغل الذي اكتشفته. علقت صوره على جميع جدران الغرفة، وتجولت في جميع الأمكنة التي عاش فيها. أسير في شارع بوغودينسكي حيث عاش مرة هناك، ويبدو لي أنّه سيظهر لي تواً من زاوية ما. وأنا أشعر الآن بحضوره. إنّه عمل عظيم وثقيل، وسعادة عظمى. أنهيت الكتاب في عام 1976، صدقني، يا فولوديا، سجدت على ركبتي وشكرت الله.
فلاديمير بوندارينكو: هل تستطيعون القول، يا إيغور بيتروفيتش، أي غوغول أقرب إليكم ـ غوغول المالاروسي (ماليا روس: روسيا الصغرى، هو اسم أوكرانيا الحالية، وكانت جزئاً من الامبراطورية الروسية، كتب غوغول باللغة الروسية وأعتقد أنّه لم يخطر بباله أن يسأل نفسه إن كان روسياً أم أوكرانياً، مثله مثل جبران الذي كان يعد نفسه سورياً، أما بعض المتعصبين القوميين الأوكرانيين الحاليين فيجهدون لنزع أية صبغة روسية عن غوغول وعن كتاباته، ـ المترجم) مع كل الشيطنة ومرح الأزمنة الأسطورية في "أمسيات في العزبة" قرب ديكانكي، أم غوغل الآخر، البطرسبورغي (عاش الكاتب في مدينة بطرسبورغ ـ المترجم)، زمن "المعطف" و"الأنفس الميتة"؟
فلاديمير زولتوسكي: الأقرب إليّ حالياً، طبعاً، غوغول في سنواته المتأخرة، غوغول الذي قرر كشف روحه للقراء. خرج من الاعتراف، ومن الأمكنة المختارة..." وماذا جنى؟ الانتقاص، والوصم، والازدراء، والتهكم، والسخرية.
فلاديمير بوندارينكو: هذا ما يحصل دائماً، لقد سخروا من تلستوي، ومن خطاب سولجينيتسين في مجلس الدوما. هذا هو تعليمنا، بل والتعليم العالمي.
إيغور زولتوسكي: وأنا أردت الدفاع عنه! على الرغم، طبعاً، من أنّه ليس بحاجة إلى من يدافع عنه. لنفترض أنّه لم يخلق البطل الإيجابي الذي جهد جميع الكتاب الروس لخلقه. لكنّه نفسه أصبح ذلك البطل. أنا على ثقة أن الأبطال الحقيقيين في الأدب الروسي ـ هم مبدعوه. إنّهم جديرون أن نحني احتراماً لهم. لقد عاشوا حياة لائقة وعزيزة.
فلاديمير بوندارينكو: والآن، ألا توجد لديكم رغبة في الدفاع عن غوغول في وجه الهجوم عليه في أوكرانيا، وفي وجه ذلك الهجو اللغوي في تلفزيوننا ؟
إيغور زولتوسكي: يعرضون الآن ذلك الفيلم عن "الأنفس الميتة". لا استطيع القول إلاّ أن هذه خساسة وسفالة. منذ مدة ليست بعيدة قرأت كتاب يو. باراباش، الموظف الحزبي الرفيع السابق، حول شيفتشينكو، وغوغول. إنّه يبرهن أن شيفتشينكو أرفع مكانة من غوغول من جميع الجوانب. أولاً: ككاتب. وثانياً كوطني غيور على بلاده. لقد (خان) غوغول وطنه، أما شيفتشينكو فلم يخنه. ويقدم مقتطفات من الترجمة الجديدة لميخائيل شيفتشينكو. عرفنا شيفتشينكو من الترجمات الملطفة لـ:ريلسكي، وتيتشني وغيرهما من الشعراء السوفيت. والآن يعيدون ترجمته. وما أكثر الكره وعدم المحبة في أشعاره لروسيا وللإنسان الروسي بشكل عام؟ من أين كل ذلك؟ لقد ساعده الناس الروس ـ جوكوفسكي، وليسكوف. حتى بيلينسكي عطف على مصيره، واستغرب عندما أخذ شيفتشينكو يشتم الإمبراطورة. والآن يدرسونه في أوكرانيا ككاتب أجنبي. ترجموا إلى الأوكرانية "تاراسا بولبو"، حيث يستبدلون عبارات القوزاق التي يلفظونها وهم يقتلون: "لتحفظ الأرض الروسية!"، بالهتاف بصوت عالٍ: "لتحفظ الأرض الأوكرانية!". تجادلت مرة مع الشاعر دميترو بافلتشكو، أحد رواد الاستقلال، فأكد لي أنه في زابوروجسكي سيتشي عاش الأوكارنييون وحدهم. ضحدته قائلاً: أولئك كانوا فلاحين فارين من روسيا. أعتقد أن الأدب الأوكراني يخسر من مثل هذه الاعوجاجات. لقد خرج إلى العالم من خلال اللغة الروسية.
فلاديمير بوندارينكو: أعتقد أنّهم يتجهون ليصبحوا شعباً إقليمياً ذا ثقافة إقليمية، لكنّهم اقتطعو الأرض، والروس وأي شعب آخر كالإمبراطورية العظمى. إنّهم ليسوا شعباً إمبراطورياً، وأعتقد أنّهم لن يهضموا ذلك الكم من الشعوب الغريبة. تناقشت مصادفة مع أحد قادتهم المتطرفين، قلت: كان عليكم أن تتخلوا بأنفسكم عن كل الأراضي التي يعيش فيها الموسكوفيين، وعن القرم، وأدويسا، والدنباس، لتعززوا استقلالكم الذاتي. لن تتم أوكرنة (من كلمة أوكرانيا ـ المترجم) الثقافة الروسية الإمبراطورية من أوديسا حتى القرم، ومن الدنباس حتى خاركوف، وحتى كييف نفسها. ويوجد الملايين من الأوكرانيين الجدد يعيشون في روسيا باحثين عن العمل، إنّهم بلا إرادة يتروسون (يصبحون روساً). لا أحد في أوكرانيا نفسها يقرأ الكتاب الأوكرانيين، تمعن في محال بيع الكتب حتى في كييف، وينتابك الذعر، وحتى لفوف. لا يوجد في أوكرانيا بكاملها شريط فيديو واحد باللغة الأوكرانية، لا يشترونه، والسوق لا يأخذه. في العهد السوفيتي كنت تجد الكتب باللغة الأوكرانية في الواجهة، أما الكتب باللغة الروسية فكانت في الزوايا، أما اليوم فالكتب الروسية في الصفوف الأولى.
إيغور زولتوسكي: عندما عشت في فاسيلفك، في القرية التي أقمنا فيها متحف غوغول، وجدت أناساً رائعين يعيشون حولنا، لم تنتابهم أية عداوة تجاه الروس. جسد واحد، أسرة كبيرة واحدة. والذي يحصل لها الآن ولغوغول يدعو للحزن والمرارة.
فلاديمير بوندارينكو: سنضطر إلى السفر إلى روما، حيث يوجد أيضاً العديد من الأمكنة الغوغولية. مما لا شك فيه أنّكم كنتم في شارع تريفي في روما، حيث يوجد توقيع غوغول في المقهى، الذي يصل سعر فنجان القهوة فيه إلى 5 يورو، حيث كتب "الأنفس الميتة". لم آسف على تلك الخمس يوروات كرمى لغوغول، جلست على كرسي تحت توقيع غوغول وشعرت بنفسي وكأنني في روسيا.
إيغور زولتوسكي: نعم في أي مكان عاش غوغول عاشت روسيا. وغوغل الروماني ـ هو غوغول الروسي الأصيل.
فلاديمير بوندارينكو: أنا ضد ذلك التصنيف وتلك الجدولة الأمريكية حول المراتب: أول، ثاني، ثالث... إذا أخذنا أربعة، أو خمسة من أكثر الكتاب الروس شهرة في العالم: غوغول، وتلستوي، ودوستيفسكي، وتيشخوف، وتورغينيف، ويمكن أن يكون ليسكوف (لا أعد الشعراء: بوشكين، وليرمنتوف، وتيوتشيف، وغيرهم)، فما الذي يميز غوغول من وجهة نظرك عن باقي عظماء أدبنا الروسي؟
إيغور زولتوسكي: أعتقد أنّه مع غوغول تبدأ مسيحية الأدب الروسي السوفيتي. طبعاً، فيودور دوستيفسكي ـ تلميذه، فجميع المواضيع التي طرقها في كتبه أخذها من غوغول. حدد غوغول جميع مواضيع روايات دوستيفسكي. فعالج في "الأمكنة المختارة من مراسلات مع الأصدقاء" ـ مسألة الخطر المخيف من انهاك وتجفيف عروق الشعب، ومسألة "عجرفة العقل"، ووبال التعصب. وهنا كان غوغول، على أبعد حد، في كتاباته النثرية شاعراً. كان دوستيفسكي طبيباً وعالماً نفسياً، لقد غاص في أغوار وخبايا وأسرار النفس الإنسانية، غير أنّ الإنسان لا يستطيع أن يبقى في الأغوار، لأنّه يصاب بالعمى من العتمة الدائمة. السلبيون، والمتشككون، والذين يعيشون في الأعماق، أكثر إقناعاً عند دوستيفسكي من الذين يواجهونهم. هذا بالتحديد ما يفسر شعبية دوستيفسكي في الغرب. ترتبط شعبيته هذه ليس في أنّ دوستيفسكي فضح "الشياطين" وتنبأ بالمستقبل، فحسب، بل وفي أنّ أبطاله السلبيين قريبون من الوعي المعاصر للإنسان الغربي. إنّه شكاك ومحبط. إذا استوطن وسواس في نفس كل إنسان، فبماذا سيأمل. كتبت مقالة عن تلستوي وتشيخوف. وبالتحديد عن علاقاتهما الروحية. أنتم، يا فولوديا، ذكرتم نيقولاي ليسكوف. إنّه كاتب عظيم. كتب ليسكوف "الناسك"، وبالمناسبة، فقد نشر في المجلة نفسها التي نشر فيها كتاب "الشياطين" لدوستيفسكي، في مجلة "روسكي فيستنيك". لم يكتب دوستيفسكي مثيلاً له. من هنا تتفجر حزمة الضوء. ومن الممكن، أنه لهذا السبب لم يكن دوستيفسكي محبوباً من قبل الشعب ككاتب. أما تلستوي فقد كان. وليرمنتوف، وبوشكين. وحتى غوغول، وتشيخوف... أما دوستيفسكي فلم يحبه الشعب كواحد من صفوفه، لم يقرأه ككاتبه. إنّه كاتب الإنتلجنتسيا. توجد استثناءات بالطبع. "قصة عن بطل شاب"، التي كتبها في سجنه في قلعة بيتروبافلوفسك. عمل رائع. عن الحبّ الأول الذي عالجه صبي لامرأة ناضجة. يشبه الأعمال التورغينيفية. (نسبة إلى الكاتب الروسي تورغينيف ـ المترجم). أعلن دوستيفسكي من بداياته أنني سأبخر الجميع وأجعلهم هباء. (أي كل من سبقه وعاصره). نعزو ذلك لحماس الشباب. لأنّ خط الأدب الروسي كان واحداً بغض النظر عن أي شيء. ويُبعث غوغول في تلستوي. في اليوميات. يتركز السخط والتبرم على الفن. ووحده لا يكفي لتغيير شيء ما في الحياة.
فلاديمير بوندارينكو: هذا، من وجهة نظري، تقليد أدبي روسي صرف. لم ينتصر الجمال أبداً. ها هو إيغور سيفيريانين يختتم بأشعار عن الوطن. وها هو تشيخوف يجول في جزيرته ساخالين. وداس مايكوفسكي على عنق أغنيته الشخصية. ولم يسمح ألكسندر سولجينيتسين لنفسه أن "تتدلل وتلهو" في الزخرفات الفنية الصرف. هذا، ولم أتحدث بعد عن ليف تلستوي، الذي رفض إبداعه الشخصي، مقتحماً ومتوجهاً إلى الشعب مباشرة. ولم يكتب نيقولاي غوغول مصادفة "أمكنته المختارة..." يبحث العباقرة والمبدعون الروس، حتى أقصى حد في الإبداع الفني، عن سبل الحديث المباشر مع شعبهم. وليس مصادفة أن يوسف برودسكي المحب للجمال كتب أشعاره "الشعب"، التي قارنتها آنا أخمتيفا بالأشعار العبقرية.
قلتم، يا إيغور بتروفيتش، إنكم أتيتم إلى نيقولاي غوغول للتنفس من قتامة وظلامية الأدب الجاري. ها قد أصبح القرن العشرين الآن تاريخاً. "لا يُرى الوجه، وجهاً لوجه، بل يرى الكبير عن بعد". ماذا تستطيعون القول عن الأعمال الأدبية العظيمة في القرن العشرين، من على بعد القرن الواحد والعشرين؟ ألا يمكن أن يكون أدب القرن العشرين بمجمله ليس أقل أهمية من أدب القرن التاسع عشر؟ أم أنكم تنظرون بشك وريبة إلى المحصلة الأدبية في القرن العشرين؟
إيغور زولتوسكي: أثمن عالياً في القرن العشرين أدب "قصص الريف"، التي كتبت عنها كثيراً. لقد أطال هذا الأدب حياة اللغة الروسية لمئة عام، هذه اللغة التي تموت حالياً مع الفلاحين. هؤلاء الكتاب الرائعون هم فاسيلي بيلوف، وفالنتين راسبوتين، وفاسيلي شوشكين، وفيكتور أستافيف، وفيودور أبراموف. لقد تابعوا التقليد العظيم لمن سبقهم.
أما القامة الكبيرة في القرن العشرين التي تعادل، من دون شك، غوغول ودوستيفسكي ـ فهو أندريه بلاتونوف. ابن حرفي السكك الحديدية، الذي آمن بالثورة العالمية، وعدّ الشيوعيين ـ أناساً هبطوا على الأرض بإرادة المسيح. رأى في لينين رسولاً من الله. لقد أكسبت المأساة والقنوط والإحباط التي مرت بأندريه بلاتونوف، والذي فهم ماذا حصل، أكسبت جميع كتبه العظمة. لقد انتقل إلى القرن الواحد والعشرين من غير خسائر، خلافاً للكثيرين من معاصريه. إنّه القمة العليا في الأدب الروسي في القرن العشرين... يأتي بعده "الدون الهادئ" لشولوخوف، الذي أحبّه كثيراً أيضاً. وفلاديمير نابوكوف، خاصة في روايته "بن فينيستر" التي صدرت باللغة الروسية تحت اسم "تحت إشارة المولودين غير الشرعيين". يعد البعض ميخائيل بولغاكوف الكاتب العظيم في القرن العشرين. أعتقد أنّه روائي رائع. تنحني رواية "المعلم ومارغرايتا" التي يطريها الجميع، بلا قيد ولا شرط، أمام العمل الكلاسيكي "الحرس الأبيض".
فلاديمير بوندارينكو: هنا أنتم تتطابقون في الرأي مع يوسف ستالين. بالمناسبة، كما تذكرون كنا قد ناقشنا كل هذه المآرب الشيطانية عند بولغاكوف في استيودوهاتنا الأدبية، حيث وضعت الرواية المسيحية بالمطلق "الحرس الأبيض" في مواجهة رواية "المعلم ومارغريتا". بدا له الشيطان أكثر نبلاً وشرفاً وأصالة من السلطة السوفيتية.
أيغور زولتوسكي: أذكر مناقشاتنا. لكن نجد في القاموس الموسوعي الذي صدر منذ ثلاث سنوات صورة لبولغاكوف، ولا نجد صورة لبلاتونوف.
فلاديمير بوندارينكو: قد لا نكون ابتعدنا زمنياً بعداً شاسعاً عن الذين غادرونا. فضلاً عن أنّ العملية الحالية لنشر روح الهزل والفكاهة عامة تقود الشعب للابتهاج والإعجاب بالهجاء والسخرية البوغالكوفية. يقارنون رواية "العجل الذهبي" لـ إيلف وبيتروف مع رواية "المعلم ومارغريتا" من حيث المستوى. فكرت، قد يكونون على حق، وهاتين الروايتين في المستوى ذاته، وموضوعهما واحد. كان فادي بولغارين في وقت ما أكثر شعبية من بوشكين، وبوبوريكين أكثر شهرة من تشيخوف. أعتقد، مع احترامي الفائق لميخائيل بولغاكوف، سيتم تحديد مكانته القانونية في الأدب مع الزمن. طبعاً، بعد شولوخوف وبلاتونوف. بل وبعد نابوكوف. فالناس الحاليون يقرأون "المعلم ومارغريتا" على الأرجح، نتيجة محاولاتهم الصادقة تماماً والدراماتيكية لإعادة إنعاش تاريخ المسيح، وليس للاستمتاع الهرطوقي بدروب الحملة الفولوندوفية (نسبة إلى فولاند وأتباعه ـ المترجم).
إيغور زولتوسكي: تم تصوير الخط الإنجيلي في الرواية من منظور فني وأرضي. ففكرة أنّ الله يرسل الشياطين إلى الأرض لتحقيق العدالة، بحد ذاتها مزدوجة المعنى. نستنتج أنّ الشر وحده يمكن أن ينتصر على الشر. ما الإيجابي في الحملة الفولندافية، إنّهم يقطعون الرؤوس، يصيبون الناس بالأمراض المميتة. لم يبارك المسيح ابداً هذه الأعمال.
فلاديمير بوندارينكو: هل يسمح بالتوجه إلى المسيح في الأدب الدنيوي، من وجهة نظركم، يا إيغور بيتروفيتش؟ أيوجد مثال إيجابي؟
إيغور زولتوسكي: كنت في دير نوفو ـ فالامسك في فنلندا، عندما علّمت هناك ثلاث سنوات وتوجهت بمثل هذا السؤال إلى رئيس الدير. قال: "يجب الإبقاء على المسيح في "الإنجيل" أنا أتفق معه تماماً. يمكن الشك في ظهوره في "أسطورة المعذب". احتاج دوستيفسكي إلى تقديم المسيح إلى محكمة الواقع. أنت تريد الحرية، أما الناس فيحتاجون إلى الخبز وليس إلى الحرية، يقول له القاضي. إنّها فكرة عصرية تماماً. الحرية من أي شيء، ومن أجل أي شيء؟ لا جواب عند المسيح على هذا السؤال حسب دوستيفسكي. لكن المسيح لم يعد الحرية نزوة أو اتباعاً للهوى، في رأيه الحرية العليا ـ هي التزام الحدود الذاتية. ولهذا السبب أعتقد أنّه يجب أن يبقى المسيح في "الإنجيل".
فلاديمير بوندارينكو: تحدثنا عن روسيا المعاصرة. عرفنا في القرن العشرين محاولتين لرأسمالة روسيا. انتهت الأولى في (تشرين الأول) أكتوبر 1917. كيف ستنتهي الثانية؟ علماً أنّ الرأسملة في بداية القرن العشرين سلكت تقريباً الطريق الحالي نفسه. المسائل الإجرامية والفاسدة نفسها. أعترف، نتيجة معرفتي غير الضعيفة بالغرب، أنني أقف موقفاً إيجابياً تماماً من الرأسمالية السويدية، والدانماركية، والألمانية. وأقف موقفاً آخر من النموذج الأمريكي، الأكثر وحشية، وقساوة حتى الآن. لكنني أفهم أنّه لا النموذج السويدي، ولا الدانماركي، ولا الألماني، ولا حتى الأمريكي يلائمنا. من غير المعقول أخذ جميع الأنظمة الألمانية، ولا نمط الحياة الألماني ولا القوانين ونقلها إلى أراضينا. لتحقيق ذلك يجب إسكان روسيا بالألمان، وفي الواقع يغادرنا آخر الألمان من بوفولجي. من الضروري، على الأرجح، طرد جميع الناس الروس وإسكان شعوب أخرى مكانهم، عندئذ يمكن بناء الرأسمالية. أمن الممكن أن تكون تلك اليوتوبيا السوفيتية الدموية القاسية، والمقحمة في رأس الإنسان الشرقي، ساهمت في إطالة عمر روسيا المقدسة قرناً آخر من الزمان؟ لقد تابع المسيحيون المعذبون، مع استشهادهم وآلامهم الإيمان بالكنيسة الأرثوذكسية. كيف ستنتهي التجربة الحالية القاسية المرة؟ وجد أمل عند الشعب، في ذلك الحين، في العهد السوفيتي، حتى في ظل القمع، وتحديد الحريات، وكما تعترفون، وجد التفاؤل، وجدت أحلام بالسعادة العالمية، ولو كانت طوباوية. أما اليوم فالشعب يموت، يتم نفي وتجاهل الأخلاق، لا توجد ثقة ولا إيمان في أي شيء، حتى الأغنياء لا يثقون بالمستقبل، ويبتاعون الملكيات في أوربا. وماذا لو سمحوا للنظام السوفيتي بالتطور والارتقاء؟ تعلمون أن المسيحية عرفت دواوين التعذيب، وهي لم تنف المسيحية القائمة. كنا في مرتبة أعلى من الصين في جميع المجالات، والآن تعطي مقاطعة صينية واحدة دخلاً أعلى من روسيا بمجملها. نحن الآن نحسد مراكز العلوم الهندية. وقريباً سنحسد إثيوبيا والصومال. ألم يكن بإمكاننا الانتقال حتماً إلى نموذج الاشتراكية المسيحية من دون كل تلك الثورات الليبرالية في عام 1991؟ أما كنا سنسبق، عندها، العالم كله تطوراً ومكانة أخلاقية؟ ألم يحن الوقت للاعتراف بقيمة التجربة السوفيتية، حتى ولو كانت ثقيلة؟ عندئذ، آمن الجميع في العهد السوفيتي، من سولجينيتسين وساخاروف حتى بريجنيف وأندروبوف بمستقبل ما لروسيا. أما الآن فإنّ أغلب السكان، وحتى الكثيرين من قادتنا الروحيين لا يؤمنون بمستقبل روسيا. أنا واثق الآن، أنّه لولا السلطة السوفيتية لقضي على روسيا منذ مائة عام تقريباً، ولو خسرت الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية ـ المترجم) لدفن العالم كله معها وتحتها. ليس مصادفة أن يحتفظ اليهود الأذكياء في إسرائيل بصورة ستالين في بيوتهم. لولاه لما بقوا أمة على الإطلاق. وحتى نحن لما بقينا. وها أنا أسألك، يا إيغور بيتروفيتش، حتى ولو تعرض ذووك للقمع، وبالمناسبة فإن والدي أمضى العشر سنوات المقررة في مشروع بناء سكة حديد بايكال آمور في سيبيريا وفي الشمال الروسي، ومع ذلك ألم يكن من الأفضل المحافظة على السلطة السوفيتية؟
إيغور زولتوسكي: أتعلم، يا فولوديا، حصل ما يحصل عادة في التاريخ. يأتي الناس بنوايا حسنة، وينتهي الأمر بالدمار وإسالة الكثير من الدماء. حافظت السلطة السوفيتية ، على أية حال، على المحور الشاقولي (الحامل) الروحي الذي وجد دائماً في روسيا. احتلت الفكرة والقيم الروحية المرتبة الأولى، أما المال والنجاح فقد كان في مرتبة أدنى كثير. والآن تم قلب هذا المحور الشاقولي (الحامل). وأصبح مدمراً وغريباً عن التقاليد الروسية، وعن كل ما عاشت روسيا لقرون طويلة بفضله. الآن تم تدمير كل شيء في الروح وفي المجتمع بشكل أكثر جدية مما حصل بعد عام 1917. أين يذهب الإيمان المقدس: ليس إلى الدير، بل إلى المناسك والخلوات. يجري فصل الثقافة عن الكنيسة، وهذا أمر مخيف، أيضاً، بالنسبة لثقافتنا. حصل الفصل منذ أيام بطرس... لكن الأدب الروسي العظيم حاول مجدداً توحيد الثقافة والمسيحية. ومادام الإيمان المسيحي كامناً في الروح، يبقى الأمل في مستقبل روسيا موجوداً، وأصبح الأدب، حسب كلام غوغول "درجة غير مرئية إلى المسيحية".
فلاديمير بوندارينكو: ألا يمكن أن يكون الأدب السوفيتي، وبالأصح الأدب الروسي في العهد السوفيتي، قد أملأ في وعي الناس المسيحية المفقودة أو المقموعة، وكان تلك "الدرجة غير المرئية" إلى الله؟ ألا يمكن أن تلخيص عظمة الأدب في العهد السوفيتي في المحافظة على روح المسيحية؟ ها قد أقام فيكتور إيروفييف ومن على شاكلته "مأتماً تأبينياً على روح الأدب السوفيتي"، وتبين أن ذلك كان مأتماً على روح الروح الروسية القتيلة. ألا يمكن أن نعيد تقييم عظمة الدور الروحي الذي لعبه أدب القرن العشرين كما يجب؟
إيغور زولتوسكي: حبّذا لو كُتبت مقالةٌ تحت عنوان: "مأتم على روح أنتي ـ أدب (معاداة الأدب)".
فلاديمير بوندارينكو: حتى الأدب المعادي للسوفيتية كان جزءاً من الأدب السوفيتي، كانت فكرة أدبية رفيعة، صراع أفكار. ما يثير الخوف والهلع، والشعور بالخطر، هو الأدب الفيزيولوجي (عن الجسد) الحالي، أدب السقوط الشامل للإنسان. هذا فعل شيطاني حقيقي، أخطر من أي تجديف بدر عن بلوك أو يسينين.
يوجد هواة ومحبو وسم كل ما هو عبقري باسم: "أدب معاد للسوفيت"، وكل ما هو تافه بـ"أدب سوفيتي". يا لها من سخافة تامة. وجد أدب واحد في القرن العشرين بكل مآسيه ومعاناته، بكل ما فيه من "مؤيد" و"معارض": "الاثنا عشر" لبلوك، و"معسكر البجع" لتسفيتافا، و"الدون الهادئ" لميخائل شولوخوف، و"شمس الأموات" لإيفان شميلوف. وكتب فادييف، وكاتايف، ليونوف وباوستوفسكي، كانت كتب أفكار. تقدم اليوم جميع القنوات الحكومية بوقاحة وسفه أدب التفاصيل الفيزيولوجية (عن أعضاء جسد الإنسان) أدب دود الأرض. وهذا أكثر خطراً من أي أدب "سوفيتي"، أو "معادي للسوفييت". يصورون على هذه الخلفية، بل وأكثر نفوراً، القارة المنصرمة من أدب المرحلة السوفيتية.
إيغور زولتوسكي: ساهم الأدب الروسي في العهد السوفيتي بإزالة الجليد عن روح الإنسان الروسي، في سبيل تجاوز المرحلة القاسية من الحرب الأهلية والتعاونية. وللتخفيف على روح المقاتل الذي شارك بلا إرادة في قتل العدو. المرحلة المتأخرة من العهد السوفيتي كانت أكثر إنسانية من المرحلة الحالية. القادة الليبراليون، أناس أكثر قسوة من جماعتنا: أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية ذوي اللكنة. كنت قد حدثتكم عن غيورغي ماركوف: وزير، وعضو في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، ومع ذلك استطاع أن يتعاطف، وقدم المساعدة. لم أر مثل هذه المساعدة من قبل القادة الليبراليين الأدبيين. وبالمناسبة، إنّهم (الليبراليون الجدد ـ المترجم) لم يكونوا لطيفين، ومتعاونين حتى في مرحلة شبابهم "اليسارية". أحببت فولوديا ماكسيموف، لأنّه كان إنساناً مختلفاً تماماً. امتلك الجرأة للقول: "أشعر بنفسي مذنباً"، وهذا ما لا يقوله أي ليبرالي. لقد حمل أدب كل من: فيودور أبراموف، وفاسيلي بيلوف، وفالنتين راسبوتين ـ على أية حال، بحراة كل ما هو ضروري للناس. وكما قال أندريه بلاتونوف: "اعطوا التاريخ مدة ولتكن 50 سنة كي يتنفس، وكل شيء يتصلح". وهذا ما لا يحصل حتى الآن. لم تكن من حاجة لهذه الثورة الليبرالية، كان النظام سيتطور ويرتقي حتماً، ولم نكن سنصل إلى هذه الروح القاسية. الحقد يقود دائماً إلى المأزق.
فلاديمير بوندارينكو: أنتم، يا إيغور بيتروفيتش إنسان القرن العشرين بلا شك. كيف مرّ هذا القرن على روسيا؟
أيغور زولتوسكي: كان القرن العشرون، من وجهة نظري، آخر قرن رومانسي في تاريخ روسيا. على الرغم من الاختلاط والتعقيد الذي حصل. ما هي رافعة الرومانسية السياسية؟ إنّها تكمن في إنهاك الشعب وتجفيف عروقه. وازدهرت الرومانسية الثورية على موجة تجفيف عروق الشعب، تلك الرومانسية التي قدمت، من جهة، أمثلة عالية حتى في الفن، وفي العلم، والسياسة، ومن جهة ثانية ـ الإعدامات والدم. لا أعرف قرناً آخر في التاريخ الروسي، باستثناء عصر الانشقاق، قدمت فيه بهذه الكثافة القرابين والأضاحي من الشعب. لقد أنقذت تلك القرابين العالم. لم تنقذه من هتلر فقط. بل من الدمار العام وانعدام الأمل والثقة التامة، لمدة طويلة نسبياً في الحد الأدنى. تذكروا سنوات ما بعد الحرب. ازدهار الفن، فيليني، والواقعية الجديدة، والشعراء الجدد، والنهوض في صفوف الشعب ذاته، على الرغم من أن المعسكرات كانت لما تزل منتشرة في كل مكان. أتذكر أنني كنت في محطة توليد كهرباء كوبيشيفسكي، سيجت حفرتها بالكامل بالأسلاك الشائكة، وبالحفارات المتبخترة، وعلى كامل المحيط رفعت لوحة: "عاش ستالين!". اختلط كل شيء. التضحية والجريمة، البطولة والإعدام، الطاقة العليا والمعاناة. وتضحية الشعب الروسي قبل كل شيء، التي من دونها لما ربحنا الحرب أبداً. لم يكن أي شعب ليقدم على تلك التضحيات. لكن القرن العشرين ـ هو التضحية القصوى، الممزوجة بالبطولة، والمأساة، والإعدامات والقمع. قدمت هذه الرومانسية قممها في الأدب، والسينما، وفن العمارة ـ في كل مكان. وقدمت قمم الروح الإنسانية، والنهوض الشامل، الذي استمر حوالي نصف قرن، حتى غاغارين بالتمام. لكن كانت هناك أيضاً ضراوة وقساوة وحشية للرومانسية. رمى الشعب الروسي بنفسه في موقد التاريخ. لماذا نجد اليوم هذا التعب والخمول وعدم الاكتراث؟ انهكت القوى. نحتاج أن نعيش حياة هادئة لجيلين ـ أو ثلاثة أجيال. تكفينا ثورات. يكفينا تنكيل وقمع وحروب أهلية. كيف نوقف دمار التهتك الباخوسي؟
تحتاج روسيا إلى أناس عظماء، كي يوحدوا الشعب.