الشيوعيّة قَدَر البشرية


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 5750 - 2018 / 1 / 7 - 14:43
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

الشـيوعية قَدـَرُ البشرية

لا نملك هنا سوى أن نستذكر النابغة العبقري وحيد الألفية الميلادية الثانية كارل ماركس وقد اكتشف قوانين جدل الطبيعة في التطور الإجتماعي وما كانت لتكتشف قبل تكامل النظام الرأسمالي الذي شرحة كارل ماركس تشريحاً دقيقاً وشاملاً ووجد في المجتمع الرأسمالي الطبقات التالية ..
1. الطبقة الارستقراطية العليا وتتشكل من فلول الإقطاعيين ومالكي العقارات
Aristocracy
2. الطبقة الوسطى (Middle Class)وتتشكل من ..
أ – البورجوازية الرأسمالية مالكي المصانع .
Capitalists
ب – البورجوازية الوضيعة ومنها الأطباء والمهندسون والمثقفون والفلاحون و"الجنود".
Petty Bourgeoisie (Lower Middle Class)
3. الطبقة الدنيا ومنها ..
أ‌- البروليتاريا الصناعية .
Industrial Proletariat)
ب‌- البروليتاريا العاطلة أو الرثة وتتشكل من الأفاقين والمجرمين وغير المهنيين .
Lumpenproletariat
لكن العبقري وحيد الألفية الثانية لم يتركنا حيارى في وسط هذه الشبكة من أسديتها المتصارعة حتى الفناء فخرج من هذا التشريح العلمي الدقيق لهيكل المجتمع ليقول لنا ..
“Of all the classes that stand face to face with the bourgeoisie to-day, the proletariat alone is a really revolutionary class. The other classes decay and finally disappear in the face of modern industry the proletariat is its special and essential product.”
يقول ماركس أن من بين جميع الطبقيات التي تواجه البورجوازية (يقصد ماركس الرأسماليين) وجهاً لوجه البروليتاريا وحدها هي الطبقة الثورية حتى النهاية . أما الطبقات الأخرى فهي بفعل الصناعة الحديثة تتعفن وتختفي في النهاية أما البروليتاريا فهي الإنتاج الجوهري المرافق الخاص للصناعة .
لكن ما الذي جعل ماركس يؤكد جملة الحقائق المستبطَنة في هذه الفقرة ؟
الحقيقة الأولى التي استولت على فكر كارل ماركس هي أن النظام الرأسمالي نقل البشرية نقلة نوعية ذات آفاق مفتوحة لتقدمها غير المحدود لتميزه بالمواصفات التالية ..
1 . تطور نوعي متسارع لأدوات الإنتاج .
2 . استخدام الطاقة الصناعية مثل الفحم والبترول والكهرباء والطاقة النووية .
3 . توظيف الحد الأقصى من قوى العمل المتاحة في الإنتاج .
4 . الإنتاج بالجملة وتوفير أسباب الحياة لغالبية الشعب .
بجانب حسنات هذا النظام هناك مساوئ كثيرة أهمها إثنتان تحدان من تطوره وتعميمه على الناس كافة ..
1 . ملكية أدوات الإنتاج لأشخاص بعينهم .
2 , فائض القيمة الذي ينهبه الرأسماليون من إنتاج العمال .

لكل ذلك رأى ماركس أن تطهير النظام الرأسمالي من مساوئ التناقضات فيه يقع حصراً على البروليتاريا لأنها قوى الإنتاج الوحيدة فيه، ولذلك كتب ماركس ورفيقه إنجلز "البيان الشيوعي" 1847 منادياً .."يا عمال العالم اتحدوا فلن تفقدوا إلا أغلالكم" وهو ما يعني أن الثورة التي تقضي بتطهير النظام الرأسمالي من مساوئه تقع حصراً على البروليتاريا، أما سائر الطبقات الأخرى فمصيرها التعفن والتلاشي .

الفكرة التي وردت في هذه الفقرة الماركسية والتي اكتسبت اليوم الأهمية القصوى ولم يُضوَ عليها بعد هي أن مختلف الطبقات التي تواجه النظام الرأسمالي وجهاً لوجه ستتعفن وتختفي (decay and disappear) بحكم شروط الصناعة الحديثة التي لا تشارك فيها الطبقات الأخرى غير البروليتاريا بأي قسط .
بغض النظر عن الإختلاف في قراءة الأحداث في روسيا في عامي 1917 و 1918 فقد تمكن الشيوعيون البلاشفة
بقيادة لينين من إعلان الثورة الإشتراكية العالمية، التي كان ماركس قد نادى بها في منتصف القرن التاسع عشر، في 6 مارس 1919 ونادى عمال العالم لأن يشاركوا في الثورة من خلال أحزاب شيوعية لتحطيم النظام الرأسمالي في العالم توطئة لبناء الاشتراكية والعبور إلى الشيوعية .
الدول الرأسمالية الإمبريالية لم تتوان في مواجهة "الخطر" الشيوعي خاصة وأن الشيوعيين في روسيا كانوا قد سحقوا خلال العام 1918 جميع الطبقات المعادية المتجذرة في روسيا ؛ فسرعان ما قامت أربع عشرة دولة إمبريالية وتابعة بتجهيز تسعة عشر جيشاً مجهزاً بأحدث التجيزات دخلت إلى روسيا "لخنق البولشفية في مهدها" فكان أن تمكنت البروليتاريا الروسية بقيادة البلاشفة من خنق جميع هذه الجيوش وطردها مهزومة من بلادهم .
ما فات على جميع الدارسين لثورة أكتوبر وتداعياتها هو أن الدول الإمبريالية بعد هزيمتها الفاضحة أمام البلاشفة فيالعام 1921 قد غيرت من أولوياتها فبات الأولى لديها هو مقاومة الشيوعية وليس نهب المحيطات . بقيادة المخابرات الإنجليزية (MI6) استولى بنيتو موسوليني على السلطة في إيطاليا 1922، وقام حسن البنا بتشكيل تنظيم الإخوان المسلمين في مصر 1928، واستولى أدولف هتلر على السلطة في ألمانيا 1933 . استخدمت بريطانيا وفرنسا سياسة الترضية (Appeasement Policy) افي ثلاثينيات القرن الماضي مع المانيا النازية وإيطاليا الفاشية وسمحت بريطانيا لموسوليني بالإستيلاء على الحبشة والقرن الأفريقي التابعين لها، وقامت فرنسا بمحاصرة الحكومة الجمهورية في اسبانيا لصالح الجنرال الفاشي فرانسيسكو فرانكو، وكانت أخيراً الفضيحة المجلجلة في مؤتمر ميونخ 1938 حيث بارك رئيس وزراء بريطانيا نفيل تشمبرلين ورئيس جمهورية فرنسا إدوارد دالادييه إقتطاع أكثر من نصف تشيكوسلوفاكيا وإلحاقه بألمانيا الهتلرية .
ما كانت الإمبراطوريتان العظميان تتراجعان كل هذا التراجع أمام النازية الهتلرية والفاشية الموسولينية إلا لأجل إقامة مصدات لتيار الثورة الشيوعية الجارف . من سخرية التاريخ حقاً هو أن مشاريع المخابرات البريطانية في إقامة السدود بوجه التيار الشيوعي الجارف إنقلبت وإذ بها العدو المواجه للإمبريالية البريطانية والفرنسية فكان هتلر أن احتل باريس وطرد بريطانيا من القارة الأوروبية لتحتمي ببحر المانش وظلت بريطانيا تحارب ايطاليا على شواطئ المتوسط طيلة الحرب العالمية الثانية وما كانت لتتغلب عليها إلا بمساعدة الولايات المتحدة .

نعود إلى الفكرة التي وردت في الفقرة الماركسية أعلاه واكتسبت أهمية قصوى لدى البحث ليس في مصائر الثورة الشيوعية فقط بل وفي مصائر العالم كله أيضاً ألا وهي تعفن واختفاء الطبقات الأخرى المواجهة للرأسمالية عدا البروليتاريا . خلال فترة التصنيع الكثيف السريع في الاتحاد السوفياتي 1928-1941 كادت طبقة البورجوازية الوضيعة أن تتعفن وتختفي بعد أن كانت قد اختفت الطبقة الأرستقراطية وطبقة البورجوازية الرأسمالية وطبقة البروليتاريا الرثة .

في الساعة الأولى من 22 يونيو خرق هتلر اتفاقية عدم الإعتداء مع الإتحاد السوفياتي بغير سبب وبصورة مفاجئة هاجم الإتحاد السوفياتي بجيوش نازية جرارة معبأة بالحقد الأعمى على الشيوعية مما ألحق خسائر فادحة بالاتحاد السوفياتي وتوقع المراقبون سقوط الاتحادةالسوفياتي قبل نوفمبر حين وصلت جيوش هتلر حواف موسكو . الأمر الذي رتب على دولة البروليتاريا أن توقف مسيرتها الصناعية وتنقل مصانعها إلى شرق الأورال ليعمل فيها النساء والأطفال في صناعة الأسلحة ويتجند العمال متطوعين في الجيش وزاد عددهم على 15 مليون جندياً . كل هذا بالإضافة إلى التهديم الهمجي للعمار السوفياتي في المناطق الواسعة المحتلة التي اشتملت على أوكرانيا وروسيا البيضاء وجزء كبير من روسيا قد عمل على خلخلة دولة البروليتاريا السوفياتية وأوقف تعفن طبقة البورجوازية وبدل إختفائها زودها بجيش مليوني يحترف العسكرة وفي ترساناته أحدث وأقوى الأسلحة يقودة عشرات المارشالات ومئات الجنرالات لم تقوَ عليه أعتى قوة في الأرض .
طبعاً في السنوات الخمس التالية لوقف الحرب تحملت الشعوب السوفياتية بكل طبقاتها مهمات إعادة الإعمار وقد أنجزتها بزمن قياسي . بعدها في العام 1951 دعا ستالين لعقد ندوة موسعة تضم قادة الحزب ومختلف الخبراء في الاقتصاد السوفياتي . الإتجاه العام لتلك المناقشات كان يصب في وجوب تسعير الصراع الطبقي ووصل الأمر إلى المطالبة بإصدار الحكومة أمراً تلغى بموجبه طبقة الفلاحين (الكولخوزيين) وكان فياتشسلاف مولوتوف على رأس هذا التيار غير أن ستالين عارض بقوة ذلك التيار مؤكدا أن تسعير الصراع الطبقي في تلك الظروف من شأنه أن يشكل خطراً حقيقياً على الثورة . كان ستالين يقرأ بعمق التشريح الطبقي الحقيقي للمجتمع السوفياتي في تلك الظروف الإستثنائية وقد تأكدت مخاوف ستالين التي عبر عنها أيضاً في المؤتمر العام التاسع عشر للحزب في أكتوبر 1952 حيث في العام 1953 جرى الإنقلاب الفعلي على الإشتراكية .

في 28 فبراير 1953 دعا ستالين أربعة أعضاء في المكتب السياسي لتناول العشاء معه في المنزل وهم لافرنتي بيريا وجيورجي مالنكوف ونيكيتا خروشتشوف ونيقولاي بولغانين – برأيي الخاص أن الدعوة كانت دعوة أمنية لأن التحقيقات في مؤامرة الأطباء اليهود في مصحة الكرملين بدأت تشير إلى أن لبيريا وزير الأمن له ضلع فيها . ثلاثة من الأربعة شاركوا في اغتيال ستالين بالسم حيث أستدعي مولوتوف للحضور صباح الثاني من مارس لرؤية ستالين ينازع الموت بعد أكثر من 24 ساعة فوجد الثلاثة المتآمرين ينتظرون ستالين يفارق الحياة دون أن يستدعوا طبيباً للإسعاف ولما سألهم مولوتوف لماذا انتظروا 24 ساعة دون أن يستدعوا طبيبا كان جوابهم ذلك بسبب الثلوج التي تحول دون وصول الطبيب فكان أن سألهم مولوتوف سؤالاً كاشفاً.. وكيف وصلتم أنتم !؟
الثابت حتى في حينه أن بيريا ومالنكوف وخروشتشوف تآمروا على حياة ستالين الذي كان يخطط للتخلص منهم خلال سنين قليلة وقد تفاخر بيريا بأنه هو من خلّص على ستالين . ما لا يمكن الجزم فيه هو أن هؤلاء الثلاثة أعداء ستالين هم أعداء الشيوعية، لكنهم بالتأكيد خططوا للتخلص من ستالين الذي كان يراقب كل صغيرة وكبيرة في الدولة ليحتلوا مكانته العظمى الهائلة .
لم يكن غير ستالين قادراً على مواجهة الطبقة البورجوازية الوضيعة التي تعاظمت في المجتمع السوفياتي بعد الحرب فكان أن شرع ستالين بمعالجة هذا الأمر بالخطة الخمسية 1951-1955 غير إن إخلاء كرسي ستالين بالإغتيال لم يتواجد في قيادة الحزب شخص آخر بحجم ستالين . كان خلفاؤه أقزاما لم يكن لهم نصيب غير الإلتحاق بالعسكر وهم القوة الأقوى بعد ستالين . في اليوم التالي لرحيل ستالين أخذ العسكر يتولون أمور البلاد وبات الحزب الشيوعي ذيلاً للعسكر وهو ما اعترف به خروشتشوف في نهاية مذكراته .
في العام 1922 كتب لينين في مؤلفه "الضريبة العينية" يقول ان البورجوازية الوضيعة السوفياتية هي العدو الرئيسي للإشتراكية . لم تتعفن وتتلاشى طبقة البورجوازية الوضيعة خلال التصنيع السريع في الثلاثينيات والذي لم يمتد لأكثر من 12 عاماً فقط، بل انتعشت وازدادت قوة ونفوذاً بفعل الحرب مما مكنها من تولي مقاليد الأمور في البلاد بعد رحيل ستالين واستخدام الحزب الشيوعي ليس أكثر من ستارة تخفي إنقلابها على الإشتراكية .

ليس بلا سبب كان ماركس قد أكد أن البورجوازية الوضيعة ستتعفن وتتلاشى في غمرة الصناعة الحديثة . فالبورجوازية الوضيعة دورها وضيع جداً في الإنتاج ويمكن الإستغناء عنه في المجتمعات الصناعية المتقدمة ؛ فها نحن نرى روسيا التي كانت دولة متقدمة في الانتاج تسبق جميع الدول الأوروبية انتهت اليوم لتكون خلف إيطاليا بل هي أكثر تخلفاً إذ تعتمد على تصدير النفط والغاز بينما تعتمد إيطاليا على تصدير الصناعات المختلفة . وبالكاد كان للبورجوازية الوضيعة أي دور ملحوظ في الولايات المتحدة في خمسينيات القرن الماضي حين كانت أميركا أكبر دولة صناعية .
لا بديل في نهاية الأمر أمام البورجوازية الوضيعة مع التطور في مختلف المجتمعات سوى التعفن والتلاشي . إن لم يكن ذلك في روسيا قبل خمس سنوات فسيكون بعد عشرة، وإن لم يكن ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية قبل ثلاث سنوات فسيكون بعد خمسة .