ثنائية الحب والجنون (رزاق المخبل دين ودينار ودنبك) ح4


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5740 - 2017 / 12 / 28 - 21:32
المحور: الادب والفن     

((3))
بعد أن توفيت الجدة لم يعد لرزاق مكانا في البيت بعد أحتشاد النساء في البيت للتعزية، فقد ذهبت من كانت تستطيع وحدها أن تمنعه من الخرو للشارع، مضت أشهر عديدة وهو حبيس الدار وغرفته المظلمة ها هو لأول مرة يرى الشارع والدربونة والناس، لم يكن خروجه إلا أعلانا لحديث الهمس الذي كان يدور في المحلة (رزاق المخبل) أمامهم ليتحول الهمس إلى صراخ للأطفال وأعلان موت ذلك الشاب المؤدب الذكي الذي كان أمنية كل عائلة أن يكون لديها نسخة منه في أدبه وذكائه والهدوء الذي يميزه عن أقرانه.
حاول البعض أن يتقرب منه أو يعرف منه شيئا كانت ردة فعله دوما الصراخ وأحيانا محاولة الضرب، كان أي شخص يتقرب منه يشكل له هاجس من الخوف وردة فعل غير متوقعه فيهرب ليترك الأطفال تجري خلفه وهو تنادي (هيه هيه رزاق المخبل ... لابس عباة أمه ... أسليمة الي تطمه) فيرد عليهم برميهم بما يتيسر أمامه من حجارة أو أي شيء تلتقطه يده ويفر هاربا صوب المدينة القديمة، البعض يتهامس بما تردد من أنه كان ضحية حب أو سحر أو حتى عين أصابته بالحسد، وأخرون يعللون ذلك بفرط الذكاء الذي كان يحمله فجن به.
أبو عباس أو حجي فاضل كان كثيرا ما يحميه من غزوات أطفال الدربونة وأحيانا يحاول أن يرجعه للدار فيطيعه، ولكنه عجز أن يمارس هذا الدور أكثر لا سيما وأنه أكثر الأحيان مشغول في كسب رزقه، حتى عمته لم تستطيع التقرب إليه كثيرا فهو لم يعد يخاف أحد أو يطيع أحد، مشكلة أخرى أثارها حين يخرج هو التبحلق بالنساء الأئي يرتدين البوشيه لياأكد منها، فهو يبحث عن مريم بين تلك النساء، لا أحد يعرف سر تتبعه لتلك النساء حتى بنات الجيران (المبوشات) صرن يخشين الخروج ورزاق في الشارع.
يخرج رزاق كل يوم من صباحات الرب ليمكث قليلا في المكان يتفحص الأبواب والوجوه ثم يجلس قليلا أمام محل أبو عباس وهو لا يرتدي إلى ثوب خلق وبالي، في عينه للمتأمل الفاحص الكثير من الأسئلة ولكن ما من قارئ ولا من فهيم ليقرأ ما في تلك العيون من حزن، أحيانا يحاول أن يبدو هادئا ويتقرب من الحاج فاضل ويسأله لكنه يتلعثم ثم يبدأ بالخلط في الكلام بين ما هو موزون وبين ما هو غير مفهوم، لكنه في كل مرة ينهي الكلام بضرب جبينه بقوة يفهم منها الرجل أن رزاق قد لا يكون مجنونا بالحقيقة ولكنه يشير إلى حالة لا يريد لها أن تنكشف، فيجيبه (الله كريم وليدي الله ينتقم من الي كان السبب).
عمته رضية لم تعد قادرة على أن تبقى وحدها في البيت وأن تتحمل تكاليف المعيشة بعد فقدان والدتها وجنون رزاق، لذا أستشارت أبو عباس أن تبيع البيت وتنتقل إلى مكان أخر قرب أحد قريباتها، وجود رزاق وتصرفاته قد أثر عليها ولم تعد تستطيع مواجهة الجيران وخاصة ما يفعله بالنساء، حاول أن يثنيها عن قرارها ولكن كانت مصرة على هذا الأمر، رضخ الحاج فاضل ووعدها أن يجد لها مشتري مناسب لها وللمحلة فليس سهلا أن نستبدل جار العمر بمن لا نعرفه أو قد يكون غير مناسب للجيران.
رزاق عند خروجه من المحلة شوهد كثيرا يجري بلا هدف من مكان لمكان، وأحيانا أو يجلس لفترات طويلة في منطقة ما بين الحرمين أو حولهما، وأحيانا يتبع بعض المجموعات السياحية الدينية الإيرانية التي تزور كربلاء بالعادة، ثم يقفل راجعا إلى مكانه الأول يكلم نفسه وأحيانا كأنما يدافع أو يدفع شخصا ما يحاول ضربه، البعض يحاول أن يرمي له بعض النقود لكنه لم يلتقط منها شيئا ويتركها في مكانه ليهرب لمكان أخر، أكثر ما يتضايق منه الناس والمارة هو أصراره على البصق خلف كل رجل يرتدي الزي الديني ربما أنتقاما مما حصل معه، تم الشكاية ضده وحبسه مرات ولكن يطلق سراحه بعد حين كونه مجنون ولا عتب ولا مسؤولية عليه.
في حادثة لا ينساها البعض ممن شاهدها قام رزاق المخبل بصفع رجل دين معمم حينما شاهده يضرب شخصا أخر بنفس عمره، لقد أوسعه ضربا وأطاح به أرضا دون سبب معلوم، أقتادته الشرطة إلى نقطة حراسة ومن ثم أحيل للقضاء وقرر القاضي إيداعع مركز معالجة أو في مستشفى المجانين ولعدم حمله أوراق ثبوتية أو ما تتطلبه إدارة المستشفى وعجز الشرطة من إيجاد مكان قرر القاضي أطلاق سراحة بكفالة ضامن، القصة لم تنتهي هنا فأصبح رزاق مطاردا من الشرطة ومن أمن المنطقة كلما لمحوه هناك، بقي مطاردا لكنه يصر في كل مرة أن يفعل شيئا ما ليثير الأنتباه له.
في صباح أحد الأيام ألتقى صدفة رزاق بالشيخ عناد وهو يدخل إلى الدربونة في طريقه إلى محل أبوعباس، تبسمر رزاق في مكانه حتى مر الشيخ من أمامه وهو ينظر له بشزر وتعداه ففبصق خلفه كالعادة وهرب، حاول الشيخ أن يضربه بشيء لكنه سرعان ما أختفى تاركا الرجل يلعن الساعة التي دخل فيها هذا المكان، أستقبله الحاج فاضل بالسلام والسؤال عن غيبته وأحواله، بادره أيضا بسؤال متقابل متى يرى هذا المعتوه وقد أختفى تماما من حياته، دار الحديث مطولا وأنتهى في موضوع بيت الحجية وفرصة شراءه لعدم وجود مشتري له للآن.
نزل الخبر على شيخ عناد كأنه الخبر الصاعق الذي ينتظره أو بعثته السماء له وعرض أن يكون هو المشتري ولا أحد غيره، هنا أستبشر الرجل خيرا بعرض عناد وأخبره أنه سيكلم رضية عنه، طلب أن يخبرها الآن ولا يمكنه أن ينتظر ولا بد من قطع الطريق على أي عرض أخر، ذهب الرجل للدارونادى عليها لتلحقه إلى المحل، دقائق وتم الأتفاق على كل شيء على يجري كتابة العقد وأستلام العربون عصرا فالشيخ ليس لديه الوقت الكافي وأنه مستعد لأستلام الدار فورا.
الغريب الذي لم يفهمه في الأمر هو ألحاح الشيخ على إبرام العقد وحتى دون مساومة مع صاحبته، وهكذا تم التوقيع على العقد على أن تسلمه أوراق الدار بعد أيام وأن تخليه خلال عشرة أيام كحد أعلى، رضية لم تكن تتوقع هذا العرضولم تتوقع أن تجري الأمور بهذه السرعة فعليها أولا أن تجد مكانا مناسبا لكنها رضخت له كونها لم تحصل على عرض أفضل منه وتم كل شيء بمنتهى التسرع،بعد يومين سلمت الأوراق للحاج أبو عباس بأنتظار أن يكمل الشيخ ما عليه، كانت ليلة الجمعة التالية موعد اللقاء وسلم الشيخ ما تبقى عليه أمانة بيد الرجل كوسيط على أن يسلمها لرضية حين تسلم مفاتيح الدار.
عاد رزاق مساء تلك الليلة الكارثة حينما وجد أن الدار فارغة وعمته رضية تنتظره عند الباب لتأخذه للبيت الجديد الذي سيكون في أطراف المدينة، بالرغم من أنه لا يدرك ما الذي جرى لكنه ثار ثورته الكبرى ضد عمته وأخذ يطرق الباب بقوة وينطح براسه الجدار حتى أغمي عليه، كان صراخه حادا وبه نبرة حزن عميقة لأنه سيغادر هذا المكان الذي لم يفارقه منذ إن ولد، تجمع الناس حوله ومنهم من حاولأن يضمد جراحه أو يفعل شيئا لكن فترة غيبوبته طالت مما أستدعى نقله للمستشفى ليتم الأمر بعد ذل بهدوء ويستلم شيخ عناد الدار ومفاتيحها من أبو عباس دون أن يرق له جفن مما حدث.
عاد رزاق بعد ثلاثة أيام إلى الدربونة لعله يعود إلى بيته القديم وهو ملفوف الرأس بضماد طبي وحتى دون أن يلتفت لأحد في الطريق، خشي الحاج فاضل ومن كان في المكان أن يفعلها مرة أخرى وهو يرى أن جزء كبير من الدار قد هدمت وقلعت أبواب الغرف والشبابيك، تحول ذلك البيت الذي كان وطنه إلى مجرد خرابة، لم ينبت ببنت شفة ودخل من فوق الأحجار والأخشاب المتراكمة إلى غرفته القديمة وجلس صامتا، الناس تنظر بحسرة وألم لهذا المصير فيما كان رزاق يذرف الدموع بلا أنقطاع يتطلع يمينا وشمالا باحثا عن روحه بين الأنقاض.
كل ذلك المشهد الذي عاينه أبو عباس وأنزل له دمع الندم شعورا منه بتأنيب الضمير دفعه للتفكير في هذه العلاقة السيئة بين الشيخ وبين رزاق....
_ لا بد من سر بينهما.
_الرجل غريب ولا يعرف رزاق ولم يلتق به من قبل...
_ لا بد لي أن اسأله لماذا كل هذا الكره لرزاق وعائلته وأنا أعرف أن زوجتك كانت من أكثر الناس قربا لهم، بل تقضي معظم أواقتها لديهم.
_ لا بد أن في الأمر حكاية مرت دون أن أنتبه لها، رزاق كان غير ذلك قبل أن يدخل هذا الشيخ لهذا المكان ويحيل حياة هذه العائلة إلى جحيم.
_ لماذا هدم الدار وهي صالحة للسكن أي رسالة يريد أن يقولها لرضية ولرزاق ولكل أهل المحلة، قد يكون هذا الرجل في داخله إنسان أخر لا نعرفه.
_ لا بد لي أن أساله فقد يفسد علينا كل العلاقات الطيبة هنا ويجعل من أولادنا مثل رزاق...
كانت كل هذه التساؤلات تدور في عقل الرجل وهو الذي لا تفوته شاردة ولا واردة في المحلة، البعض يقول عنه أنه أعلم حتى بما يدور في بيوت المحلة من أسرار، فهو الكبير الذي يستشيره الجميع واليد التي أعانت الكثير وقدمت لهم النصائح، لا يمكن أن يكون الأمر خاليا من علامات الأستفهام، هناك خيط مفقود لربط الأمور ببعضها فقد وجد رزاق في ذات الوقت الذي خرج فيه الشيخ من المحلة، هل كان هو من يعلم بغيابه؟ هل له علاقة بما جرى ويجري؟ ... ثمة أمر ما كان ولم ينتبه له أحد.