هنا سانت كاترين


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 5737 - 2017 / 12 / 24 - 11:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     



لأنها مصرُ؛ خَصَّها اللهُ بما يليقُ بها من فراداتٍ واستثنائات. جعلها تمسكُ القلمَ بيسراها، فمصرُ فيما أظنُّ عسراءُ؛ لتكتبَ السَّطرَ الأولَ في كتاب التاريخ الهائل. وبينما كانت مصر تكتبُ مجدَها الخاص، كان في يُمناها مِسطرةُ مهندس ومثلثٌ، وإزميلُ نحّاتٍ، وريشةُ رسّامٍ وباليتة ألوان، وقيثارةُ موسيقيٍّ وهاربٌ ضخمٌ ونوتةٌ موسيقية. وعلى ظهرها كانت مصرُ تحمل مِخلاةً من الكتّان المصري بها دفترُ أشعارٍ وورقةُ بردي مُدوّنٌ عليها معادلاتِ تركيب إكسير الخلود وحجر الفلاسفة. وفوق رأسها كان كتاب. كتابُ الحياة والخروج إلى النهار. وكان على مصرَ نهارٌ، فكان على الدنيا نهار.
تنشأ الحضاراتُ حيث ينشأ الضميرُ الإنساني. وكان مولدُ الضمير في بلادنا، وكان أولُ شعاعٍ من فجر حضارة بني الإنسان هنا في تلك الأرض الشريفة. وإن كانت حضارةٌ، فلابدّ أن يكون كتابٌ. لهذا نحن هنا اليومَ في أحد نهارات شهر ديسمبر الباردة؛ نحتفل بافتتاح مكتبة دير سانت كاترين الخالدة ثاني أكبر مكتبة في العالم بعد مكتبة الفاتيكان، بعد ترميمها وتطويرها وسط حشدٍ من أرفع رموز مصر والعالم من وزراء وسفراء وضالعين في الشأن الثقافي والحضاري.
لا يتوقّعُ الإنسانُ المعاصرُ أن يشهدَ بعينيه كيف كان خطُّ يدِ أفلاطون حين كتب محاوراته الأربع، أو خطّ يد أرسطو حين كتب "فن الشعر"، أو "الإلياذة" و"الأدويسة" حين أملاهما هوميروس الإغريقيّ الكفيف، أو خطّ يد نابليون بونابارت حين كتب معاهدته. ولا يتوقّع المرءُ أن يرى بعينيه كفَّ الرسول الكريم مطبوعًا كتوقيع قدسي على "العهدة المحمدية". فقط في مكتبة دير سانت كاترين بوسعك أن ترى تلك النفائس الفريدة ضمن ستة آلاف مخطوطة أصلية عزَّ وجودُها في مكتبات الدنيا، إلا في مكتبة يُشرِّف مصرَ الشريفةَ اقتناوها. لأنها مصرُ. ولأنها مصرُ فها هو وزير الآثار المثقف د. خالد العناني، يصافحُ اللواءَ المثقف خالد فودة، محافظ جنوب سيناء تحت قوس محراب هيكل الدير المقدس ليحتفلا معًا، كمصريٍّ يهنّئ مصريًّا، بتدشين أحد آثار مصر الخالدة متجسدًا في تلك اللوحة الأسطورية التي أنفق الفنانون وخبراءُ التشكيل العالميون سنواتٍ طوالا بلغت الاثني عشر عامًا، في تشكيلها وترتيب شفرتها المعقدة بنصف مليون حجر موزاييك دقيق حتى تشكلّت لوحةُ "فسيفساء التجلّي" كما تخيّلها الإيطالي رفايللو، لتجسّد مشهدَ تجلّي السيد المسيح للنبي موسى عليهما كليهما السلام. وهي قطعة نفيسة ثرية من الفنّ العالمي شديد التعقيد والدقّة والرقيّ، بلغت مساحتُها 46 مترًا مربعًا، ولا يوجد مثلها بالعالم أجمع.
في شهر مايو الماضي اجتمعنا مع وزارة الآثار المصرية للاحتفال باكتشاف مخطوطة أثرية نادرة عثر عليها رهبانُ دير سانت كاترين، تمثّل وصفة طبية تاريخية لأبي الطب في التاريخ "أبقراط" الذي خلّص الطبَّ من آثار الشعوذات الجهول، ليدشّن علم الطبّ والدواء لبني البشرية، وابتكر بعدئذ ذلك القسم التاريخي الشهير الذي يقسمه الأطباءُ فور تخرّجهم من كليات الطب في العالم أجمع، ويُقرّون فيه بأدبيات الطبيب النبيلة من حيث الأمانة مع المريض وعدم استغلال عِوزَه وضعفه والعمل على إشفائه من سقمه دون إفشاء سرٍّ أو إجهاض امرأة أو تمييز بين غنيّ وفقير.
واليومَ نقفُ على تلك الأرض المقدسة "الوادي المقدس طوى" الذي وطأه الأنبياءُ والرسلُ ليغدو مجمع أديان يضمُّ آثار العقائد السماوية الثلاث ونرفعُ وجوهَنا للسماء نُمجّدُ الله ونشكر فضله على مصر أمام جبل موسى الذي ناجى عليه ربَّه وتلقّى وصاياه، ومن وراءنا شجرة "العُلّيقة" التي اشتعلت بالنور والنار لتدلّ موسى إلى حديث الله ولم تحترق، على مرمى حجر من دير القديسة كاترين الذي ترعاه قبائلُ مسلمةٌ، ويحتضن بين جدرانه الجامعَ الفاطميّ.
أقفُ أمام العجل الذهبي المحفور في بطن الجبل، أصافحُ الأب دوماديوس، مطران دير سانت كاترين وأقول له طوباك مجدًا أن تكون راعيًا وحاميًا لهذا المكان العظيم، هرم مصر الرابع. مصرُ جميلةٌ بحضارتها الاستثنائية التي لو تعلّمها النشءُ الطالعُ من صباه الوليد، لعرفوا أيَّ شرفٍ ومجدٍ يحملون، ولاجتهدوا أن يكونوا أفضل شباب العالم وأكثرهم علمًا وتحضرًا.