إشكالية التابع والمتبوع في الواقع العربي والإسلامي وأثرها على فرض مفهوم أخر للحرية


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5736 - 2017 / 12 / 23 - 21:23
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

إشكالية التابع والمتبوع في الواقع العربي والإسلامي وأثرها على فرض مفهوم أخر للحرية


من الظواهر الأجتماعية اللافتة للنظر في جملة ما نفهم من قضايا تتعلق بالحرية وبناء العلاقات الأجتماعية بين أفراد المجتمع الشرقي عموما والعربي والإسلامي خصوصا، ظاهرة التابع والمتبوع وثقافة الطاعة والأنقياد للرموز والمتتمتعة بالقوة الأجتماعية والدينية تحديدا، الظاهرة لم تكن فريدة في واقعنا ولم ينجو منها مجتمع ما، ولكن بقاءها الطويل وأثرها في تشكيل أطر العلاقات الأجتماعية في واقعنا لهذه الفترة الطويلة هو ما يثير الأهتمام بمفهوم إشكالية (التابع والمتبعوع)، قد تكون مفاهيمنا المعرفية أو طريقة الأعتقاد الديني أو نمط العلائق التي نشأ منها المجتمع هي التي جذرت العامل الفكري المشجع أو المتسامح بقوبلها على أنها من حسنات الواقع، أو أن الأعتياد المفرط دون محاولة تمرد أو تجديد في تلك الأطر الأجتماعية المنظمة لنوع العلاقة البينية والخضوع الطويل لها هي من مسببات هذه الظاهرة وترسخها بالوعي الجمعي.
وحتى نفهم سبب الخراب القيمي وتدهور مفاهيم الفردية والشخصية وأختفاء أثر للوجود المعنوي للفرد ضمن تشكيلة (القطيع) كما يطلق عليها علماء الأجتماع، لا بد لنا من دراسة الظاهرة بتجرد وبمنهجية علمية بعيدة عن القدسيات والأصوليات التي فرضتها تلك القوى وراعتها ورسخت الإيمان بها على أنها طبائع وليس نظام تطبيعي، والتي رتبت وسننت وشرعت لبقائها الطويل وأثرها المدمر الذي أصاب مجتمعنا بنوع من العبودية الغير مباشرة، والتي سلبت من الإنسان العربي والمسلم الكثير من حقوقه وخياراته الوجودية ومنها تخلفه في فهم الحرية ذاتها وحدودها العامة والخاصة، ونجحت في ترسيخ قيم القروسطية واقعا ونتيجة،في وقت العالم الكوني من حولنا يجتاز مراحل التطور والحداثة وما بعد الحداثة، وما زلنا نؤمن بالمرجعيات الأجتماعية والدينية وفضيلة الخضوع والأتباع لها وكأنها خيارنا الوحيد والمتاح من دون شعوب الأرض.
لا بد أن نقرأ أن أي ظاهرة أجتماعية تحت الدراسة العلمية لا يمكن تناولها من خلال ذات الظاهرة دون البحث عن مقدماتها العميقة، وأيضا كل العلائق والظروف التي جعلت منها جزء من الواقع، حتى وإن كانت هذه العلائق غير منظورة أو غير محسوسة للمتابع البسيط، فظاهرة التابع والمتبوع أو نظرية (الخضوع الأجتماعي الفوقي للرمز) لم تنشأ من في مجتمعاتنا نتيجة لعوامل طارئة أو تحكمات قيمية وافدة، بل هي جزء من أصالة الثقافة الأجتماعية فيه، وأيضا هي جزء من شخصية الإنسان الطبيعية خاصة في المجتمعات أولية التكوين أو أحادية القوة، فكلما كانت العلاقة الأجتماعية تسير وفق نمط نسقي واحد محافظ على قوته وقدرته على فرض نفسه تحت مبررات وعوامل تتعلق بالتربية والتنشئة والممارسة، كانت هذه العلاقة أكثر ثباتا وأكثر قدرة على التواجد الدائم في الضمير الجمعي للمجتمع.
بمعنى أخر إن كيفية وتكوينية طبيعة ترتيب هذه القوة هي مصدر لهذه الظاهرة ورسوخها من عدمها، وكلما تنوعت وتعارضت وتضاربت القوى الأجتماعية المسيطرة على الواقع كلما خفت الظاهرة المبحوثة هنا ونتائجها، لذا فالمجتمع المدني الذي تتنوع وتتعدد فيه القيم الرأسية الحاكمة لطبيعة المدينة ونمط الحياة الأقتصادية والأجتماعية الحضارية تكون أنجح في التخفيف من غلواء الظاهرة وتخفف من أثارها الأجتماعية، فلا عجب أن نجد في المجتمعات المنغلقة وقليلة الحراك الأجتماعي والأقتصادي تسودها مظاهر العبودية اللا مباشرة للفرد الرمز أو للقوة المفروضة بوحدانية التأثير، هذا الحال نجده كثيرا في واقع المجتمعات الدينية والمجتمعات التي تحكمها الزعامات البدوية أو القروية.
لذا فالواقع البيئي أضافة للواقع الأجتماعي ساهما معا بفرض الظاهرة وتحديد نوع العلاقة وأطرها العامة، فكل العلاقات والقيم الرأسية في المجتمعات البدوية والقروية تحتم أرتباط الإنسان بالزعامة لأنها الضامن الوحيد للبقاء والعمل وديمومية التواصل الأجتماعي بين أفراد المجتمع، بأعتبار أن الزعيم أو الشيخ هو المالك الأكبر لقوة الأنتاج ووسائله، ومن ثم يتحول بفضل هذه القوة إلى كونية المتحكم الأساسي في فرض طبيعية ونوعية العلاقة الأجتماعية، فليس مسموحا لأحد بالتنافس مع الزعامة أو التجاوز على مقامها الأجتماعي، فالتنوع شبه مستحيل في هذه المجتمعات ومحرم على بقية أفراد المجتمع الخيار بين أثنين لأن ذلك يضعف من قوة القبيلة التي هي كما قلنا ضمان لقوة الفرد فيها، كما أن التنافس المعدوم لا يمنح أصلا حرية القرار، لذا فالظاهرة هنا هي نتاج طبيعية لواقع البيئة وواقع علاقات العمل ومظهر القوة فيه.
وحتى في المجتمعات الأكبر من القرية والقبيلة نجد مصدر قوة أخر برتب نوعا من أنواع العبودية للفرد الرمز من خلال قوة تأثير العامل العقائدي الديني، فرجل الدين في الضمير الجمعي ممثل للقوة الأكبر كونيا وهي قوة الله، فكلما كانت تفصيلات الفكر الديني والحدود التي يضعها بمعنى الطاعة والمتابعة ولزوم عدم الخروج عن أمر الله قوية، نجد أن الظاهرة تكون أقوى وأشد خاصة مع تفرد الرمز الديني في فرض الأفكار وقلة مجالات الوعي والأطلاع على حقيقة هذا الفكر ومصادره الأساسية، لذا فالزعيم الديني عادة لا يشجع على الحوار والمنافسة والمناقشة وإنما يمارس دوره الوعظي من خلال نصوص تؤل دوما على معنى الأتباع والطاعة المطلقة السلبية، لأنها الضامن الوحيد لبقاء المؤسسة الدينية تمارس دور السيد المطاع وعلى الجميع أن يتحولوا عبيدا لها.
أذا الظاهرة كموضوع أجتماعي لها أسباب موضوعية وأخرى تتعلق بالوعي الذاتي وهي كما تلعب دورها في تحصيل الظاهرة كالأتي:
• البيئة الجغرافية وأثرها في ترتيب مفاهيم القوة وأشتراطاتها.
• طبيعة تركيبة المجتمع أنسجاما مع الواقع البيئي وما تفرضه من قوانين ملجئة.
• التنافس والتزاحم بين المجتمعات وأثرها في ترتيب مواضيع الحرب والسلام.
• محدودية التنافس الداخلي بين أفراد المجتمع وغياب التنوع الفكري والثقافي وما يجره من تفرد في الزعامة والقوة وتسخيرها لفرض الظاهرة على الأفراد.
• قوة وفاعلية المبررات التي تسوق على أنها حدود المقدس وخاصة في الجانب الديني وأرتباطها بالله والدين والخوف من أنتهاك المحرمات أو الوعيد بالعذاب لمن خالف موضوع الطاعة والمتابعة والتحضيض بالجنة ومكاسبها لمن ينخرط في موضوع العبودية.
• غياب الحرية في الأختيار بين مفردات متعددة سواء أكانت أفكار أم عقائد أم قوى فاعلة لطبيعة المجتمع أحادي التكوين والتركيب، فغياب هذا التنوع يحصر الإنسان في أن يتبع ما هو واقع ومفروض ومفترض خاصة مع أشتداد عوامل القوة والقهر مما يؤدي إلى شيوع الأستلاب والتغريب والتغييب.
• الجهل والفقر والأمية وتباطؤ حركة المجتمع أقتصاديا وغياب فرص العمل الواسعة وأنعدام أو تضاؤل روافد المعرفة كلها عوامل ساهمت في ترسيخ الظاهرة وأدامة زخمها، لذا فالمقاومة التي تبديها القوى المؤثرة دينيا وأجتماعيا للحد من شيوع القيم الحضارية الإنسانية الهدف منها في النهاية المحافظة على فاعلية ظاهرة (التابع والمتبوع) وترسيخها أجتماعيا، فليس أسهل من مجتمع فقير وجاهل وساكن أن تنتشر فيه مظاهر العبودية للرمز والرؤوس المتحكمة من أي مجتمع أخر فيه حركة وتنوع ونشاط وأنخفاض في مستويات الفقر والجهل والأمية.
هذه العوامل كلها مجتمعة ومنفردة لعبت دور الراعي والفارض لشروط ظاهرة التابع والمتبوع في المجتمعات العربية والإسلامية غالبا، فما زالت بنية المجتمعات المذكورة وبرغم دخول الكثير من المفردات الحداثية والتطويرية في واقعها، إلا أن عوامل النشأة ما زالت مسيطرة على الواقع، ولم تظهر علامات التمدن ومظاهر التحولات الأجتماعية عميقة فيها ولا مؤثرة للحد الذي يستدعي الفرد فيها للتخلص من الظاهرة وأثارها، بسبب من طبيعة القوانين والقيم التي شرعتها أجيال من نخب نلك القوى والتي لم ولن تنفك عن قواعدها الأولى، فكل حكام المجتمعات العربية والإسلامية هم ورثة حقيقيون لقيم البداوة والقروية أو أنهم تلاميذ المدرسة الدينية التي تتمسك بالعبودية بدل العبادة.
لذا فمن الصعب على مجتمعات محكومة بالقوى السلفية فكريا وأجتماعيا أن تتغير فيها العلاقات الأجتماعية أو تتطور على النحو الذي يمنح الإنسان حريته الطبيعية ويسترد خصيصته الفردية، بسبب نفوذ مفاهيم القوة المهيمنة والعصبية البدوية والقروية في عقل الحاكم العربي، الذي ما زال يرى في الدولة والمجتمع مجرد عشيرة أو قبيلة أو حزب ديني عليه أن يتحكم به بما هو سائد وتقليدي، فبقاء حالة التابع والمتبوع تؤسس له القدرة على البقاء أو تمنحه مقومات العصبية التي أشار لها أبن خلدون في المقدمة، هذه العصبية قد نجح البعض فيها من الحكام أن يلبسها ثوب سياسي أو نوع من أشكال الديمقراطية المزيفة من خلال تأسيس أحزاب أما عائلية أو شخصانية مرتبطة بوجود الزعيم الأوحد والقائد الضرورة، وبذلك أسسوا لحكم العوائل والقبائل بدل مشروع المواطنة والدولة الحضارية.