الوعي وإشكاليات المعرفة


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5733 - 2017 / 12 / 20 - 22:53
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

الوعي وإشكاليات المعرفة


يفهم الوعي عموما على أنه القدرة الذاتية والمكتسبة عند الإنسان لتشكيل مداركه العقلية من خلال الحس والتفاعل والأستجابة للعوامل الحولية، فكل ما هو مؤثر على المدرك العقلي الذي يحفر النظام التشغيلي التكويني العقلب لأتخاذ نوع من الأستجابة هو وعي بالحال والماحول ، فلا يمكن للوعي أن ينفصل عن الحس ولا يتبلور إلا من خلال القوة العقلية المستجيبة والمدركة لما في الحس من مستفزات أو ردود أفعال، هنا يمكننا أن نقسم الوعي طبيعيا إلى وعي ذاتي يمارسه العقل بدوافع ذاتية مستجيبا للوظيفة الأساسية له كصانع للمعرفة، هناك وعي طارئ أو خارجي موضوعي يفرض وجوده وشروطه نتيجة عوامل تشكل ضغطا على العقل ليدرك التعامل معها ويستجيب لها ضدا أو معا.
الوعي المتشكل من فعل ذاتي ورد فعل موضوعي سيكون وعيا مركبا ينقل الإنسان من حالة الإحساس والإدراك إلى حالة الفعل بصورة ميكانيكية، هذا إذا ما أشرنا إلى دور وأهمية تراكم المعرفة وأثرها في تلك القابلية والأستجابة، إذن المعرفة المسبقة والإيجابية ومما تخزنه من قدرة على النظر والتفاعل مع الواقع تشكل العنصر الثالث والمكمل للمعادلة، الوعي يبقى ناقصا بدون معرفة والمعرفة لا يمكنها أن تكون متوافرة بدون أساسيات الوعي التجريبي أو الوعي الطبيعي، هنا نشير إلى أن كثير من المعادلات التي يكون العقل فيها طرفا تكون معادلة منعكسة في الأتجاه دون أن يكون هناك خلل في بنية المعادلة أو توازنها الكوني أو الكيفي.
لقد سجل الوعي كمكون معرفي وأيضا كعنصر من عناصر تشكيل المعرفة دورا مهما وأساسيا في بناء الشخصية الإنسانية وتميزها الفريد عن بقية الجنس الحيواني، بقدرة هذا المكون من أن يعط الإنسان إحساسا وأهمية لفهم العلاقات والأطر المدركة طبيعيا أو من خلال حس التجربة الدور المهم في خلق وتحديد هذه الشخصية، فالدرجة التي يبلغها الوعي عند الإنسان هي المؤشر الأول والأساسي في ترتيب قدرة الفرد الإنساني للعيش الطبيعي داخل بيئته أو داخل أطاره التكويني العام، ولو فقد عنصر الوعي وحتى مع وجود العقل سنكون أمام نتيجتين أما أن العقل سيبقى يتعامل مع الواقع من منظار ذاتي محض وهو المعروف عنه التطور والترقي بالوعي، فنكون أمام حالة جمود عقلي في درجة ما لا تؤهل الإنسان ليكون كائن معرفي كما هو معروف عنه، أو أن يحاول العقل ومن خلال أدواته أن يصنع طريقا أخر بينه وبين الواقع لا يمكن في النتيجة إلا أن يكون هو ذات الوعي الذي نتكلم عنه.
هنا يلعب الوعي مع قاعدة الفعل العقلي ونظامة العمل التفكيري الدور الأساسي في خلق المعرفة وتأسيس أركانها ومن ثم أستخدام هذه المعرفة المنتجه في أتجاهات عديدة، أولها سيكون تطوير الوعي ذاته وأعادة نمذجته وفقا للحصيلة التعقلية التفكيرية التدبرية التي ساهم هو في إنشاءها وتكوينها، كما أنه يساهم أيضا في تمديد وتطوير حالة الإدراك الوعي إلى مجالات أوسع وأعمق وأدق، مما يعني إثراء في تكوين وتراكم المعرفة وتنشيط العملية التعقلية بمجملها، كما أن هذه الوظائف المتداخلة والنتائج المترابطة ستكون مفوهما خاصا غيريا في كل مرة عن الأسس التي أعتمدتها في تجاربه الأولى، هذا ما نسميه التجديد والتحديث في طرق ووسائل التعقل والتفكير التي تنهض بالإنسان وتأخذه إلى مدارات الكمال البشري المطلوب.
فالوعي والمعرفة والعقل يشكلون ثلاثية الوجود الإنساني التوصيفي الإيجابي والطريق الأهم لصناعة إنسان قادر على خلق عالمه الشخصي والعام، لذا فلا بد لصناع المعرفة ومنتجيها ليس الأعتماد فقط على جعل المعرفة متوافرة وممكنة بل عليهم العمل على تفعيل الوعي الفردي والجماعي بالمعرفة، ودون خلق هذا الوعي وتأصيله تبقى المعرفة غريبة ومتغربة عن واقع الإنسان المنشود، وأيضا تبقى قاصرة عن تحقيق أهدافها ووجودها الفعلي كرافع من روافع الإنسان فرد والإنسان مجتمع، بهذه النقطة تفترق الشعوب والمجتمعات عن بعضها على أساس قدرة الوعي على هضم المعرفة وتسخيرها وانتظار النتائج.
لقد راهن الكثير من صناع المعرفة على الوعي ونجحوا في تطوير البنية الأسية والفوقية للروابط والعلاقات الإنسانية البينية، في حين فشلت المدرسة الأخرى التي تركز على تركيم المعرفة والأعتماد على حاجة الإنسان لها دون أن تساهم في صنع الوعي، والمدرسة الدينية في بعض أشكالها تغرق الواقع الإنساني بالكثير من المعرفة والكثير من عوامل الدعوة لها دون أن تساهم في تثبيت هذه المعرفة من خلال وعي الإنسان المركب، وجنحت على تشجيع عوامل القداسة والخوف والترهيب والطمع لأن تكون معادلة لترسيخ معرفتها أعتمادا على العامل الذاتي فقط من عنصر الوعي المركب.
أذن الوعي القهري المعزول عن الحس والتجربة يبقى وعيا إشكاليا لا يفهم تناقضاته ولا يدرك قيمة المعرفة بقدر ما ينصاع لها بالألجاء السلبي، مما يجعله متلقي غير إيجابي وغير منتج للمعرفة ولا يفهم حتى أساسيات خلقها أو تراكهما لأنه لا يشعر أنه جزء من عالم منفعل ومتفاعل فيما بينه وبين العقل، هنا حرص الفكر الديني التقليدي على تغيب وتغريب الوعي وتضييق علاقات وروابط الإنسان بالمعرفة لينجح في الأخر في مصادرة العقل وجعله مقتصرا على الترديد والتقليد والدوران حول ما يسمى العقل المجتهد أو العقل المرجعي، هذا العقل الذي يمارس الديكتاتورية المعرفية القهرية ليؤسس لعالمه الخاص وليس لعالم الإنسان العام، ويعزل بين الإنسان كونه كائن معرفي حر وبين كونه مجرد عبد ينتظر أن تمطر عليه السماء معرفة فيلتقطها وكفى.