اللونان الابيض والاسود في روايتي [قلب الظلام ]لجوزيف كونراد] و [يوم في حياة ايفان ايفانوفتش] لالكسندر سولجنستن.


يونس الخشاب
الحوار المتمدن - العدد: 5732 - 2017 / 12 / 19 - 01:47
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات     

اللونان الابيض والاسود كرمزين في روايتي [قلب الظلام] لجوزيف كونراد و [يوم في حياة ايفان ايفانوفتش] لالكسندر سولجنستين

يونس الخشاب

اذا كانت رواية" قلب الظلام "للكاتب البولوني الاصل جوزيف كونراد تكشف عن الوجه الاقبح للامبريالية عبر فضحها لممارسات وجشع الرجل الغربي التجارية ونفاقه في استغلال الرجل الاسود بزعم تمدينه ،فان رواية "يوم في حياة ايفان دنيسوفيتش " للكاتب الروسي الكسندر سولجنتسن تكشف لنا معاناة البشر في معسكرات الاعتقال السوفيتية والتي لم تكن لتعرف قبل ان يكتب عنها سولجنتسن من خلال وصف يوم من حياة سجين روسي تفضح ممارسات النظام الشيوعي في عهد ستالين.
ان الهدف من دراستي هذه هو ان ابين كيفية استخدام الالوان والاشياء كرموز وتوظيفها لكي تخدم الرسالة او الموقف الاخلاقي لكلا العملين.
ان الظلام في رواية "قلب الظلام "لا يشير الى العتمة وعدم الرؤية بل يشير الى الظلم و ظلمة الشر البشري ،وفي اللغة العربية فان الظلم هو من الظلام ( كان سطوا بالقوة ،جريمة من الدرجة العظمى سار الرجال اليها مغمضين كشأن من يعملون في الظلام. غزو الارض ليس بذلك الجمال عندما تمعن النظر فيه ،انه يعني سلبها ممن تختلف بشرتهم عن بشرتنا ، ممن لهم انوف اكثر تسطيحا من انوفنا )
لقد ركز "كونراد "على استخدام اللونين الاسود والابيض في ترميز ايماءات طباقية متضادة . فعادة ما يرمز اللونان الابيض والاسود الى الخير والشر ، لكنهما عند "كونراد " يرمزان الى شيئين مختلفين . فاللون الاسود يرمز الى الموت البدني بسبب المجاعة والقسوة ، اما اللون الابيض فانه يرمز الى الموت الاخلاقي والروحاني بسبب انانية الانسان وجشعه. فالنساء اللاتي يغزلن الصوف الاسود في الشركة البلجيكية يرمزن الى المأساة والموت المحتوم لكل من يذهب الى افريقيا. (كثيراُ ما فكرت وانا على تلك المسافة البعيدة بالمرأتين اللتين كانتا تحرسان باب الظلام ،تنسجان الصوف الاسود كما لو انهما ارادتا ان تصنعا غطاءاُ دافئاٌ لنعشهن ... السلام عليك يا ناسجة الصوف الاسود العجوز "موريتوري تي سالوتانت " (أي الميتون يحيونك وهي جملة كان يقولها المصارعون الروما ن للامبراطور قبل ان يتوجهوا الى ساحة المصارعة التي قد لا يعودون منها احياء).
اما اللون الابيض في تعبير " الاضرحة المبيضة " والتي يرد ذكرها عند دخول" مارلو"المدينة التي سيوقع فيها عقد العمل فهي اشارة واضحة الى ما ورد على لسان السيد المسيح في انجيل متي حين وصف الفريسيين بانهم مثل الاضرحة المبيضة تبدو جميلة من الخارج لكنها مليئة بعظام الاموات من الداخل .غير ان ذكر" الاضرحة المبيضة " يرد بصيغة اخرى في نهاية الرواية ،حينما يتوجه "مارلو "الى بيت خطيبة "كورتز "ليسلمها رسائله ( امام الباب الضخم العالي ،بين البيوت الشاهقة في شارع يشبه في سكونه واحتشامه زقاقاُ اعتني به جيداُ في مقبرة ...) اما خطيبة "كورتز " فهي مجللة بالسواد كما لو انها تعيش في نعش داخل نعش.
ورغم ان آخر ما سمعه "مارلو" من" كورتز"كان عبارة (الرعب .. الرعب )الا انه يكذب في مداراة لمشاعرها فيقول لها ان اسمها كان آخر ما تلفظ به .فهي لا تريد رؤية الفظائع التي ارتكبها خطيبها في ادغال الكونغو .لقد حاول كونراد ان يشبهها بتلك اللوحة التي رسمها كورتز للعدالة التي تضع غطاءاُ على عينيها علامة الحياد وعدم الانحياز بينما هي في الواقع لا تقل شراُ عن اولئك الاشرار الاخرين وان هذا الغطاء هو الذي يحجب عنها رؤية الظلم والوحشية التي ارتكبها الرجل الابيض في افريقيا.
لقد اسهمت الثقافة الاوربية في تكوين شخصية "كورتز"وخاصة ان امه انجليزية وابوه فرنسي ، تتعدد مواهبه فهو كاتب وشاعر وفنان وسياسي وجامع للعاج ويتصف بالذكاء والعبقرية وفي الوقت نفسه هو رجل أجوف يصل الى ادنى مراتب الانحطاط فهو لص وقاتل وختم كل ذلك عندما سمح لنفسه ان يعبد كاله.
لم يكن بوسع كونراد ان يستخدم اية رؤية اخرى سوى رؤية ان مهمة المسيحيين البيض هي تصدير تقاليدهم وثقافتهم الراقية ،دينهم ومؤسساتهم ، نظامهم السياسي الى كل البشرية من اجل نشر الرخاء والسعادة وضمان السلام. فعادة ما يفتتح كورتز كلامه ب "نحن البيض " في مقابل "هم "المتوحشون ، آكلوا لحوم البشر. ففي الكتيب الذي قام كورتز
بتحريره وهو نداء للعالم المتحضر جاءت عبارة " أبيدوا كل المتوحشين " وذلك حبا بالانسانية.

غير ان " كورتز " لم يصبح شريراُ لانه اتصل بالافارقة السود و ثقافتهم ، فهو لم يصب بعدوى تلك التقاليد البر برية الافريقية.ما حدث له هو ان تلك الجراثيم التي جلبها معه من اوربا الى افريقيا اطلقت عنانها في افريقيا فغابت كل معاني التضامن الانساني لتفسح مجالاُ للطمع والجشع الاوربي ،فاصبح هو الضحية لتلك السطوة والجشع ،لتلك العدوانية التي تميزت بها الحضارة التي ينتمي اليها "كورتز".
أما رواية "يوم في حياة ايفان دينيسوفيتش "للكاتب الروسي ألكسندر سولجنتسن فانها تعالج حياة بطل الرواية "شوخوف"ومعاناته من قسوة نظام القمع الستاليني. يستخدم الكاتب هنا الرموز في ايصال رسالته.اما ما هو مشترك مع رواية " قلب الظلام "فهو عرض المعاناة الانسانيةوآلام البشر.فقد كان هدف معسكرات الاعتقال السوفيتية والتي كان " شوخوف "احد المعتقلين فيها مصممة لنزع الكرامة الروحية والجسدية عن المعتقل ، فالسجناء يعيشون حياة تعسة تقوم على امداد السجين بما يقارب مائتي غرام من الخبز في كل وجبة و يتعرضون للتفتيش يوميا عن طريق نزع ملابسهم في درجة حرارة اربعين تحت الصفر ويتعرضون للاهانة والسجن الانفرادي . ففي ظروف يتم فيها تجريد المعتقل من خصوصياته مثل الاسم ،العائلة ، الاتصال بالعالم الخارجي تمحو ادارة المعسكر أي أثر للفردية فتستعيض عن اسم "شوخوف "باسم "ساشا -854" (اسمع يا 854 امسحها قليلاَ فقط ،وانقلع من هنا )
اما أسرته فقد نسيها تماماَ ( ايها المواطن القائد ،انتزعوني من امرأتي منذ عام 43 ولم أعد أذكر كيف كانت )
وفي الرواية فان البرد الفعلي يكشف لنا عن ما يتعرض له السجين من المعاناة ،كما ان تفتيش السجناء هو نوع من التعذيب الجسدي في اجواء الصقيع السيبرية.اما الرموز التي استخدمها الكاتب فتهدف الى احتفاظ السجين بانسانيته واستقلاله ورفضه ان يتحول الى مجرد رقم بدون اية هوية.
ان رمز اللون الابيض في وصف الكاتب للمستوصف يعبر عن السلام والطمأنينة وملجأ الامان حيث كان السجناء يهربون من وحشية وقسوة السجانين.(والجدران هناك كانت مطلية بدهان زيتي ابيض اللون ،والاثاث كله ابيض ايضاُ ) . كما ان اصرار "شوخوف" على الاحتفاظ بملعقة الطعام والتي كان يخفيها في حذائه بعد كل وجبة طعام تمثل لنا روح التحدي لسلطة المعسكر وعجزها عن قتل الروح الانسانية (أخرج شوخوف الملعقة من جزمته ،كانت هذه الملعقة غالية عليه، فلقد عبرت معه مخاض الشمال كله .كان شوخوف قد صبها بيديه في الرمل من شريط المنيوم وحفر عليها "اوست ايجما 1944 )
ان الملعقة هنا اداة نافعة ،لكنها ايضاُ تجعل "شوخوف "يشعر انه فريد بصورة ما ،لانه نوع من الامتياز لا يتمتع به السجناء الاخرين.ان ادارة المعسكر تسعى الى تحطيم هذه الروح الفردية ،فهو يخفي الملعقة لكي يحتفظ بفردانيته فتصبح الملعقة هنا رمزا لكيفية اخفاء السجين لذلك الجزء من شخصيته في جو المعسكر.

كما ان سلطات المعسكر لم تستطع قتل روح التضامن بين المعتقلين.فعقد صداقات وعلاقات انسانية بين المعتقلين انفسهم يبدو امراُ غاية في الصعوبة ، حيث السجناء ينتمون الى مناطق جغرافية مختلفة وطبقات اجتماعية غير متجانسة،كما ان سلطة المعسكر تشجعهم على التجسس على بعضهم البعض من اجل نيل بعض الامتيازات غير ان شوخوف يعلم ،على سبيل المثال بان الأستوني و"اليوشكا قد رأياه وهو يخيط الخبز في فراشه ، لكنه واثق من انهما لن يخبروا عنه، حيث ان هناك مشاعر نبيلة من التضامن الانساني بين المعتقلين تقاوم كل الظروف اللا انسانية .
اما الخبز فانه يرمز الى الوجود الروحي والمادي في الرواية ،ورغم ان ما يمنحه الخبز من طاقة مادية هو اكثر اهمية منه كرمز ديني،فان "أليوشكا "الشخصية المتدينة تطلب من "شوخوف "الصلاة لله من اجل اشباع الحاجات الروحية عوضاُ عن ذلك .وعندما يمنح "شوخوف " قطعاُ من البسكويت ل"اليوشكا" بدون أي أمل ان يقوم هذا الاخير برد ذلك الجميل بشئ مقابل فان القارئ يشعر ان "شوخوف " يضع حاجاته الروحية قبل حاجاته المادية للمرة الاولى.وفي نهاية الرواية نجد ان شوخوف قد وجد غذاؤه الروحي .
اما الطرود البريدية التي كان "شوخوف "يتسلمها عوضأ عن "سيزر "، وهو اسم مشتق من اسم القيصر، فانها ترمز الى المتع المادية واشباع الحاجات الارضية لكي تبين لنا الرواية الفرق بين الغنى الدنيوي والغنى الروحي ،في حين ينظر "اليوشكا "الى ما وراء هذه الدنيا الى الاخرة حيث الوجود الروحي الرحب .
لقد وجد سولجنتسين ان "الحد الذي يفصل ما بين الخير والشر لا يمر ما بين دول و لا طبقات و لا حتى أحزاب انه يمر عبر قلب كل واحد منا".

المصادر
قلب الظلام -جوزيف كونراد –ترجمة و تقديم :صلاح حزين –دار أزمنة للطباعة والنشر 2000
يوم من حياة ايفان دنيسوفيتش –ألكسندر سولجنتسين -ترجمة :د.منذر حلوم –دار المدى للثقافة والنشر الطبعة الاولى 1999