القدسُ بين اليهود والصهاينة ورشدي


فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن - العدد: 5726 - 2017 / 12 / 13 - 14:21
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

القدسُ بين اليهود والصهاينة ورشدي




كعادته في حقن القلوب بسموم الطائفية الدينية والمذهبية والحضّ على الاقتتال وإهراق الدم، وجد الداعيةُ التكفيريُّ "عبد الله رشدي" في كارثةِ القدس الشريف، فرصةً ذهبية لممارسة هوايته الأثيرة في الشحن الطائفي والحثّ على القتل، وهو مستلقٍ على أريكته يتناول الفشار والمكسرات، فتشتعل قلوبُ الشباب الصغير وألسنهم، بالبغض الأعمى والسباب والبذاءة والرغبة السوداء في القتل، بدلا من توجيه طاقاتهم الثرية للعمل والجد والتثقّف والتطور. كتب رشدي على صفحته أن "اليهود" سوف يختبئون منّا نحن العرب، وراء الشجر والحجر، حتى يُنبئ الشجرُ عن اليهودي المختبئ، فنذهب ونقتله فتشفى صدورُنا.
رشدي، مثل كثيرٍ غيره من مُشعلي الفتن، لا يفصلُ بين "اليهودية" كدين سماوي نعترف به نحن المسلمين، وبين "الصهيونية" كحركة سياسية استعمارية تنهج الاحتلال والاستيطان في أراض عربية، بقوة السلاح والاستقواء بالقوى العالمية الداعمة. مثلما لا يفصل بين "المسيحية" كدين سماوي مُسالم نعترف به نحن المسلمين، وبين "الصليبية" بوصفها حملاتٍ استعمارية مسلحةً نهجت استيطان الأراضي التي آمنوا بحقهم فيها. ورشدي وأمثاله كذلك هم السبب وراء خلط كثير من البشر بين "الإسلام" كدين سماوي يحضّ على مكارم الأخلاق، وبين "تيار الإسلام السياسي" الذي ينهج التكفير والقتل وسرقة الأرض وتدنيس الحرمات، وهو الرحم الحرام الذي أفرز لنا داعش وبوكو حرام وطالبان والقاعدة وغيرها من جراثيم البشرية. ذلك الجهلُ وخلطُ الأوراق هو سرطانُ العالم وسبب دمار البشرية.
تعالوا ننظر ماذا "فعل" شطرٌ من "اليهود" الذين يرجو لهم "رشدي" أن يختبئوا وراء الشجر كالجرذان خوفًا مننا نحن العرب، الأقوياء البواسل. أقول "فعلوا"، بينما رشدي لم يفعل سوى الاستلقاء على الأريكة و"كتابة" بوست تحريضي مراهق، شأن الضعفاء المهزومين.
على صفحتي الرسمية نشرتُ فيديو لمجموعة من اليهود، خرجوا في مظاهرة حاشدة مُعتمرين قبّعاتهم العالية، ملتحفين الوشاح الفلسطينيّ، حاملين لافتات مكتوب عليها "عارٌ على إسرائيل". استوقفهم مذيعٌ فلسطيني وسأل أحدَهم: “هل بوسعك أن تخبرني ماذا تفعلون هنا؟ أنتم يهود، ومع هذا تخرجون في مظاهرة داعمة لنا نحن الفلسطينيين! لماذا؟!” فأجابه اليهوديُّ: “نحن هنا لأننا يهود. نحن اليهود نقفُ ضد مفهوم الصهيونية؛ نريدها أن تنتهي ويعود السلام للأرض المقدسة كما في السابق. نحن هنا اليوم لأننا معترضون على مجرمي الحرب الصهاينة، رافضون لسرقة أرض الفلسطينيين في الأرض المقدسة فلسطين. اليهودية ليست هي الصهيونية. الدين اليهودي ضد العنف وضد الاحتلال وضد سرقة الأرض وضد جرائم الحرب.” فسأله المذيعُ: “أنت لا تقول إن الدولة إسرائيل، إنما الأرض المقدسة هي فلسطين؟!" فأجابه اليهودي باطمئنان: “نعم الأرض المقدسة هي فلسطين. نحن لا نعترف بشرعية دولة إسرائيل، ولن نعترف بشرعيتها أبدًا.”
هل بوسع الشيخ التكفيري المتأنق عبد الله رشدي أن يفارق شاشة فيس بوك، ويترك هاتفه المحمول و"الفانز" الذين يؤججهم بالطائفية، ويذهب إلى فلسطين ويقف جوار أولئك اليهود الأحرار ليرفع معهم اللافتات المندّدة بسرقة الأرض، ويكافح لتحرير القدس، بعيدًا عن التغريدات والبوستات التي لا تكلّفه شيئًا؟ هل بوسع رشدي أن يتحرر من شهوة "اللايك" ويُجاهد نفسَه المتعطشة للطائفية والتكفير ورشق الأحجار والتحريض على القتل، ثم يعتنق فلسفة الجهاد الحقيقي النبيل؛ وهو جهاد العلم والعمل والتوعية الراشدة للنشء لكي نعلو ونتقدم، ونترك خانة البلداء القابعين على صفحات فيس بوك يسبّون ويشتمون ويدعون لهدر الدماء؟ أعلم الإجابة سلفًا، لأن رشدي وأضرابه لا يجيدون شيئًا سوى جهاد التكفير والتعالي المخزي على من سبقونا علمًا وتحضّرًا وسموًّا.
قضية القدس السليب، قضيةٌ سياسية في المقام الأول. القدس الشريف هو عاصمة دولة فسلطين. تلك حقيقة يعرفها العالم بأسره، بمن فيهم يهودُ العالم، كما ورد في وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطينية عام 1988. ولن نستردها بالسباب والتهديد بالملاحقة وراء الشجر والحجر وتأجيج القلوب بالبغضاء والعنصريات الطائفية، بل بالمفاوضات والضغط السياسي وتوحيد الرأي العام العالمي لرد الحقوق إلى أهلها.
فقط لو يصمتون أولئك التكفيريون، رشدي وأضرابه، إذن لفعلوا الشيء الحسن. صمتُ الظالمين عبادة.