المادة ومن أوجدها؟ ح5


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5725 - 2017 / 12 / 12 - 23:21
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

.الفتق والرتق
من النصوص الجديرة بالدراسة والأهتمام العالي والتي أغفلها الكثير من الباحثين في قضية الخلق والإنشاء في الفكر الرباني، هو نص الفتق والرتق بكل ما يحمل من نظرية نافية ومثبتة لجملة من الحقائق بالغة الخطورة، وهذا الأهمال إن كان متعنمدا فهو من جانب أهل العلم الديني غير مبرر ومدان لما فيه من حقائق صادمة قد تنقض القضية التي يسوقونها في مسألة الخلق والوجود، وإن كان غير متعمدا وعن جهل فلا بد من إيفاءه الأهمية اللازمة للبحث في مضانه لعلنا نرسي أسس نظرية متكاملة تساهم في بلورة نظرية الخلق كلها على وجه يقيني قابل للبرهنة والإتبات.
النص قصير ولكنه يحمل من الدلالات الخطيرة ما لم تحمله أي نظرية من تكثيف للفكرة وشرح موسع لها في آن واحد، يقول النص {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30، لا بد وكعادتنا في دراسة أي نص لا بد من تفكيكه لأفكار جزئية وشرحها ثم أستنباط الرابط الجامع الذي جعل منها نصا واحدا وعندئذ نعيد بناء الفكرة من جديد لنخرج بالتدبير النهائي أو الأجمالي الذي نبلغه، لو لاحظنا الأفكار التالية في النص:.
1. بدأ النص بخطاب تساؤلي موجه للكافرين من خلال الإشارة للرؤية وليس للبصر، فهو يقل (أولم يبصروا) والسب يعود كما في منهج القرآن الكريم للتفريق بين المعاني وبين الألفاظ حين يخص كل لفظ بمعنى واحد وكل معنى يحصره بلفظة محددة، لا يجوز الإستبدال في مواقعهما أو فيما تشير لهما من قصديات، فالبصر لو أشار إليه النص فهو محدود بزمن الأستبصار والمشاهدة وينتهي بأنتهاءه فيكون النص هنا محددا وموقوتا وخاصا.
في حين أن الخطاب أصلا موجها لكل زمان ولكل مكان ولكل شخص، فهو خطاب عام وتفصيلي ومجرد من الشخصنة، النقطة الثانية الرؤية في القرآن الكريم أستدلالية إدراكية أينما جاءت بعكس البصر والتبصر فهي إحساسية توصيلية فحسب، فقد يبصر السائل ولا يعرف ما أبصره، ولكن حينما يرى الإنسان شيئا ما فإنه يراه بالإدراك العقلي لا بالحس البصري.
2. هذا السؤال وإن كان أستفهاميا في شكله ولكنه أستنكاريا في النتيجة يراد من الذم وليس الخبر، بمعنى أن الله ذم المخاطب به لأنه يبصر ولا يرى ويحس ولا يدرك، بمعنى أخر يذم المخاطب لأنه لا يدرك أبعاد ما بعد القضية لأنه عزل العقل عن الحس والعقل وظيفته البحث في ما جاء من المحسوسات ليترجمها وفقا لنظامه إلى معرفة، هنا الذم يأت تعبيرا عن ذم الجهل والتجهيل وبالتالي فأنه يريد أن يمهد لشرح قضية عقلية وليست أخبارية فقط، وهذا المهم في أن يبدأ النص بهذه الصيغة.
3. الخطاب موجه للكافرين تحديدا بشكل خاص وهذا لا ينفي أن يكون غيرالكافر معني في القضية التي سوف يتناولها النص بالشرح والإبانة، والكافر هنا وكما في كل دلالات القرآن ليس الغير مؤمن بالله أو بدينه بل بالذي يغطي الحقيقة ولا يريد أن يراها، لذا سمي الفلاح أو الزراع في لغة القرآن كافرا ، فهو يعني به كل عقل يرى الحقائق ويسترها كي لا تعرف ومن ضمنهم من أشرت له قبل قليل حينما كتموا الدلالات الفكرية والنظرية في هذا النص، فهم طبقا لهذا المعيار من الذين كفروا أي غطوا الحقيقية ودفنوها.
4. الوجود الكلي أو العام في القرآن الكريم حينما يعبر عنه يشار إلى السموات والأرض فقط، وهذا الدرج من التعريف ليس أعتباطيا ولكن لأن العقل البشري دائما مرتبط بهاتين الدلالتين لحصر معرفته في الوجود، حتى حينما نذكر كلمة (وما بينهما) هذه العبارة زائدة فليس هناك فاصل حقيقي بين السموات والأرض وليس هناك وجود ثالث يمكن أن نحدده فنقول عنه وبينهما، الوجود العقلي كصورة هما السموات والأرض، لذا أشار النص لهما للتعبير عن الوجود كاملا وإجماليا ولم يترك أي جزئية خارجه لتنفرد بمعنى أخر.
5. فالسموات والأرض في النص أشار لهما كي يلفت نظر المخاطب به أن الوجود وكل الوجود سيكون محور القضية التي يتكلم عنها، وحتى عرش الله وما يعبر عنه بالملأ الأعلى هو ضمن هذا الأطار، إذا الدلالة العميقة في الإشارة للسموات والأرض لا تتعدى المخلوقات فقط بل كل ما يمكن أن يكون شيئيا مسمى أو موصوف أو محدود أو مدرك عدى المتكلم.
6. نصل إلى لب القضية وحور النظرية التي يطرحها النص وهي كلمة صغيرة لكنها أختزلت في ذكرها كل الموضوع وأسست لما سنتعرف عليه لاحقا أو من خلال البحث، هذه الكلمة (كانتا) أي أن السماء كانت والأرض كانت وكلاهما كانتا على حال يشير إلى الزمنية القديمة، ولا يشير فقط للحال مجرد أو أخبار مجرد به، فعندما يقول كانتا إنما يقول أنهما أقدم من تدخله فيهما على الوجه الذي يفصله أما بقضية الخلق أو بقضية تدبير الحال ما بعد الخلق، فإن كان الأمر يتعلق بخلقهما فهما قديمان لأنهما (كانتا) قبل أن يخلقهما ولكن ليست في هذه الصورة الشيئية التي ندركهما بها، وإن كان يقصد تدبيرهما بعد الخلق فلا بد أن الخلق أستوجب مرحلة خلق ثانية ، فعندما يخلق الله شيئا يقول له كن فيكون وبذلك يعطيها حقها كما هي ولا يحتاج إلى عملية ثانية خلقية.
ولو عدنا للنصوص القرآنية لم نجد ما يشير إلى تعدد فعل الخلق ولا تكاثر في صوره إنما قوله للشيء كن فيكون{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }الأنعام73، فهو أي فعل الخلق مرتبط وموصول بنفاذ كلمة كن لوحدها، فحتى ما جاء في نص أخر قد يكون متعارضا مع هذا النص ظاهرا وهو{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }الأعراف54، الإشارة لهذا التأخير الزمني ترتيبيا في خلق المفردات وفي تخليق السموات والأرض وفقا لنظام متكامل وربط النهايات بالبدايات، ولا يمكن أخذه على أنه أستغرق هذا الوقت فقط لغرض التجريب أو أعادة المحاولة في كل مرة، فهو لم يشير إلى تعدد عملية الخلق بل أشار لها في كلمة (ربكم الذي خلق) فهو خلق لمرة واحدة فقط.
7. السؤال ماذا كانتا إن لم تكونا سماء وأرض كما عبر عنهما النص، الجواب كانتا رتقا والمرتوق أو المرتق هو المجموع على بعضه أو الملتحم مع بعضه على وجه التحديد وهذا هو مذهب أهل اللغة (" قالَ ابنُ عَرَفَةَ : أي : كانَاتَا مُصْمَتَتَيْنِ مُنْضَمَّتَيْنِ لا فُرْجَةَ بينَهُما ففَتَقْناهُما بالمَطَرِ والنَّباتِ وقال الأَزهَرِيُّ : أَرادَ كانَتْ سماءً مُرْتَتَقَةً وأَرْضاً مُرْتَتَقَةً ففَتَقَ اللّهُ السماءَ فجَعَلها سَبْعاً ومن الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ وقالَ اللّيْثُ : كانت السَّمواتُ رَتْقاً) بالرغم من أن ديدن البعض من الشراح أن يتوسع بالمعنى للتدليل أو للزيادة، ولكن الرتق لغة هي اللحم والضم الذي لا يكن كسره، فكانتا رتقا أي كانتا شيء واحد مضموم لبعضعه وملتحم ألتحاما، هذا يقودنا إلى القول أن السماء والأرض كانت قطعة واحدة من المادة، التدخل الخلقي هو من حرك الجوهر لتتسارع الحركة داخل هذا الجوهر لينفجر الوضع.
النقطة المهمة التي أود الإشارة إليها أن الله لم يقول أني رتقتهما أي جمعتهما عندما كانا، بل لأنهما في الأصل كذلك والديل في الكلمة الثانية التي تشير لمعنى الخلف (ففَتَقْناهُما)، الفتق لله الفاعل الخالق الأول ولكن ارتق قديم وكان وثابت ومطلق، وهذا هو السر والجوهر في النظرية (كانتا رتقا..... ففَتَقْناهُما بما شاء هو فصارت أشياء سماء مبنية وأرض مطحية).
8. هذا الترتيب في الوجود وتقديم القديم على أنه كان وجودا على شكل ما ولم يكن نتيجة إيجاد من النتدخل الفاعل الأول، وتأخير الفتق الذي صير الأشياء بصورها، يؤكد أن دور الفاعل هنا ليس دورا تخليقيا بمعن إيجادي وحادث بل هو خلق تدبيري جعلي وفقا لرؤية أختارها ومن خلالأسرار حركة المادة المرتوقة أصلا والتي هي في كونيتها الأولى لا تملك الشيئية ولم تجري عليها الإشاءة سابقا، فهي لا شيء لا بمعنى العدم ولكن بمعنى أنها بلا هوية.
بقية النص والمتعلق بجعل الحياة لكل المخلوقات التي هي في السموات أو في الأرض مرتبطة بنتيجة الفتق، وتخصيص كل من السموات بوظيفة والأرض بوظيفة على حسب النظام المغلق الذي يحكمها فلها مبحث أخر يدور حول معنى وجعلنا ومعنى كل شيء حي، لكن ننتهي من النصف الأول من النظرية التي أوردها النص وجاءت متسقة مع البحوث السابقة حول قدم العالم القديم المادة وأطلاق وجودها المطلق يؤكد أن الدين له منطق مماهي ومماثل لمنطق العلم خاصة إذا قرأنا الفكرة بعيدا عن التصورات المسبقة أو المنحازة لفكرة خاصة تريد أن تنستر على شيء أو تخفي شيء لهدف ما أو غاية ما.