المادة ومن أوجدها؟ ح1


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5721 - 2017 / 12 / 8 - 23:06
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

المادة ومن أوجدها؟ ح1


سؤال صادم للبعض لبديهيته عندهم ومستحق التفكير عند من يفهم معنى السؤال، البعض يتسرع بالأجابة أن الله هو خالق الأشياء كلها وأول تلك الأشياء المادة بأعتبارها محل لكل الموجودات ومنها وفيها تتبلور كل الأشياء، هذا ليس فرض الديني وحده بل حتى بعض العقلانيين يرى أن خالق الوجود وموجده الأول هو من خلق المادة وإن كان يؤمن بقانون حفظ المادة والطاقة ولكنه يعلل أن القانون وجد بعد أن خلقت المادة بشكلها النهائي وأستقرت كموجود حقيقي وأنشأت بذاتها القانون الذي ينص على (أن المادة والطاقة لا تنفى ولا تخلق بل تتحول من شكل لأخر)، بمعنى أن وجود الوجود الأول مرحلة منفصلة بذاتها عن وجود المادة لاحقا ومن ثم أستحكام قانونها أنف الذكر، على كل حال هناك رأي جدير بالأهتمام وإن كان لا يجيب عن جوهرية السؤال العميقة ولكنه يؤخذ على محمل الجد في البحث وهو رأي الماديين الذين يقولون أن المادة أزلية ولم يخلقها خالق بل أن حركتها هي التي أوجدت وهم قضية الخلق لتبير فشل عدم الإجابة عن سؤال من ماذا أصلا كان الخالق ومن خلقه وكيف ولماذا هذه الفاصلة بين الخلق وقضية المادة.
سؤال أخر ليس أقل جرأة من السؤال الأول وهو ما هي المادة أصلا التي جاء منها الوجود الأول والراهن؟ العلم يقول المادة في أصلها كيان واحد لا يتغير وهو الذرة وما في الذرة من مكونات منفردة متعددة لا يمكنها مجزأة أن تشكل كل المادة ولكنها مع بعضها وفقا لقانون التركيب الذري هي الشكل الأول لها، هذه الحقيقية لا ينكرها العلم ولا يستنكرها الدين، فحركة الذرة في داخل أطارها الخاص هي جوهر المادة وشكلها العام فقط، لا البروتون مثلا ولا الأليكترون ولا غيرهما من مركبات الذرة أن تستقل بنفسها لتكون (مادة) كاملة بل قد تكون شكلا ما من أشكال تحول المادة إلى طاقة كالفوتنات مثلا، هذا يعني أن المادة الحقيقية التي تصلح لأن تتحول لشيء ما هي الذرة وحركتها وتعدد المكونات داخلها بالأندماج أو الإنقسام.
إذن السؤال هنا إذا كانت المادة هي الذرة البسيطة وتحولاتها وحركتها في داخلها وخارجها هي من يعطي للموجودات صفة الشكل الشيئي فهل من دليل أو برهان يحلينا إلى أصل خلق الذرة بأعتبارها شيء مرة وبأعتبارها لا شيء مرة أخرى، بمعنى أن المادة الأولى الذرة حينما تكون منفردة وبسيطة هي لا شيء محدد بمعنى لا تملك الميزة التخصيصية التي تنسبها لنوع من الوجود المسمى بخصيصته إلا أنها فقط مادة، وعندما تتحرك كما قلنا في أطار قانونها الخاص تتحول المولولدات منها وفيها إلى أشياء محددة وموصوفة نستطيع أن نعط لها حدود الشكلية الشيئية، نعيد ترتيب الفكرة بشكل مبسط الذرة في شكلها الأول هي المادة وبما أنها لا تشبه أي شيء أخر سوى نفسها فهي شكل شيئي أستنادا إلى هذا الوصف من جهة وهي شكل لا شيئي مرة ثانية لأنها أساس كل شيء، فمن يمنحها الشيئية الوصفية الشكلية أمر لاحق بها فهو خارج موضوعها الأساسي.
هذا في الجانب العلمي من الجواب ولكن ما هو الجانب الأخر الذي يتمسك به النظر الأخر وأقصد به النظر الديني للموضوع؟، السؤال هنا هل الله هو من خلق الذرة؟ أم هو من خلق الأشياء من الذرة بلحاظ التسليم أننا لا ننكر أن هناك يد خارجية هي التي غيرت في حركة المادة طبقا لقوانينها؟، الدليل الديني الذي بين أيدينا أستنادا للنصوص الدينية وما هو مفهوم ومعلوم منها أن الله خلق الأشياء من اللا شيء، بمعنى أنه هو الذي تدخل في عملية التحريك والتبديل الخارجي فجعل نمن المادة اللا شيئية (الذرة) بصفتها الأولى أشياء محددة وموصوفة ومشكلة بظاهر ما فيها من حركة جديدة، هذا النص إقرار بالحركة وليس بالإيجاد للمادة ذاتها في صورتها الأولى {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }مريم9.
الحقيقية عند العودة إلى كل النصوص الدينية وبالذات الإسلامية منها وقرائتها بتجرد تام لا نجد أي إقرار من الرب بأنه خلق المادة أولا وقبلا، وهذا أمر صادم جدا خاصة لمن يؤمن أن الله خلق الخلق كله وخلق الأشياء كلها وخلق السموات والأرض وما بينهما وأنه هو الذي خلق الخلق الأول إلى أخر ما في النصوص من معان ودلالات وقصديات، ونحن نسلم مع هذا التسليم بشرط أن نفهم معنى كلمة خلق ويخلق ومخلوقات أستنادا للنسق التعريفي الذي فيها وليس خارجا عنها، لو علمنا أن الله في كل الأدبيات التي وردت عنه لم ينكر أنه خالق وأنه خلق كل شيء ولا ننكر أيضا أنه قد فعل، ولكن ما لا نعرفه على وجه التحديد أن كل خلق سبقه وجود أول يخلق من المخلوق ولا يعني أن الله خلق من العدم شيئا أو لا شيء بدون هذا الوجود الأول.
ماذا يعني أن يكون الله خالقا للخلق؟ وما معنى أن يكون خالقا للمادة التي جعل من وجودها أن يكون الخلق ممكنا؟ الجواب في تأمل النصوص التالية:
• {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }البقرة29، اليست السموات مادة؟ سؤال أخر من أين جاء بالمادة المخلقة أصلا والصالحة لتكون خلقا أخر؟ وهل يعني الخلق أنه تدخل لجعل ما في الأرض جميعا أشياء مميزة بعدما كانت وجود لا شيئي في وصفه وتشكيله؟ الجواب هنا في هذا النص فقد شرح لنا معنى الخلق {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }البقرة.
• {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ }البقرة228، نعم الله خلق في الرحم ولكنه لم يخلقه من عدم ولكن حرك المادة فيه لتتحول من شكل لأخر ليكون شيئا أخر غير الذي كان.
• {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }آل عمران47، هنا يقر الله أن المخلوق الجديد إنما مخاطب أن يقول له كن فيكون ولا بد للمخاطب عقلا ومنطقا أن يكون موجودا قبل الخطاب ليستقيم المعنى ولا يشترط أن يكون المعني بالخطاب مدركا له بل الأهم أن يكون وبالقوة قادرا على التحرك من اللا شيئية إلى الشيئية، فهو موجود أذن وأقدم من إشاءة الخالق.
• {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ }آل عمران49، هنا يفصح الله عن معنى الخلق وهو غير معنى الإيجاد من العدم بل هو تدخل خارجي لتحريك المادة من شكل إلى أخر لتشكيل شيء جديد (من الطين)، والدليل قوله {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }آل عمران59، فالتراب قبلا كان مادة والخلق مجرد عملية تحريك وتشيئة فقط.
• {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }الأنعام73، إن عملية الخلق هنا مرتبطة بهدف ووسيلة وهما الحق بمعنى أن عملية الخلق مرتبطة بأسباب وليس مرتبطة بموضوع الإيجاد من العدم لأن الله لا يعرف العدم فالمعدوم لا يلد ور يستخلق منه وجود.