الإسلام دين للإنسان وليس دولة ولا سلطان


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 5719 - 2017 / 12 / 6 - 21:44
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

من أكبر الجرائم الإنسانية التي أرتكبها المسلمون كل المسلمين بحق الإسلام والإنسان معا أنهم أدخلوا الإسلام الرسالي وهو التسليم لله في السر والعلن كقيمة عقلية روحية أعتبارية في كل زاوية من حياتنا وقالوا أنها إرادة الله, ولو كنت أملك شيئا من أمر المسلمين لحرمت على أي مسلم أن يخرج الإسلام من عقله ليرميه في الواقع ويدعي إشاءة الله , الجريمة هنا أن الإنسان المسلم تصور عالما خاصا به يملك فيه الحرية أن يفكر ويتدبر كما أمره الله وحض على ذلك وأعطاه مفاتيح الحركة وهيأ له الأدوات اللازمة كي يفعل ما هو المطلوب تحرك ابتدأ وفق هذا المنهج وأراد أن يقدم لله هدية أن يفرض هو البشري الوضعي أمرا على المجتمع ظانا أن يسعد الله به فمضى متبعا هذا الميل ونسي مقدماته وأساس منهجه , أضر بنفسه وبالمجتمع والعالم الذي رسمه دون أن يدري أن خط سيره خارج عن المرسوم الرباني وعندما نبهه الربانيون أنك تخرج عن سكة الله سل سيفه الفكري والحقيقي يدافع عن فكرته منسوبه لله وهنا أرتكب الفظائع دون أن يراجع خطواته السابقة خطوة خطوَة ليتلمس أساس ومبدأ الانحراف .
أسس بعد ذلك وبناء على قراءته المنفردة بمعزل عن كتاب الله وهو يظن أنه أمتلك كل المفاتيح التي تجعله يقرأ إرادة الله كاملة بما فيها وما عليها من أن الله أراد بهذه الرسالة أن تكون محور الوجود كله بمعنى عدم إنفلات شيء منه دون أن يكون خاضعا لتفسير أو تبرير أو تأويل ,وأن هذا القرآن يحوي ذلك كله وبالتفصيل الممل لذلك جعل من الإسلام دين ودولة وما عدا ذلك مجرد هرطقيات وفكر خالي من أي معنى إن لم يقتبس نصوصه المادية من وحي الكتاب والسنة , وبخلاف ذلك يكون قد خالف طبيعة الأشياء وطبيعة إشاءة الله في ذلك .
إن مقولة أن الإسلام دين ودولة لا أساس لها في تفصيليات النصوص الدينية لا في المباني ولا في المعاني المباشرة أي لم ترد نصوص ناصة على حاكمية الدين ومحكومية البشر بها كنصوص دستورية ملزمة ولو كانت موجودة كذلك فقد أنتفى حكم الآية وما شابهها (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) لتتحول إلى من شاء ومن لم يشأ فإن حكم الله هو الواجب بدون أعتراض ,وحتى في كليات العقيدة الرسالية تحديدا هذا القرآن الكريم وهذه سيرة الرسول الأعظم ص لا يمكن أن تجد فيها دعوة صريحة أو تلميح بصورة أو تصور لدولة الدين بعده , لمن يريد أن يجعل من دولة الرسول والتي هي بالمعنى الحقيقي ليست دولة سياسية ولكنها كان مجتمعا منظما مقاد بشخصية الرسول من السماء أي أن الله هو من يتدخل وليس الرسول هو من يرسم الطريق وبالتالي فهي ليست دولة سياسية ممكن تكرارها إلا بشرط أن يكون هناك وحي متصل غير منقطع عندها يتحول الدستور فيها من الكتاب المحتوم إلى كتاب مفتوح مستمر بالتطور والتجديد والتحديث حسب الأوضاع وتغيرات الأحكام أستنادا لتغير المبررات وتداولات الرسول مع الوحي وهذا الأمر لم يزعم أحد أنه ممكن أو في الإمكان إحداثه .
الرسول صل الله عليه وأله وسلم قال {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق} وهنا الصيغة من حيث اشتمالها للمعاني من الصيغ الكلية بعثت أي السبب ولم يبعض كأن يقوا ومما بعثت أو من ما بعثت به بل وحصر موضوع البعث بالقيم الأخلاقية الإرشادية كليا والدليل بالحصر في إنما صيغ كثيرة وردت بهذه الكيفية إنما المؤمنون أخوة ,ولم يقل النص إن من بعض المؤمنين أخوة لأن الله أراد أن يجعل منها قاعدة كلية شاملة جامعة فلا دليل هنا لا عقلي ولا نقلي من أن الإسلام كان يسعى لتكوين دولة خارج قيم مكارم الأخلاق بل وبأي شكل تنظيمي , نعم كان يسعى لتحسين واقع الإنسان بجعل المحفزات والمعطيات تسترشد بالقيم الأخلاقية العقلية ومنها العدل والتوحيد والحرية والمحبة والسلام .
أي كيان سياسي يسترشد بقيم السماء ويترجمها إلى نظم عقلية تكوينية للسلوكيات الفردية والجماعية بما فيها السلوكيات السياسية ممكن ان يقيم الحدود (حدود ما أمر الله به) بشرط العدالة الربانية وهذه الميزة لا تستوجب ان تكون هناك الدولة إسلامية مهمتها حدود الله لأن هذه الحدود ليست هي غاية بذاتها بقدر ما هي ضوابط وقوانين تتصل بالحفاظ على الوجود الإنساني ذاته من عبث الإنسان هنا يكون الإنسان هو الغاية وليست الحدود في فكر الله , والدليل أن كل المجتمعات اليوم تمارس هذه الوظائف لأنها جزء من واجبها الفرق الوحيد في الأساس العقلي والعلمي والفقهي الذي تستند عليه بعض الدول حتى التي تصنف دول كافرة تقيم هذه الأمور افضل من كل الدول الإسلامية عبر التاريخ.
وأما دليل (ما كان لمؤمن ...) فهو تعزيز لقولنا أن الإسلام يعني التسليم الواعي العقلي لمشيئة السماء لا اكثر ولا أقل تسليم لقاعدة أنا خلقناكم من ذكر وأنثى ....لتتعارفوا هذه اللام القصدية هي ملخص وظيفة الدين ومتى ما تحققت بأي وسيلة فهب مطابقة لهدف الدين ومحققة للغائية المطلوبة منها سواء بيد كافر أو مؤمن بالمسيحية أو بالإسلام , أفحص الدليل بعقلك وبحيادية سترى انه الحق لا يخرج عن هذا المورد السلوكي الحسي والعقلي في تحقيق ما في روحية وجوهر وبناء وصريح النص القرآني .
الإسلام السياسي الذي تبنى نظرية الدولة وجسد ذلك بقراءات بشرية قد أخترع ما يعد من محدثات الفتن والبدع التي لم يقرها لا كتاب الله ولا فعل الرسول صل الله عليه وأله وسلم ويظن أنه يريد إكمال منهج رسول الله في بناء مملكة الله , لا يدري المسلم الأول الذي نادى بالدولة الإسلامية أنه فارق الرسول وأستعار دوره خارج حدود ما في الرسالة من غاية البعث , إنما بعث الرسول بمنطق (إتمام مكارم الأخلاق) وليس بناء إمبراطوريات سياسية وإدارية يستطيع أي إنسان أن يبني مثلها وأقوى منها كما فعل هولاكو وجنكيز خان , الإمبراطوريات والممالك والدول كيانات مادية وقانونية وذات قيم خاصة وعامة لا تكون بدون مكارم الأخلاق إلا مجرد سلطة غاشمة تسحق البشر وتنشر الخراب في أرض الله .
لقد كشف الواقع الحقيقي عن زيف فكرة الدولة الإسلامية التي تتحكم بها النصوص لا الأهداف في زمن كانت قد شيدت على أساس واهي وكان لا بد من التصحيح والتصريح بذلك ,يومها قال الإمام علي عليه السلام مخاطبا الخوارج (لا بد للناس من أمير بر أو فاجر) قال للناس ولم يقل للمسلمين ,أعلن عن مدنية الإسلام وإنسانيته وفك الرباط الوثيق المادي والمباشر بين الدين والدولة كحقيقة مطلقة لا تقبل النقض والجدال ,حيث أن الأول هو الدين بما يمثل من رغبة السماء بالإصلاح والثانية رغبة الإنسان في الأنتظام والتنظيم وهي من الضروريات الطبيعية التي لا ينفيها الدين ولا يعارضها أصلا غير انه لا يناقضها إن كانت هدفيتها خدمة الإنسان كل الإنسان .
وهذا لا يعني أبدا أنه لا مانع من تولي الفاسد مقاليد الأمور على الناس بل لا بد من وجود نظم جامعة تحتكم لخيار مدني قائم على الأنسب في خيارات الدولة البشرية التي يؤسسها الناس ضمانا للاستمرارية التي تفرضا الضرورة والحاجة وتسليك المتعارضات بين تعدد الحاجات وتعد قيم وصفها أو مقاييس أعتبارها , وليس دولة الله التي لا تسمح الرؤية البشرية الغير ناضجة بتبلورها انتظار للوصول إلى الحاجة إليها فعلا وحتما بعدما أنقضى زمن البعث والوحي وهما شرطان أساسيان لدولة مملكة الله في أرضه .
لذا أن ما تفعله التيارات السياسية الإسلاموية والتي تتخذ من الإسلام شعار غير قابل أصلا للتطبيق في واقع غير مخصص له تحديدا كمجال حيوي مباشر وحتمي ,لأن الدين علاقة روحية مثالية وقيمية بين الله والعقل ,والسياسة هي أداة الإدارة لشبكة علاقات مادية تفصيلية وواقعية تتصل بحاجات الإنسان والنظام والتحكم والسيطرة , هذا التناقض هو سر فشل تحويل الإسلام من دين إرشادي تربوي عقلاني مثالي إلى دولة أو محاولة لترجمته إلى أسس سياسية مادية تفصيلية تتدخل في الشأن العام والخاص تدخل قهري إجباري لأنه يتنافى مع توكيل الإشاءة له للإنسان ذاته (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر), الدين الرسالي أخلاق وقيم مثالية تمكن الإنسان من العمل نحو محددات الأصحية والأحسنية والأنفعية الجماعية لكنها لا تلزمه أن يحوله أي الدين مفردات تتعامل مع كل حالة على حده .
إذن المسألة تتعدى فصل الدين عن السياسة ولا هي محاولة تحييد الدين وتحويله لطقوس تعبدية خارج الحياة وهمومها وإشكالاتها بل هي محاولة رد القراءة إلى منهجها الأصلي الميزان الذي جاء مع القرآن والتحكم والاحتكام به , الدين أساسا هو مجموعة من القيم الإرشادية التعليمية والتنويرية التي تهذب فكر السياسي الفرد القائم علة الهرم الحاكم أو في تفصيلاته كي يقود المجتمع بمحددات الدين وهي الحرية والسلام والعدل والتطور والتفكر والتجديد أي تحول السياسي لإمام زمني لمجتمعه ليقوده بأدوات سياسية مادية ولكن بروح الفضيلة روح إرادة الله بالتعارف والخيرية ,هنا لم يتم الفصل نهائيا وحقيقيا بين الدين والسياسة ولكن تهذيب السياسة بالدين وفصل ما هو بشري عن ما هو خارج أختصاص الإنسان , من دون فهم حالية ان الإسلام كدين ورسالة من الله للعقل وحده كي يعمل هاديا وليس قائدا في الميدان لم يكلفه الله بناء دولة ولكن كلفه تحضير مجتمع وعقلنة الروابط بينه وبين بعض للوصول إلى دولة الإنسان الرشيدة.