ربيِّني! -العلاج النفسي الأدبي 23-


لمى محمد
الحوار المتمدن - العدد: 5710 - 2017 / 11 / 26 - 22:24
المحور: الادب والفن     


يبدع الناس في تصنيف التربية، كما يبتدعون قواعد شخصية لتربية أطفالهم..

في زمن كل شيء مباح أو متاح، تصبح التربية عملاً حساساً يضمن لك البقاء في خانة الأبوة أو الأمومة دون أن تتحول إلى سجّان أو إلى (مسؤول) عربي، و دون أن تعيش مع شعور ذنب مدّمِر.

************


ينتشر في الفضاء الافتراضي، فيديو لعائلة سوريّة أخذت الشرطة أولادها في دولة اسكندنافية .. و يسري حوله: ذم الدولة الغربية و شرطتها التي (قمعت) حرية الوالد في ضرب أولاده و تعنيفهم جسدياً و عاطفياً!

من المعروف أنه لا يحدث في تلك الدولة، و لا في أغلب دول الغرب، أن تأخذ الشرطة الأطفال في حالات مماثلة إلا بعد التحقق و التدقيق...
ليس فقط لوجود القانون في تلك الدول، بل أيضاً لكون فتح قضية و إيجاد بدائل للعائلة الأم شيء صعب و يكلف الحكومة كثيراً من الأموال.

كيف صوّر ما حدث و تم تحميله على (الفيس بوك) لمحاولة استثارة الرأي العام حوله، يشبه ما حدث في سوريا/العراق من تزوير للفيديوهات و قص الحقائق، و محاولة استعطاف طرف للناس عبر سياسة " نصف حقيقة .. أسهل طريقة”!

أنصاف الحقائق: أكبر الأكاذيب. لأننا نصدقها لصحتها، و في سيل الحياة الصاخب ننسى أن نسأل عن القصة...
يوجد مثل يهودي مشهور ينطبق على هذا: ما الأحق من الحقيقة؟ الجواب :ـالقصة!
What is truer than truth: The story

نشاهد هذا في الطب النفسي بكثافة، حيث يحوّل إلينا أطفال عائلات تم أخذهم من أبويَهم بسبب العنف الأسري .. أو ما نسميه:-الاستغلال – سواء كان هذا الاستغلال :
جسدي : ضرب الطفل أو ضرب الأم أمام الطفل.
جنسي: الاعتداء الجنسي على الطفل.
عاطفي: الإساءة اللفظية و العاطفية للطفل: السب، التقريع، تحويل الطفل إلى سلة لنفايات البالغين العاطفية...

يحاول الأب و/أو الأم في كثير من الحالات بشتى الطرق و الوسائل الحفاظ على الأطفال، لكن دون جدوى..
نقف كأطباء نفسيين مع الأطفال و مع كامل القصة و نؤيد في حالات كثيرة سحب الأطفال من العائلة و تحويلهم إلى عائلات أخرى -Foster parents-

في الطب النفسي لا نعتبر قمع الطفل حرية ! ولا قمع المرأة حرية.. و لا نصدق صوتاً واحداً في صراع أطراف...
هذا مما يجعل الطب النفسي مميزاً كطب أخلاقي، يتقاطع مع وزارات التربية، الصحة، التعليم و العدل ! و يقطع الطريق على كلية الشريعة و فقه الموروث و حقيقة قالها طرف في صراع...

أرى مستقبل أطفالنا المشرق و مستقبل بلادنا المسالم فقط بعد النمو الواجب للطب النفسي، محاربة الوصمة الدامغة للمرض النفسي، و تحويل هذا المجال الطبي إلى أساس علمي و أخلاقي لا غنى عنه.
****************


يسأل كثير من العرب، الأكراد، الأرمن و قوميات أخرى قادمة من بلاد الشرق حول كيفية تربية الأطفال في الدول الغربية..
أسمع كل يوم أسئلة مثل:
-كيف أحافظ على ابنتي في مجتمع المباح و المتاح؟
-كيف أحمي ابني من ثقافة الخروج من حضن العائلة بعد أن يكمل 18 عام؟
-كيف أغذي في أطفالي حب الوَالديَن؟
-كيف أعلّمهم أن كثيراً مما يعتبر هنا عادي، هو غير مناسب في عرف ثقافتنا ؟

الجواب بسيط جداً، لكنه لا يعني القمع، لا الضرب و لا التهميش...

الجواب يكمن في عدة نقاط:
-تعلم أن تكون مستمعاً بارعاً لطفلك، إذا أحسست أن الطفل يخفي عنك شيئاً ما: بادر إلى مشاركته أسرارك.. مثلاً: —هل تعلمين يا “ ألما” كان يومي صعباً جداً، أحد الأشخاص سخر من لهجتي، و لكنني تصرفت بحكمة، إليك ما فعلت…” .

-قُلْ لا بعد تفكير و تحليل- لا تتسرع- و اشرح فيما بعد لماذا كان الرفض، و حافظ عليه- في معنى آخر لا تحوّل ال لا إلى نعم-.. مثلاً: -لا ننام في بيوت أصدقائنا، أعلم أنها ثقافة أمريكية، لكنها لا تتناسب و عقل أمك و أبيك يا صغيرتي.. البشر يختلفون، نحن لسنا قطعاناً من الغزلان، نحن متفردون و مختلفون، و أنت متفردة و مميزة…

-علّم أطفالك أن الحياة خير و شر، يعتقد بعض الناس أن براءة الأطفال تقتضي ألا نؤذي مسامهم بحكايات الفقر، الجوع و الحرمان.. هذا غير صحيح، يجب أن يتعلم الأطفال أن للحياة جانب مظلم، فيقدروا قيمة الجانب المضيء، و يحافظوا على مرونتهم و عقلهم إذا ما قبعوا يوماً في الجانب المظلم.. حتى في أفلام (الكارتون) يوجد دوماً خير و شر…

-ناقش إحساسك بالذنب، إن كنت في الشرق أو في الغرب اسأل نفسك : هل شعوري هو حقاً بالذنب تجاه طفلي أو تجاه نفسي؟ إن كان تجاه نفسك، لا تتردد : اقصد الطبيب النفسي، هذا حق، علم و ثقافة.

- حذار من ثقافة التكريه: إطعامك طفلك للكراهية تجاه بلد، دين، طائفة، شخص، أو حتى فكرة ما: الأطفال المعجونون بالكره لن ينجبوا حُبّاً!

و في المجمل : يظن كثير من الآباء في الغرب أنهم يعملون إلى درجة نسيان الأطفال .. كما تعتقد كثير من الأمهات أنهنّ مقصرات لأنهن تعملنّ لساعات طويلة، و يعوضنّ عن هذا التقصير بشراء كثير من الألعاب لأطفالهن و بمحو كلمة " لا " من القاموس.. فيكبر الأطفال كمدللين، سطحيين و تافهين.. لا يعرفون من العالم إلا " الأنا" الفردية و الغربية .. هؤلاء الأطفال هنّ ضحايا الأهل لا المجتمع...
لو فكرت الأم/ الأب قليلاً لاكتشفوا أنه بالقياس إلى عدد الأطفال في الشرق.. و إلى تسهيلات الحياة في الغرب، فإن الوقت المتاح لطفل أو اثنين في بيت فيه خُدامه-أدوات المطبخ الكهربائية مثالاً- هو ذاته الوقت المتاح لخمسة أطفال في بيت تخدمه فقط ربة المنزل!
و أن الوقت الذي يمنحه أب جميل العقل لطفله يقاس بنوع هذا الوقت لا بطوله، الأطفال بطبعهم يملوّن و القليل المدروس أفضل من الكثير المفروض.
******************

أن تحاول عدم خسارة طفلك، يعني أن تحاول جاهداً بناء هذي الروح الصغيرة، صقلها، تعليمها، تهذيبها..
عدم خسارة طفلك حتماً لا تعني أن يحصل طفلك على كل شيء و لا أن يحرم من كل شيء…

تنتشر في الفضاء الافتراضي صور كثيرة لأطفال حفاة أيتام، أروها لأطفالكم و احكوا حكايتها.. و اسألوا الطفل رأيه و حلوله.. بدلاً عن ساعات اللعب الكثيرة، و ساعات تضييع الوقت الأطول…

طوبى للطب النفسي، و لمن من الآباء و الأمهات: قرأ و قرأ، فكّر، ثم تدّبر!


يتبع…