الذاتوية مفسدة للإقتصاد وللسياسة كما للتاريخ أيضاً


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 5707 - 2017 / 11 / 23 - 21:56
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الذاتوية مفسدة للاقتصاد وللسياسة كما للتاريخ أيضاً
نكتب هنا عن الذاتوية، ليست ذاتوية الأطفال (مرض التوحد) بل مرض ذاتوية الكبار الذين يكتبون عن ذواتهم إن في الإقتصاد أم في السياسة، كما في التاريخ أيضاً فيفسدون الفكر وملكة التفكير في ذواتهم كما في الناس .
يمكن القول أن ليس ثمة في الماركسية ما هو أكثر من قراءة التاريخ قراءة علمية وموضوعية بعيداً تماماً عن أدنى ذاتوية . يفوت الكثيرين أن الطبيعة تملي قانونها على كل أشيائها التي منها الأحياء بما فيها الجنس البشري الذي يتوهم أحيانا بأنه قادر على تعطيل قانون الطبيعة رغم أنه إملاء كوني يملي فيما يملي قانون نفي النفي أي أن جميع أشياء الطبيعة تتطور من خلال نفي الذات بفعل التناقض داخلها فالشيء ليس هو نفسه قبل لحظة أو بعد لحظة وهو ما يفيد أن نفي الذات مستمر لا يتوقف لو للحظة .
قانون نفي النفي يحكم الإنقراض على سائر الأشياء ومنها الأحياء بمختلف أشكالها فمملكة الحيوان الحالية لم تكن موجودة هي نفسها قبل عشرة آلاف سنة أو عشرين، الأجيال الحالية نفت الأجيال السابقة . كانت الحيوانات الشبيهة بالإنسان ستنقرض حالها حال الأنواع الأخرى من الحيوانات لولا أن خمسة أجناس منها قادها التناقض مع الطبيعة وغريزة بقاء النوع لأن تتعرف على بعض الأدوات من خاج جسمها تساعدها على إنتاج حياتها فتتحاشى الإنقراض لخمسة ملايين سنة أو أكثر . وهكذا ارتبط بقاء الإنسان بوجود أدوات الإنتاج وارتبط تطوره بتطور تلك الأدوات . ومع تطور أدوات الإنتاج وتنوعها في المجتمع الواحد انقسم المجتمع إلى طبقات لكل طبقة أدواتها الخاصة بها . ولما كانت الطبقة مضطرة لمبادلة منتوجاتها بمنتوجات الطبقات الأخرى لضرورات الحياة استلزم ذلك الصراع الطبقي . فالصراع الطبقي هو من لزوميات تقسيم العمل في الصناعة بين الرأسماليين والعمال وفي الزراعة بين الأقنان والإقطاعيين ولزوميات تعدد وسائل الإنتاج من صناعة وزراعة وخدمات الطاغية في المجتمعات الحديثة .

إملاء الطبيعة لقانون نفي النفي آلية للتطور تجلى أكثر ما تجلى في الصراع الطبقي حيث طبقتا الإنتاج المتصارعتان يحتدم صراعهما مع الوقت حتى يُصرعا كلاهما وتنعدم هاتان الطبقتان ليولد بدلهما طبقتان جديدتان متصارعتان . ولذلك قال ماركس حكمته المأثورة .. "صحيح أن الإنسان هو من يصنع التاريخ لكن ليس كما يشتهي" . حكمة ماركس تقول أن المجتمعات البشرية هي من أشياء الطبيعة وأن تطورها يتقرر في مساق تقرره حركة الطبيعة وقانزنها العام دون أدنى أثر لرغائب الإنسان وللذات الإنسانية . ومن هنا وجدنا الرجال العظماء في تاريخ البشرية هم أولئك الذين استطاعوا أن ينكروا الذات إنكاراً مطلقاً وينساقوا مساق التاريخ ,

نحتكم للقانون العام للحركة في الطبيعة (الديالكتيك) لنؤكد أن البناء السياسي لأي نظام اجتماعي – باستثناء حكم العصابات - إنما هو البناء الفوقي للبناء التحتي الذي هو الإقتصاد وعلاقات الإنتاج وهو ما يعني أن الذات الإنسانية لا تقرر شيئاً في فحوى البناء السياسي واهدافه .
ما نود الخلوص إليه من كل هذه الديباجة هو أن المقالات السياسية التي تقال اليوم بصورة عامة إنما هي مقالات ذاتوية لا تنتمي بحال من الأحوال إلى البنى الإقتصادية القائمة اليوم حيث هناك مائة قول وقول متباينة في هذه البنى وهو ما يؤكد أن ليس هناك في كل العالم بنية اقتصادية محددة المعالم ثابتة ومستقرة بل هي جميعها في فوضى الهروب من الاستحقاق الإشتراكي، وهو ما صار أول ما صار في الاتحاد السوفياتي في خمسينيات القرن الماضي حيث ارتدت البورجوازية الوضيعة السوفياتية على المسيرة الإشتراكية دون أن يكون لديها أي بديل عن الاشتراكية فانتهت إلى الفوضى التي لا تنتج معتمدةعلى تصدير المواد الخام . وانتهى النظام الرأسمالي بفعل حركة التحرر الوطني العالمية إلى الفوضى، فوضى إنتاج الخدمات والتعويض عن الإنتاج البضاعي بالإستدانة . وهكذا يتوالد من الفوضى الإقتصادية فوضى سياسية والذاتوية من لزومياتها فيكتب الكاتب السياسي تعبيراً عن ذاته وليس عن رؤى اقتصادية واقعية هي أصلاً غير موجودة .

في مطالعة عامة لمقالات سياسية نشرت في صحف عربية كثيرة تبين أن جميع الكتاب إنما كتبوا وجهات نظر رغبوية ذاتوية لا علاقة لها بأية بنية اقتصادية مدعاة . طبعاً الفوضى الإقتصادية لا تورث إلا الفوضى السياسية التي شعلتها الذاتوية – التعبير الفج عن الذات .
كتبت مؤخراً مقالة عن ثورة اكتوبر (من يعرف الثورة البولشفية ؟) وبعد أربع ساعات فقط من نشرها في الحوار المتمدن كان عدد الذين قيموا المقالة 11 قارئاً، قيمها اثنان منهم فقط بالعلامة الكاملة وتسعة قراء بعلامة الصفر . ما أستطيع أن أؤكده في هذه الحالة هو أن القراء الأحدعشر لم يقيموا المقالة بل قيموا ذواتهم ومدى ما أحدهم راضٍ عن الكاتب في الغالب وعن توجه الكاتب وليس عما تضمنته المقالة من أفكار هي جديدة في الغالب .
هل لداء العصر هذا من علاج !؟
في الواقع يستحيل إيجاد العلاج الشافي الوافي لهذا الداء قبل أن تنتهي فوضى الهروب من الاستحقاق الإشتراكي . لكن قد تساهم "الحوار المتمدن" في مقاومة انتشار داء الذاتوية المستعر حيث يكتب الكاتب مقالا كاملا يعبر عن ذاته في محيط واسع يشتمل على مختلف مندرجات الموضوع فيتقوقع بعدئذٍ في قوقعة محكمة المغاليق .

لذلك أقترح على هيئة إدارة الحوار المتمدن أن تضيف محوراً آخر لمحاور الجريدة ، أو ليكن بديلا لمحور المحاور الاسبوعي ، تقترح فيه الجريدة فكرة واحدة محددة إقتصادية – كالعولمة مثلاً أو انهيار النظام الرأسمالي - أو سياسية – مثل انهيار المعسكر الاشتراكي او تعدد القطبية - يدور حول ذات الفكرة المحددة حوار عام يشارك فيه أهل الفكر والاختصاص تتحدد كل مشاركة بألفي حرف وتدوم المشاركة طالماهناك مشاركون ليخلص في النهاية إلى تغليب الفكرة الأكثر صوابية وارتباطا بالواقع يقاربها أحد المشاركين من ذوي الإعتمادية
بهذا الأسلوب فقط يبتعد الكاتب قدر الإمكان عن كتابة ذاته نحو كتابة الفكرة بذاتها وبذلك تكون المساهمة الكبرى في تنمية وتطوير الموضوعية في البحث في الإقتصاد السياسي وفي التاريخ وهو أعظم مكسب فكري خاصة في العالم العربي