ثورة أكتوبر بين الأمل والفشل


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 5703 - 2017 / 11 / 19 - 03:53
المحور: ملف الذكرى المئوية لانطلاق ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا     

ثورة أكتوبر بين الأمل والفشل
"النظرية رمادية ياصديقى، أما شجرة الحياة فدائمة الخضرة" جوته
سيقف التاريخ الخاص بروسيا والعالم طويلا أمام ثلاث فترات تاريخية تجسد تناقضات هائلة لتجربة الاشتراكية فى روسيا تعسر على الفهم والتحليل:
• الأولى عام 1917 وثورتية فى فبراير وأكتوبر وما حوته من ثورتين كان وراءهما شعب اجترح المعجزات وحزب قيادى يشتمل على عشرات الآلاف من الكوادر المخلصة والمتحمسة من أجل حلم الاشتراكية ومحو الظلم والانتصار للإنسان، ونجحوا فى تجميع الشعب حولهم وصنع معجزات إسقاط القيصرية والقضاء على النظام الرجعى شبه الإقطاعى شبه الرأسمالى، ومحاولة القضاء على النظام الرأسمالى والتخلف والدفاع عن حق الشعب فى الحياة الكريمة. انتشر هذا فى أرجاء العالم ولكن أيضا انتشرت الانتقادات لوضع الديمقراطية واستبداد ستالين وخاصة بعد انتقاده فى روسيا نفسها من قبل المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى السوفيتى على يد خروشوف فى 1956.
• والثانية عام 1945 والدور الذى لعبه الجيش والشعب السوفيتى العظيم فى دحر النازية والفاشية، وكان هذا تعبيرا عن كل عناصر قوة النظام، بدءا من التطورات التى أحدثتها الثورة فى حياة الشعب من ناحية التعليم والصحة وارتفاع مستوى المعيشة ومتوسط الأعمار وتطور نوعية البشر وحتى الانتقال إلى دولة صناعية متقدمة تملك صناعات متقدمة ومتطورة وثقيلة تقدر على إنتاج الأسلحة بكل أنواعها الثقيلة والخفيفة وتلعب دورا قياديا غير منكور فى هزيمة هتلر لترتفع شعبيتها فى العالم وتصبح مثالا ملهما للجماهير فى العالم المتقدم والنامى وتتحول من دولة محاصرة إلى معسكرقوى. وتمكنت تلك الدولة من احتلال المكانة الثانية فى العالم اقتصاديا وعسكريا، بالذات عندما طورت القنبلة الذرية عام 1949 والهيدروجينية عام 1954، كما وسبقت أمريكا فى مجال الفضاء بإطلاق أول قمر صناعى عام 1957، وأول رائد فضاء عام 1960 وأول محطة مدارية فى الفضاء عام 1986، كما ووصلت عسكريا إلى مستوى التعادل الاستراتيجى مع أمريكا عام 1975.
• والثالثة هى عام 1991 الذى شهد الانهيار المدوى للاتحاد السوفيتى وتدهوره الخطير بعد ذلك على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية طوال عقد التسعينات، حتى طال الفساد رئيس الجمهورية نفسه وساد حكم المافيا وجاع شعب عظيم قدم للإنسانية وللحضارة الكثير.
لا شك فى ضخامة التناقضات التى تحتاج للتفسير، ولا تصلح لها الاجتهادات الكسولة من نوع صحة النظرية وخطأ التطبيق أو استسهال اختراع شرير يحمل مسئولية هذا الفشل سواءً ستالين أو جورباتشوف أو غيرهم. أدلى الكثيرون بدلوهم فى تحليل تلك الظاهرة، وفيما يبدو سيظل النقاش فى هذا الموضوع مستمرا لفترة طويلة مقبلة. ونهدف من هذا الإسهام المحدود إلى طرح بعض الأفكار فى محاولة للاشتراك فى المناقشة المحلية والعالمية الدائرة حول هذا الموضوع.
فى رأينا أن التحليل لموضوع روسيا بين الأمل والفشل لابد وأن ينطلق على ثلاثة مستويات متباينة وإن كانت بالطبع متبادلة التأثير:
1. التحليل الاقتصادى للوضع الاقتصادى الداخلى وتناقضاته فى حركتها.
2. التحليل السياسى للصورة الإجمالية الداخلية أيضا وتوازن القوى بها، وتناقضاتها وما تضيفه من إشكاليات وتعقيد.
3. تأثير الوضع العالمى وتحدياته وحربه العتيدة ضد نظام يرفع شعاراً يخرج قسماً هاماً من البشرية من تحت سلطة الرأسمالية العالمية، بل ويدعو إلى إسقاطها.
نظرية الثورة الاشتراكية فى روسيا
عندما قامت الثورة فى روسيا عام 1905 كان هناك من جهة وضع ثورى حقيقى وحزب اشتراكى مسلح بالنظرية الماركسية، وإن كان محدود التغلغل بين صفوف الشعب. ولكن لم تكن تلك الثورة هى التى تجد مقدمات تحديد تكتيكاتها فى التراث النظرى للماركسية. لقد كان المتوفر والمتوقع طوال معظم القرن التاسع عشر، هو ثورة اشتراكية فى بلد رأسمالية متقدمة حيث تحولت الزراعة إلى صناعة، وحيث انقسم الفلاحون إلى مستثمرين رأسماليين كبار وعمال زراعيين. بالطبع كانت هناك التحليلات النظرية لمثل ذلك النوع من المجتمعات الانتقالية (بين الإقطاع والرأسمالية) بالذات فى الكتابات التى تناولت بالتحليل مراحل مبكرة من الثورة البرجوازية، ولكن لم يكن ذلك أداة كافية لتحليل الوضع فى روسيا.
وعلى المستوى الاقتصادى كانت بداية دخول روسيا إلى عهد الرأسمالية الميركانتيلية (التجارية) وبناء رأسمالية على النمط الأوروبى تشمل بناء أسطول قوى وانتشار التعليم والبعثات الأجنبية وصدور أول جريدة وبناء عاصمة جديدة وإمبراطورية على يد بطرس الأكبر الذى حكم روسيا بين أعوام 1689 و1725. ثم مع تطور الرأسمالية وبداية دخول عصر الثورة الصناعية ثم السفن البخارية فى الثلث الأخير من القرن الثامن عشر لاحقتها روسيا باستيراد منجزاتها (الآلة البخارية فى المصانع ثم القطار فى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر) نشأت الضغوط من أجل التحول الرأسمالى الأوسع، وكان إلغاء القنانة عام 1861 علامة هامة فى هذا الطريق. وهكذا كان الاقتصاد الروسى أيام ثورة 1905 (وكذلك أثناء ثورتى 1917) هو اقتصاد انتقالى بين الإقطاع والرأسمالية، مع غلبة الطابع الفلاحى على السكان ومحدودية القطاع الصناعى والبروليتاريا المرتبطة به، حيث لم يزد عددها عن ثلاثة ملايين. واختلط وضع الفلاحين بين بقايا القنانة والعلاقات السابقة على الرأسمالية وبين الزراعة الرأسمالية ووجود كبار ملاك رأسماليين وقسم من البروليتاريا الزراعية، إلا أن هذا لا يمكِّن وحده من تحديد طبيعة الثورة وقواها مالم يرتبط بتحليل توازن القوى السياسى أيضا.
انفجرت ثورة شعبية لا شك فيها عام 1905 بعد هزيمة روسيا فى الحرب أمام اليابان. كانت روسيا تسير نحو التطور الرأسمالى بشكل لا شك فيه، ولكن مع ضعف وتخلف ومحافظة التعبير السياسى عن الرأسمالية الممثلة فى حزب الكاديت حديث التكوين، وفى الوقت الذى انتشرت فيه فى روسيا الأحزاب المعبرة عن طبقات شعبية مثل الحزب الاشتراكى الديمقراطى الروسى وحزب الاشتراكيين الثوريين الفلاحى.
فى ظل هذا التوازن للقوى (1) وضع لينين تكتيكا (خطة) للثورة فى كتاب "خطتا الاشتراكية الديمقراطية فى الثورة الديمقراطية" تتلخص فى أن القوى الحية المستعدة للعمل من أجل إنجاز الثورة البرجوازية هى تحالف العمال والبرجوازية الصغيرة المدينية والفلاحين (المقصود الفلاح المتوسط، أى البورجوازى الصغير أو مالك قطعة من الأرض فى سياق اقتصاد انتقالى يجمع بين قدر من الرسملة فى الريف مع الكثير من العلاقات ما قبل الرأسمالية ذات الطابع الإقطاعى، بحيث يكفيه دخله منها بشكل معقول وهو لا يستغل عملا مأجورا عادة) من أجل إنجاز الثورة البرجوازية الديمقراطية.
ثم مع استمرار الثورة يجب أن تتطور الثورة، فى رأى لينين إلى ثورة اشتراكية بتحالف البروليتاريا مع أشباه البروليتاريا فى المدن والفلاحين الفقراء (وهم أقل من البورجوازية الصغيرة كما سبق توضيحه، وتشمل عمالة زراعية معدمة وفلاحين يزرعون فى أراض يمتلكونها أو ينتفعون بها دون أن تكفيهم لمعيشتهم ويحصلون على قسم أساسى من قوتهم من بيع قوة عملهم أو من خلال علاقات سابقة على الرأسمالية). كان الشرطان الذان وضعهما لينين من أجل تطوير الثورة البرجوازية الديمقراطية إلى ثورة اشتراكية هما أولا انحياز الفلاحين الفقراء والبروليتاريا الزراعية إلى جانب العمال ممثلين فى حزب البلاشفة، وقيام الثورة العالمية فى الغرب.
لم تخرج تلك الخطة عن الخطة الكلاسيكية التى وضعها ماركس وإنجلز فى العديد من أعمالهما (2)، والتى يشار إليها عادة بالحذر التقليدى للماركسية فى الموقف من الفلاحين أو البرجوازية الصغيرة الريفية والمدنية بشكل عام.
وبما أن تكتيك لينين فى الثورة البورجوازية الذى اقترحه فى "خطتا الاشتراكية الديمقراطية فى الثورة الديمقراطية" هو نفس التكتيك الذى اتبعه أثناء ثورة فبراير عام 1917 فإن هذا يقتضى منا وقفة تحليلية لعدد من العناصر:
1. استبعد لينين الطبقة البرجوازية الكبيرة من حلف الثورة البرجوازية الديمقراطية، واقتصر على التحالف مع البرجوازية الصغيرة الريفية والمدينية، على عكس ما فعله ماو تسى تونج مثلا فى نظرية حلف الطبقات الأربع الذى اشتمل على البرجوازية الكبيرة. ولا أعتقد شخصيا أن أيا من لينين أو ماو تسى تونج كان مخطئا فى طرحه الأَوَّلى بخصوص قوى الثورة البورجوازية، والسبب هو اختلاف الظروف. كانت الطبقة البورجوازية الصينية قد قامت بثورة 1911 بقيادة شيانج كاى شيك وتمتلك حزبها الجماهيرى، الكومنتانج، وتشارك فى محاربة الاستعمار اليابانى. كما كان الحزب الشيوعى الصينى حزبا جماهيريا قويا وله قواعده وقواته المؤثرة، وبالتالى كان من المنطقى طرح إدخال الكومنتانج فى الحلف، الذى يؤهله له تواجده الفعلى على الساحة. الطبقة البورجوازية، مثل أى طبقة أخرى، ليست مجرد وجود اقتصادى على ساحة الإنتاج فحسب، بل يدخل فى تعريفها وتحديد التكتيك إزاءها وضعها السياسى وقوتها الجماهيرية (3). ومن هنا نفهم أن هشاشة الوضع السياسى لتواجد الكاديت والبورجوازية القومية السياسى هو ما أخرجها من التحالف.
2. استبعد لينين فى التحالف الثورى الخاص بالسير بالثورة إلى الثورة الاشتراكية الأحزاب البورجوازية الصغيرة الريفية والمدينية واقتصر كما رأينا على التحالف مع أشباه البروليتاريا والفلاحين الصغار ، وهو الموضوع الذى سيختلف مع تباشير ثورة أكتوبر فى الفترة بين فبراير وأكتوبر 1917 (4)، وسيختلف تبعا لذلك برنامج لينين فى الثورة الاشتراكية نفسها، مع ما لذلك من عواقب تخص موضوعنا عن ثورة أكتوبر بين الأمل والفشل كما سنرى بعد قليل.
مرجعنا الثانى فى مسار الثورة البلشفية هو كتاب لينين الأشهر "موضوعات نيسان" (5)، حيث اعتبر لينين أن الثورة البرجوازية قد تحققت فعليا فى إبريل 1917 وإن بشكل أصيل، أى غير مسبوق تاريخيا، أى ليس فى شكل جمعية تأسيسية وجمهورية ديمقراطية ذات أحزاب وانتخابات وبرلمان، ولكن بشكل ازدواج السلطة بين سلطة الحكومة المؤقتة، المشتركة فيما بعد بين الكاديت وحكومة كيرنسكى، وبين السوفيتات. وكانت السوفيتات هى شكل التحالف الثورى الذى تحقق بين الطبقات الشعبية، كما كان ميزان القوى يوضح حكومة ضعيفة وسوفيتات قوية، واقترح لينين بناءً على ذلك الانتقال للإعداد مباشرة للثورة الاشتراكية.
لكن تطورات الأحداث فى الشهور التالية قد غيرت من أفكار لينين عن حلف الثورة الاشتراكية. عندما انضم كيرنسكى وعدد من المناشفة من زعماء سوفييت بتروجراد إلى الحكومة المؤقتة، فرضت الحرب تناقضا أمام حكومة كيرنسكى بين الاختيار الإمبريالى حول الاستمرار فى الحرب العالمية الأولى وبين الاختيار الشعبى بالانسحاب من الحرب ومواجهة عدو الداخل الطبقى. تطورت أوضاع الحرب بشدة فى غير صالح روسيا بعد أن أمرت حكومة كيرنسكى فى شن هجوم ضخم على ألمانيا انتهى بالفشل، وأدى هذا إلى هروب الكثير من الجنود (القادمين بأغلبهم من الفلاحين) كما أدى إلى اتجاه روسيا إلى الهزيمة أمام ألمانيا.
تمثل التغير الاستراتيجى الهام فى طرح لينين فى التحالف مع البورجوازية الصغيرة الفلاحية (يسار حزب الاشتراكيين الثوريين بعد انقسامه) ومع البرجوازية المدينية من أجل إنجاز الثورة الاشتراكية بقيادة البلاشفة. ارتبط ذلك التغير فى التحالف بتبنى شعارات تلك الطبقات ومطالبها كما سنرى. ولم تكن أداة هذا التحالف هى أحزاب تلك الطبقات التى خانت طبقاتها بقبولها التحالف مع الكاديت ومناصرة استمرار الحرب وعدم قيامها بتوزيع الأرض، ولكن التحالف من خلال شكل السلطة الجديد الذى تشكل فى غمار الثورة، شكل السوفيتات، والذى دافع البلاشفة عن استحقاقها السلطة ورفعوا شعار كل السلطة للسوفيتات حتى حينما لم يكونوا أغلبية فيها.
طرح هذا تغيرا هاما فى الشعارات: وصل البلاشفة إلى السلطة عبر تبنى ثلاث شعارات هى الأرض والسلام وحق الأمم فى تقرير مصيرها. بالطبع شعار الأرض لمن يزرعها كان شعار الثورة البرجوازية الراديكالية ولم يكن شعارالثورة الاشتراكية التى كانت تبشر بتأميم الأرض وعدم توزيع المزارع على الفلاحين، وتبنى المزارع الجماعية والمزارع التعاونية. بحيث تقوم الدولة التى ستصبح دولة العمال و"الفلاحين" بمعنى البرجوازية الصغيرة الفلاحية، وتمثل هذا فى التحالف مع الاشتراكيين الثوريين اليساريين. استمر بالطبع تبنى البلاشفة لشعارات تأميم كل الصناعات الكبيرة وإدارة المصانع من قبل لجان العمال، والسيطرة على البنوك وعلى المقومات الأساسية للاقتصاد.
لم يكن هذا هو التغيير الوحيد الذى غيره لينين فى تكتيك الثورة الاشتراكية، أعنى اعتبار الفلاحين المتوسطين والبرجوازية الصغيرة حليفا فى الثورة الاشتراكية، ولكن التغيير الثانى كان التخلى تدريجيا عن فكرة ضرورة الثورة العالمية، على الأقل فى عدد من البلدان المتقدمة، لكى تدعم الثورة الناشئة فى بلد شبه إقطاعى شبه رأسمالى ذو طابع فلاحى مثل روسيا. ظل البلاشفة حتى بعد 1918 فى انتظار الثورة فى الغرب، خصوصا بعد انتفاضات هامة فى ألمانيا والمجر وإيطاليا. من المعروف طبعا كيف تم التخلى عمليا عن تلك الفكرة مع مضى الوقت والتنظير لموضوع الاشتراكية فى بلد واحد حتى إذا لم يكن من البلدان الأكثر تقدما، ولكن المهم ما علاقة هذا بمستقبل بناء الاشتراكية فى هذه الظروف؟ هذا ثانى التحديات التى سوف نراها بعد تحدى غلبة الطابع الفلاحى.
وضح هنا أسبقية الاستجابة للواقع الحى على النظرية الرمادية وكان هذا الشكل ضروريا فى ظل الطابع الفلاحى الغالب على الدولة، وفى ظل انفجار معاناة الأقليات القومية من اضطهاد الشوفينية الروسية قبل الثورة. انتهى التحفظ التاريخى على اشتراك الفلاحين والبورجوازية الصغيرة فى الثورة الاشتراكية وإن كان هذا لم ينفِ أن وجودها فى حلف الثورة يفرض تناقضات يمكن استثمارها لاستعادة الرأسمالية. كما تم عمليا تبنى بناء الاشتراكية فى بلد واحد، ولكن ما هى التناقضات التى انبنت على هذا؟ نحن هنا نحاول قراءة الواقع ولا نحكم عليه حكما قيميا، ونؤكد عليه من زاوية آثاره المقبلة على مسار السلطة السوفيتية.
من المعروف الذى لا يحتاج إلى تكرار بداية السلطة السوفيتية بعد ثورة أكتوبر بالعمل بشيوعية الحرب، كما أنه من المعروف أيضا كيف تطورت تلك السياسة عام 1921 إلى السياسة الاقتصادية الجديدة New Economic Policy NEP بالاستجابة للمجاعة فى المدن وتدهور الإنتاج الزراعى، وانتشار السوق السوداء للحبوب، بالتنازل للبرجوازية الصغيرة الفلاحية من أجل الحفاظ على استقرار واستقلال النظام ومواجهة المجاعة فى المدن. وقد ساهم ذلك فعليا فى القضاء على المجاعة. وشملت التنازلات أيضا تنازلات للكاديت من ملاك الأراضى الزراعية ماعدا المزارع الواسعة. بديلا عن توريد المحاصيل الإجبارى من المزارع لسد حاجة المدن التى واجهها الفلاحون المتوسطون والكاديت بالتهرب من التوريد بالإضافة إلى سد احتياجاتهم هم بالكامل وتخزين السلع، طرحت سياسة النيب توريد قسم فقط من المحصول بالأسعار الإجبارية والتوريد الاختيارى للباقى بسعر السوق. نجح هذا التكتيك فى القضاء على المجاعة فى المدن. مكن كل هذا من مواجهة الحرب الأهلية ثم الحرب ضد التدخل الإمبريالى من جيوش 14 دولة متحالفة مع معسكر البيض للثورة المضادة والانتصار عليهم.
تحدى ما بعد النيب ومرحلة الثلاثينات
حذرت كل الكتب الماركسية الكلاسيكية بدءا من إنجلز فى المسألة الفلاحية فى فرنسا وألمانيا حتى لينين فى موضوعات نيسان وغيرها من التعامل مع الفلاحين بالأوامرية أو الاستبداد، بل وتحدثوا عن فترات طويلة أو عقود من أجل إقناع البرجوازية الصغيرة بوهم حلم استمرارها كطبقة مستثمرة، حيث يتهددها الرأسمال الكبير، ويؤدى حلمها هذا إلى محاولة استدامة أو بعث النظام الرأسمالى طمعا فى الصعود الطبقى، ولكن نتيجته الفعلية هى سحقها وتحولها إلى بروليتاريا زراعية. ولهذا شددوا على أهمية محاولة كسبها لصالح تكتيك التجميع الزراعى والتعاون والسلطة الاشتراكية بالإقناع والنفس الطويل.
لم يكن هذا غائبا عن البلاشفة وحوارات ستالين وزملائه فى منتصف العشرينات. ولكن لظروف الواقع تأثير آخر، دون أن ندع هذا يٌسقِطنا فى التبريرية، فنحن لا نهدف للتبرئة ولا للإدانة، ولكن نهدف فى المحل الأول إلى فهم منطق ما جرى.
كانت هناك ضرورة مباشرة لمنطق السياسة الاقتصادية الجديدة، النيب، فى حماية المدن من المجاعة، وأدت الغاية منها. ثم كان هناك تضييق تدريجى على الكولاك والفلاحين المتوسطين أمام ضرورات عنيفة. كان منطق السلطة السوفيتية مدفوعا بعاملين أساسيين: أحدهما نابع من ثورة البلد الواحد المتخلف وإمكانية عودة العدوان الإمبريالى بعد الانتصار فى حروب التدخل الأجنبى ضد 14 دولة. والثانى نابع من أهمية إنجاز ثورة صناعية تنقل البلد الزراعى إلى بلد صناعى متقدم لدعم كل من الزراعة والاستقلال والاكتفاء الذاتى والتصنيع العسكرى.
من هنا كانت الخطتين الخمسيتين الأولى (1928- 1932) والثانية (1933- 1937) تهدفان إلى الانتقال إلى بلد صناعية خلال عشرة إلى خمسة عشر عاما، وهو ما استغرق فى الغرب بين خمسين إلى مائة عام. كان هذا فى رأيهم ليس فقط من أجل بناء البلد اقتصاديا، ولكنه من أجل الاستقلال الاقتصادى والاكتفاء الذاتى، كما أنه الضمانة لإمكانية رد أى عدوان إمبريالى. كيف يمكن تحقيق التراكم البدائى من أجل التصنيع، الذى تحقق فى الغرب "بالحديد والنار"؟ من الممكن تحقيقه على حساب الفلاحين بفرض التجميع الزراعى الإجبارى لتعبئة الفائض من أجل الخطة الطموحة للصناعة. ثم كان هناك الموسم الزراعى السيئ عام 1928 دافعا آخر للتجميع الزراعى بهدف توفير الغذاء لسكان المدن المتزايدين، وبالتالى كان اختيار الإسراع بتنفيذ التجميع الزراعى الإجبارى على حساب الخطة الطويلة الأجل للإقناع الديمقراطى للفلاحين المتوسطين من أجل الالتحاق بالسلطة الاشتراكية.
من المعروف كيف تم التجميع الزراعى بالقوة بين عامى 1927 و 1929، وكيف أدى هذا إلى تمردات الفلاحين الكثيرة التى تم قمعها بالقوة. كما تمت، من أجل الأمن القومى كما قيل ونذر الحرب فى أوروبا تتزايد، تهجير القوميات فى الأماكن الاستراتيجية مثل شبه جزيرة القرم بالقوة، مع تهجير مضاد للروس إلى تلك المناطق فيما عرف بالروسنة، خشية استغلال تمرد الأقليات من قبل أى قوة إمبريالية فى حالة الحرب، وأيضا تم قمع التمردات القومية بالعنف. أيضا كان هناك التضييق على النقابات العمالية وممارستها النقد، الذى تم تحريمه، للحزب الشيوعى الحاكم. ارتبط هذا أيضا بفتح المجال أمام الاستثمار الأجنبى ودفع الثمن الغالى لتحصيل التكنولوجيا التى لا يمتلكونها للتنقيب على البترول وتوليد الكهرباء.
بالرغم من ذلك حققت خطة التصنيع بدءا من التصنيع الثقيل والتركيز على صناعات الفرع الأول (صناعة وسائل الإنتاج)، نجاحا هائلا فى الخطتين الخمسيتين، إذ استطاعتا خلال عشر سنوات نقل الاتحاد السوفيتى، عام 1937، إلى الدولة الأولى أوروبيا والثانية عالميا من ناحية الناتج الصناعى الإجمالى. تم التراكم البدائى والانتقال إلى دولة صناعية يتوافر لها كل من صناعات الفرع الأول (صناعة وسائل الإنتاج) والفرع الثانى (سلع الاستهلاك) وتعتمد على ذاتها بشكل متزايد وأساسى فى صناعة الآلات والمعدات، وفى مضاعفة حجم السلع الاستهلاكية، وفى دعم الزراعة بالجرارات...الخ (6).
ولكن هذا تم، ليس فقط بالعنف الشديد لسلطة الدولة، ولكن على حساب انهيار التحالف بين العمال والفلاحين، فتم الانفصال بين العمال والفلاحين، وسادت البيروقراطية، وبرزت ديكتاتورية اللجنة المركزية تجاه الحزب، ودكتاتورية الحزب تجاه الطبقة العاملة، والديكتاتورية فى مواجهة الفلاحين والقوميات. وهنا انهارت كل تلك التحالفات وساد الاستبداد البيروقراطى ثمنا لهذا التطور الاقتصادى.
الحرب العالمية الثانية
رغم أخطاء ستالين قبل وفى بداية الحرب بالثقة فى ألمانيا ومعاهدة مولوتوف- ونتروب (وزيرى خارجية البلدين) عام 1939، ونجاح هتلر الأولى فى اجتياح الخطوط السوفيتية واحتلال مساحات كبيرة جعلته على مسافة 16 كيلومترا من موسكو تمكنت روسيا من الصمود ثم عكس مسار الحرب ضد ألمانيا. لقد نقل السوفييت على عجل، بينما القوات تحاول الصمود ببسالة أمام القوات الألمانية وفى حصار لينينجراد وستالينجراد، نقلوا مصانعهم من المنطقة الأوروبية غرب جبال الأورال لحمايتها فى المنطقة الشرقية الآسيوية شرق الأورال، وحولوا مصانع الجرارات إلى مصانع دبابات.
تم إنتاج واختراع كمية هامة من الأسلحة الثقيلة والخفيفة، وتم إنتاج كميات ضخمة من الدبابات والطائرات وتجنيد الملايين من أبناء الاتحاد السوفيتى حتى تمكنوا من تكوين جيش كبير مسلح جيدا وتحقيق التفوق العددى على القوات الألمانية المهاجمة (كانت ألمانيا قد بدأت الهجوم بقوات قوامها أربعة ملايين ونصف مليون جندى). بعد فترة وقف التمدد الألمانى بدأ الهجوم الروسى المضاد المسلح بالسلاح الكافى الذى تم تصنيعه، فتم فك حصار مدنهم الكبرى مثل سيالينجراد ولينينجراد، ودحر الألمان من أراضيهم وحرروا دولا كثيرة فى شرق أوروبا حتى دخلوا برلين وأسقطوا الرايخ الثالث فى إبريل- مايو 1945.
ما يهمنى هنا التركيز عليه هو أن توقعات روسيا العشرينات باحتمال هجوم إمبريالى عليها قد تحقق فى عام 1941. وأن مرحلة التصنيع الثقيل التى استغرقت فترة قياسية استمرت عشر سنوات من سنة 1927 حتى سنة 1937 هى ما مكن روسيا من الصمود والانتصار فى هذه الحرب، خصوصا فى ظل تلكؤ الحلفاء فى الحرب ضد الألمان، وفى مساعدة روسيا وإمدادها بالطائرات وغيرها من المعدات العسكرية، هادفين الاستفادة من هتلر فى إسقاط الاتحاد السوفيتى، على الأقل فى فترة معينة من الحرب. أبرز هنا الأوجه المتعددة للسياسة السوفيتية، الناجحة منها والفاشلة.
من خروشوف إلى بريجينيف وجورباتشوف
من المعروف انطلاق نقد خروشوف لستالين وسياسته بعد وفاته، وذلك أثناء المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى السوفيتى عام 1956. من المعروف كذلك دعوة خروشوف إلى سياسة التعايش السلمى بين الدول ذات الأنظمة الاجتماعية المختلفة، واستغلال نقد الماضى الستالينى فى تعديل السياسة الخارجية تجاه الإمبريالية. ومن المعروف كذلك أن هذا كان نقطة انطلاق النقد الصينى للاتحاد السوفيتى أثناء حكم خروشوف، وتجسد فى كتاب المناظرة الشهيرة بين الحزبين. كان رأى الصين أن هناك أربع تناقضات تحكم العالم: التناقض بين المعسكر الاشتراكى والمعسكر الرأسمالى، والتناقض بين حركة التحرر الوطنى والاستعمار، والتناقض داخل دول المعسكر الإمبريالى بين البرجوازية والبروليتاريا، والتناقض بين الدول الإمبريالية وبعضها.
اعتبر الصينيون أن تلك التناقضات الأربعة تناقضات رئيسية، بينما اعتبر السوفييت أن التناقض الرئيسى بينها هو التناقض بين المعسكرين هو التناقض الرئيسى وإخضاع التناقضات الأخرى له، لينتهى الأمر بالتنظير بأن يتخذ هذا التناقض شكل المباراة الاقتصادية بين المعسكرين. لم تكن الصين مع الحرب الفورية لإسقاط الأنظمة الإمبريالية، وبالتالى فهناك إجباريا فترة من التعايش السلمى بين النظامين الاشتراكى والرأسمالى. ولكن نقدها انصب على تحويل هذا التعايش السلمى من تكتيك إلى استراتيجية.
استمرت معدلات الازدهار الاقتصادى نسبيا فترة خروشوف (1953- 1964). جاءت سياسة بريجينيف لتمثل نقلتين هامتين:
أولا الركود الاقتصادى وسيادة هيمنة البيروقراطية، وتخلف إنتاج سلع الاستهلاك وسوء جودتها، وساهم فى هذا الفصل الكامل بين التطور التكنولوجى الهائل فى الصناعات المرتبطة بالتكنولوجيا العسكرية (الصناعات الحربية والفضاء والذرة وغيرها) وبين تطبيقها فى تكنولوجيا الإنتاج المدنى.
ثانيا التحرك مزيدا من اليمين من استراتيجية التعايش السلمى مع الغرب إلى سياسة التهدئة. بالطبع فى الخلفية كان الضغط الهائل المتعمد من أمريكا على روسيا السوفيتية بسباق التسلح من أجل استنزافها اقتصاديا حيث لا تملك الفوائض الضخمة الناتجة عن الاستغلال الإمبريالى مثل أمريكا والغرب.
جاءت سياسة جورباتشوف أيضا لمحاولة مواجهة أزمة اقتصادية خانقة، وركود مزمن، والاستجابة للضغط الإمبريالى بالمزيد من الاتجاه يمينا فى السياسة الدولة فجاءت سياسة التعاون، بالذات مع زعيمة المعسكر الإمبريالى الولايات المتحدة الأمريكية. ولا داعى هنا لسرد التفاصيل المؤلمة للمرحلة الأخيرة لانهيار الدولة السوفيتية ومن قبلها أوروبا الشرقية، فوقائعها متداولة ومعروفة.
كما برزت الفوارق الضخمة فى الدخول بين المدينة والريف، وبين الأغنياء الجدد، وبين مستوى معيشة الجماهير العريضة.
ولابد لنا أن نتناول هنا موضوع اشتراكية السوق. إن تجربة الاتحاد السوفيتى كما فى تجربة الصين وغيرهم ترينا أن هناك مرحلة البداية والانطلاق من أجل تأسيس دولة صناعية تمتلك هيكلا متكاملا من الصناعات الثقيلة والخفيفة ينجح فيها بشدة التخطيط المركزى، ولكنها بعد فترة تدخل فى ركود. ونظرية اشتراكية السوق هى أهم المحاولات التى تم تجربتها فى الواقع الفعلى فى كل الدول الاشتراكية سابقا تقريبا لحل هذا التناقض. هذا ما حدث مثلا فى التجربة الصينية التى بدأت تطبيق نظرية اشتراكية السوق منذ دنج هسياو بنج عام 1978. ويرى الصينيون أن لجوء الاتحاد السوفيتى إلى اشتراكية السوق جاء متأخرا كثيرا، ولم ينجح- بالإضافة إلى أسباب أخرى، فى منع الانهيار.
أنا هنا أيضا اتبع المذهب الوصفى التقريرى دون مدح أو قدح. لاشك أن كل التناقضات التى أبرزناها فيما سبق بالإضافة إلى اشتراكية السوق يمكن أن تمتلك الوجهين: حل مشكلة، وفى نفس الوقت توفير سبب كامن لاستعادة الرأسمالية. ينطبق هذا على تناقضات موضوع التحالف مع الفلاحين والبورجوازية الصغيرة، كما ينطبق على بناء تجربة اشتراكية وسط مجتمع عالمى تهيمن عليه الإمبريالية. وبالأحرى فإن اللجوء إلى قوانين السوق بما يعنه هذا من إعمالها فى الاقتصاد الداخلى وأيضا فيما يخص فتح الباب أمام الاستثمارات الخارجية، فى الوقت الذى يحل فيه مشاكل فعلية ويزيد الإنتاج فإنه يشكل خطرا محتملا على الأقل على تجربة الاشتراكية (7).
النظر طبيعة إلى السلطة السوفيتية
كيف يمكن النظر إلى طبيعة السلطة السياسية السوفيتية بدءا من المرحلة الاستالينية وتجميع نهاية العشرينات والثلاثينات وحتى السقوط المدوى؟ نستعرض أولا الاتجاهات النقدية المختلفة للتجربة الستالينية، منطلقة أساسا من التروتسكية، ويمكن أن نجد ملخصا جيدا لها فى كتاب كريس هارمان "العاصفة تهب" (8).
ينطلق النقد عموما بدءا من فترة التجميع الزراعى الإجبارى والقمع الذى صاحبه للفلاحين، ومن قمع القوميات. أما بخصوص طبيعة الدولة فتتفاوت الآراء:
1. اعتبرها تروتسكى والأممية الرابعة من بعد التجميع الزراعى دولة عمالية متدهورة، فى مرحلة انتقال بين الرأسمالية والاشتراكية، وأمامها احتمال أن تسير إلى الأمام نحو الاشتراكية عبر انتصار ثورة سياسية عمالية، أو إلى الوراء نحو الرأسمالية عبر انتصار ثورة مضادة بيروقراطية تحطم مقاومة البروليتاريا.
2. وفى القطب المقابل يرى تونى كليف وحزب العمال الاشتراكى البريطانى الذى ينتمى إليه كريس هارمان أن الاتحاد السوفيتى نظام رأسمالية دولة منذ عام 1929، وهذه هى النظرية التى ينحاز إليها المترجم خليل كلفت.
3. بينما يرى ماكس شاختمان وجيمس بورنهام أنها تمثل نظاما استغلاليا جديدا ولكنه ليس رأسماليا هو نظام الجماعية البيروقراطية.
4. وبالطبع ترى الصين منذ عام 1969 أن روسيا تمثل إمبريالية اشتراكية.
فى الحقيقة يبدو لى أن رأى تونى كليف ومن تبعه يحمل شبهة السخط الأخلاقى على الاستبداد الاستالينى. بالطبع لا يمكن أن يوافق أحد على هذا الاستبداد والسلوك، وإن كنا كما أوضحنا لن نحكم حكما خارج الظروف الملموسة التى أنتجته، ولكن الأمر لا يقتصر على ذلك.
ففى السياسة عند تحديد التحليل الطبقى ونوع الطبقة المسيطرة لا يجب الاقتصار على التحليل السياسى بالاستناد إلى التجميع الإجبارى وقمع انتفاضات الفلاحين وبعض القوميات فقط كما لجأ أصحاب رأسمالية الدولة منذ 1929، بل يجب إجراء تحليل متماسك على المستويات الثلاث المتداخلة، المستوى الاقتصادى، والمستوى السياسى والتوازن الطبقى الداخلى، ومتغيرات الوضع الدولى، على ألا يغيب عنا التشابك والترابط بين تلك المستويات.
وفى القطب المقابل يتبدى أيضا سطحية من ينكر أى إمكانية لرأسمالية الدولة على أساس أنه مادامت علاقات الإنتاج متمثلة فى الملكية العامة لوسائل الإنتاج قائمة فلا مجال هناك للقول برأسمالية النظام.
حقا إن جوهر علاقات الإنتاج هو علاقات الملكية، ولكن هذا لا يكفى إطلاقا لتحديد طبيعة النظام القائم. إن علاقات الإنتاج تشمل بجانب علاقات الملكية أسلوب الإدارة، وعلاقات التوزيع، والأهم هدف الإنتاج ومن يسيطر على شروط إعادة الإنتاج، أو بالأحرى ما هى المصالح السياسية التى يخدمها إعادة الإنتاج فى الوضع العينى الملموس.
وإذا كان النظام السوفيتى لا يمكن اتهامه بالديمقراطية منذ عهد ستالين فإن هذا لا يتساوى مع اتهامه بالرأسمالية أيضا. بالطبع تترابط البيروقراطية مع الوضع الاستبدادى، ولكن هناك فرق بين بعض الميزات البيروقراطية التى تعنى بعض الفساد، وبين أن تكون علاقات التوزيع صارخة فى إغناء فئات وإفقار فئات أخرى حتى نقول بأن هذا وضع رأسمالى تسيطر عليه طبقة ما.
ولقد رأينا فيما يخص علاقات الملكية سيادة ملكية رأسمالية الدولة فى مختلف أصقاع العالم بعد الحرب العالمية الثانية دون أن يعنى هذا أن تلك الدول تخلت عن الرأسمالية. لقد قامت دولة الرفاه الاجتماعى فى أوروبا الغربية فى أعقاب الحرب العالمية الثانية على أربعة أسس:
1. ملكية الدولة للمرافق وإدارتها كمرافق خدمية بالتكلفة أو حتى المدعومة أحيانا.
2. تعميم نظام التأمينات الاجتماعية ضد العجز والشيخوخة والبطالة للعاملين، بالإضافة إلى الضمان الاجتماعى للفقراء غير القادرين على العمل.
3. تعميم التأمين الصحى الاجتماعى الشامل سواءً الممول من الضرائب العامة أو الممول من الاشتراكات كخدمة تؤدى بالتكلفة ولا تهدف للربح وتشمل المجتمع كله.
4. تعميم التعليم المجانى بكل مراحله منذ بدايته حتى الجامعة والدراسات العليا أيضا فى أحيان كثيرة.
لم يقتصر الأمر على تأميم الخدمات بل انتقلت هياكل إنتاجية كثيرة إلى ملكية الدولة، بالذات فى الصناعات الضخمة الاستراتيجية التى يعجز عنها القطاع الخاص مثل صناعة الحديد والصلب، ومثل تأميم فرنسا لشركة إنتاج طائرات الميراج بموافقة أصحابها مع استمرارهم فى إدارتها، حتى أعيدت لملكيتهم بعد سنوات طويلة لاحقة.
وارتبطت دول نامية كثيرة تطمح للتنمية فى نموذج ملكية الدولة دون أن تتخلى عن العلاقات الرأسمالية كما يبدو فى علاقات التوزيع وخطط الإنتاج وعملية السيطرة على إعادة الإنتاج.
مازال هناك الكثير من الدراسات التفصيلية المترابطة للمستويات الثلاث، السياسية والاقتصادية والدولية حتى يمكن الجزم بتفاصيل هل حدث سيطرة طبقة رأسمالية على الاتحاد السوفيتى قبل سقوطه ومتى تم ذلك. وفى القلب من الدراسات المطلوبة دراسة عن الإنتاج الاجتماعى وكيف يتم توزيعه بين الأجر الضرورى للعمل، والخدمات العامة، وإعادة الإنتاج الموسع، وحجم الفائض الاجتماعى الذى يعود على فئة قليلة أو كثيرة وبنسبة قليلة أو كثيرة من الناتج المحلى الإجمالى.
خلاصة واستنتاجات
فى حدود المؤشرات الظاهرية يمكن إيجاز الملامح الأساسية المحتملة لتطور التجربة السوفيتية من الأمل إلى الفشل فى التسلسل التالى:
تطورت الفكرة الاشتراكية عبر قرن من الزمان، منذ نظرية الثورة عند ماركس وإنجلز وحتى النظرية التى تبلورت عند لينين قبيل ثورة أكتوبر 1917 من ناحية حلفها الطبقى وبرنامجها. كانت التغيرات التى تمت كل منها يحمل وجها إيجابيا كما يحمل وجها سلبيا:
1. أول تناقض هو أن الثورة فى بلد واحد، أضعف حلقات السلسلة وليس أكثر الدول تقدما يبشر بإمكانية استغلال وضع ثورى فى إنجاز الثورة كضرورة لا غنى عنها، فى نفس الوقت الذى يهدد تلك الثورة بالوسط الإمبريالى المحيط والقوى.
2. لم يكن محتما فى التجربة الاشتراكية إلغاء الأحزاب، وقد طرح لينين تحالفا حزبيا للثورة الاشتراكية بين البلاشفة الممثلين للطبقة العاملة، والمناشفة الممثلين للبرجوازية الصغيرة المدينية، والاشتراكيين الثوريين (القسم اليسارى منهم فيما بعد) الممثلين للبرجوازية الصغيرة الفلاحية. ولم يكن من المحتم أن يفشل هذا التحالف، ولكن خيانة تلك الأحزاب لطبقاتها بحفاظها على تكتيك استمرار الحرب الإمبريالية وتخليها عن توزيع الأرض على الفلاحين هو ما أدى إلى أن تنحو الثورة للتحالف عبر السوفيتات واستبعاد تلك الأحزاب باستثناء الاشتراكيين الثوريين اليساريين بعد انشقاقهم. ليست الاشتراكية من حيث المبدأ ضد تعدد الأحزاب.
3. ثانى تناقض هو أن توسيع حلف الثورة بضم البورجوازية الصغيرة الفلاحية والمدينية يجعل الثورة ممكنة، فى الوقت الذى يجعل هناك إمكانية، بتأثير تلك الطبقات الوسطى، لاستعادة الرأسمالية، وهى إمكانية بالطبع وليست حتمية.
4. ثالث هذه التناقضات أن الردة عن التحالف بين العمال والفلاحين، والديمقراطية فى التعامل داخل هذا التحالف، والديمقراطية فى العلاقة بين الحزب والطبقة العاملة، ضرورية للغاية. وقد شكل غيابها فى التجربة السوفيتية تحول الإدارة إلى إدارة بيروقراطية استبدادية تفتقد إلى ميكانيزم التصحيح عبر علاقة الحزب بالطبقات الشعبية بما فيها الطبقة العاملة، بما يوفر بيئة لنمو الفساد.
5. رابع هذه التناقضات هو أن صيرورة الحكم البيروقراطى يحمل خطر تزايد امتيازات بيروقراطية الدولة، القابلة للتحول إلى فساد واسع يخلق أساسا لاستعادة الرأسمالية، كما يبدو أنه قد حدث فى وقت ما بعد بداية حكم بريجينيف، وترابط فاسدى جهاز الدولة فى علاقات رأسمالية واسعة، وتشكل مافيا كبيرة وضحت وتضخمت بعد سقوط الاتحاد السوفيتى. اتخذ ذلك التحالف بالذات فى أواخر عهد بريجينيف شكل طبقة رأسمالية حاكمة رغم الشعارات المرفوعة.
إلا أن سقوط تلك التجربة الاشتراكية فى ظل ما أوضحناه من محاولة تتبع تناقضاتها الداخلية فى تلك المجالات الثلاث ليس على وجه القطع شهادة لصالح الرأسمالية كما حاولت الدول الرأسمالية أن تدعى، بل إن أزمتها مازالت تتفاقم، والمعارضة الجماهيرية بأقسامها المختلفة تنفجر فى وجهها، فالمؤكد أن تناقضات الرأسمالية لن تحل نفسها، ومستقبل الاشتراكية محتوم فى رأيى. كيف ومتى؟ فلننتظر مزيدا من الدراسات ومن متابعة الواقع الحى النابض أكثر من أى نظرية!
دكتور محمد حسن خليل
القاهرة فى 19 نوفمبر 2017
المصادر
(1) لينين "خطتا الاشتراكية الديمقراطية فى الثورة الديمقراطية" تأليف 1905، نشر مرات متعددة منفردا أو فى مختارات من أعمال لينين بالعربية عن دار التقدم.
(2) تجد ذلك الموقف مشروحا فى أعمال مؤسسى الماركسية بالذات كتابات إنجلز فى "المسألة الفلاحية فى فرنسا وألمانيا"، وفى "الثورة والثورة المضادة فى ألمانيا"، كما تجدها فى كتابات ماركس فى "نقد برنامج جوتة"، وفى الثلاثية بشكل عام وبالذات فى كتاب "الثامن عشر من بروميير، لويس بونابرت". يمكن الرجوع، فضلا عن الأعمال الأصلية بالطبع، إلى عدد من المقتطفات الهامة من تلك الكتابات فى كتاب "الشيوعية العلمية، ماركس، إنجلز، لينين" ترجمة فؤاد أيوب، بالذات فى أقسام (خصائص القضية الفلاحية فى روسيا، ودور تحالف البروليتاريا والجماهير غير البروليتارية فى الثورة الاشتراكية).
(3) كما يعرف الجميع فقد انتقد الحزب الشيوعى الصينى نفسه عن انحرافه اليمينى فى العشرينات بتغليب علاقة التحالف على الصراع فى تحالفه مع الكومنتانج مما أدى عند انقلاب الكومنتانج عليه إلى خسائر فادحة للحزب، كما انتقد الحزب نفسه فى الثلاثينات على انحرافه اليسارى بنقد عدم تحالفه مع الكومنتانج مما أدى بالحزب إلى حافة الذبح ولم تنقذه سوى المسيرة الكبرى الشهيرة. ولكن فى كل الأحوال لم ينتقد الحزب مبدأ التحالف مع الكومنتانج، واستمر بتكتيكه هذا حتى النصف الثانى من الأربعينات واختلاف الظروف، وحزب الكومنتانج الأضعف من حزب الثورة وماو عشية الثورة فى 1949، والذى ظهرت مدى قوته منذ دوره القيادى الضخم فى الحرب العالمية الثانية.
(4) فى استعراض تفاصيل الفترة بين ثورتى فبراير وأكتوبر أنظر كتاب "ثورة البلاشفة 1917- 1923"، الجزء الأول تأليف هاللت كار ترجمة عبد الكريمة أحمد، الناشر وزارة الثقافة المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، دار الكاتب العربى للطباعة والنشر، بدون تاريخ.
(5) موضوعات نيسان هو كتاب شهير صادر عن دار التقدم جمعت فيه خطابات وكتابات لينين فى شهر إبريل 2017 فور عودته من ألمانيا عبر فنلندا، ووضح فيها تكتيكه الجديد.
(6) يمكن فى مراجعة إنجازات الخطتين الخمسيتين 1928- 1937 الرجوع لمقالى الدكتور طه بعد العليم المنشورتين فى جريدة الأهرام: "ثورة أكتوبر الاشتراكية: المقدمات والتداعيات" بتاريخ 14 أكتوبر 2017، و"التصنيع الاشتراكى السوفيتى: مؤشرات الإنجاز" بتاريخ 11 نوفمبر 2017.
(7) أنظر فى ذلك كتاب سمير أمين هذا الموضوع "الاشتراكية واقتصاد السوق، تجارب الصين وفيتنام وكوبا". لا شك أن الموضوع جدير بالدراسة التفصيلية، خصوصا كما ذكرنا فى ترابطه مع السياسة الداخلية والوضع الدولى.
(8) كريس هارمان "العاصفة تهب، حول انهيار النموذج السوفيتى" وفى المقدمة الطويلة والخاتمة التى كتبها المترجم الأستاذ خليل كلفت. دار النهر للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى 1995