-وعد- بلفور الامبريالي – ومشاريع الصهيونية التي سبقت الصهونية


عصام مخول
الحوار المتمدن - العدد: 5688 - 2017 / 11 / 4 - 08:51
المحور: القضية الفلسطينية     


*يصدر اليوم عن وزارة الثقافة الفلسطينية لمناسبة مئوية الحدث، كتاب: "وعد بلفور وتداعيته الكارثية" للكاتب والمناضل الفلسطيني سعيد مضية، وقد وقدم للكتاب عصام مخول - رئيس معهد إميل توما، وننشر فيما يلي التقديم*



في الكتاب الذي يضعه بين أيدينا الكاتب والمناضل الفلسطيني المخضرم سعيد مضية في الذكرى المئوية لوعد بلفور بعنوان: "بلفور وتداعياته الكارثية"! ، يقدم الكاتب تحليلا متميزا لملامح المؤامرة التي تم إعلانها قبل مئة عام في الثاني من نوفمبر 1917، والذي هدف الى إخراج الشعب الفلسطيني من التاريخ ومن الجغرافيا سواء بسواء، و"إسقاط دولة اسرائيل التوراتية في فضاء فلسطين"، وإحلال "شعب" بديل في الجغرافيا نفسها وفي التاريخ والفضاء الفلسطيني الحضاري ذاته كجزء من المشروع الامبريالي النافذ في هذه الحقبة وفي خدمته. وما تزال تداعيات "الوعد – المؤامرة " فاعلة بقوة الى يومنا هذا بعد مئة عام، ليس تجاه فلسطين وشعبها فحسب بل تجاه المنطقة العربية وشعوبها كلها. وحتى تتضح معالم هذا "الوعد – المؤامرة" ولا يساء فهم نواياه ومراميه، فإن وزير الخارجية البريطانية بلفور في رسالة لإزالة القلق و"طمأنة" رئيس وزرائه لويد جورج عام 1919 يكتب مبررا: "إن شعب فلسطين هو الوحيد الذي حرم من حق تقرير المصير (بموجب الوعد ع.م).. وإن الصهيونية أهم بكثير من مصالح ومزاعم سبعمئة ألف فلسطيني يعيشون على هذه الارض العتيقة".
ويشير الصديق والرفيق المناضل سعيد مضية الذي منحني شرف تقديم كتابه الهام، إلى أن وعد بلفور وصك الانتداب الذي اسند اليه انجاز الوعد، يطرح الاسس الصريحة لاستثناء شعب فلسطين من حق تقرير المصير. وأن ما تشهده القضية الفلسطينية اليوم بعد مرور قرن على إصدار "وعد" بلفور هو مواصلة كارثية لهذا النهج.
إن تاريخ المعركة على إخراج الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة من التاريخ ومن الجغرافيا الفلسطينية من جهة، وتتبع معركة الشعب الفلسطيني البطولية على التشبث بوطنه ومواصلة صنع تاريخه ومعركته التحررية وإصراره على انتزاع حقوقه الوطنية وفي طليعتها حقه في العودة وتقرير مصيره واستقلاله الوطني، وعلى انتزاع مكانته بين الشعوب المناضلة وحركة التحرر العالمية من الجهة الاخرى، هما وجهان للمعركة التاريخية ذاتها التي ما تزال محتدمة وفاعلة ومتفاعلة منذ قرن كامل، "تملأ الدنيا وتشغل الناس" في كل مكان من عالمنا المعاصر وتشكل موضوع هذا الكتاب الهام.
ويرصد الكاتب التطور التاريخي مستنيرا بالموقف التقدمي والوطني المتميز لعصبة التحرر الوطني، التي دعت الى استهداف الاستعمار البريطاني وقواته المحتلة والحركة الصهيونية، وعملت في الوقت نفسه على رسم الحدود الواضحة بين الصهيونية من جهة، وبين السكان اليهود في فلسطين. ومسترشدا بالدعوة التي أطلقها فؤاد نصار القائد في عصبة التحرر الوطني، الى "ضرورة إشراك الشعب بكل فئاته في إدارة شؤونه وفي المعركة لتحقيق آماله الوطنية والإنسانية. والى اعتبار طريق الكفاح الشعبي المنظم ضد الاستعمار وأعوانه في سبيل الحرية، هو طريق طويل ولا شك، ولكن ليس هناك من طريق أقصر منه ". لقد كان هذا صحيحا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وما زال صحيحا اليوم أيضا.
ووفاء لنهجه التحليلي وانتمائه للفكر الماركسي اللينيني، وتراث عصبة التحرر الوطني الفلسطيني وتحليلات قادتها المؤسسين وفي طليعتهم فؤاد نصار ود. إميل توما مؤرخ القضية الفلسطينية وصاحب المؤلفين المرجعيين "جذور القضية الفلسطينية" و "الصهيونية المعاصرة" ينجح الكاتب سعيد مضية في كتابه الهام الذي يصدر لمناسبة 100 عام على وعد بلفور، بأن يمسك الثور من قرنيه وهو يموضع الصهيونية في سياقها التاريخي والفكري الصحيح، باعتبارها حركة ولدت في رحم الامبريالية العالمية، وجزءاً من مشاريعها الاستراتيجية للهيمنة على المنطقة العربية والشرق أوسطية. فالصهيونية كانت وما تزال أداة الامبريالية المركزية لتحطيم حركة التحرر القومي العربية باعتبار إفشال حركة التحرر القومي العربية، يفتح الباب أمام الهيمنة الامبريالية بالاعتماد على ساقيها الخشبيتين: الصهيونية والرجعية العربية، التي اختارت غالبا ان تنافس الصهيونية على كسب ود القوى الامبريالية المتنفذة وخدمة مشاريعها.
ويستند الكاتب الى تحليل عصبة التحرر الوطني، ليموضع مشروع "الوطن القومي اليهودي" الذي جاء وعد بلفور لتثبيته وجاء الانتداب البريطاني لتحقيقه، بصفته مشروعاً إمبريالياً أولا – نابعاً عن احتياجات مشاريع الدول الامبريالية المتنفذة وعن التنافس المحتدم بينها – فدغدغ هذا المشروع أحلام بريطانيا وفرنسا وألمانيا في مراحل مختلفة من القرن التاسع عشر، وتصاعد الاهتمام به في تزامن مع الانتقال من مرحلة المنافسة الحرة في الاقتصاد العالمي، الى مرحلة الاحتكارات، والانتقال الى المرحلة الامبريالية.
ومن مفارقات هذه المنافسة بين دول الاستعمار الاوروبي أن المشروع الامبريالي البريطاني المتمثل بإعلان بلفور، قد جرى تسريعه بعد سقوط الامبراطورية العثمانية. في إطار المنافسة الاستعمارية على تركة الدولة العثمانية، ونجحت بريطانيا في استباق تحركات ألمانيا الصاعدة وفرنسا، وذلك بمسارعتها الى استصدار وعد بلفور بشأن الوطن القومي اليهودي في فلسطين. واعترف لويد جورج رئيس الحكومة البريطانية في حينه في كتابه "الحقيقة حول معاهدات الصلح": "بأن بعض ما حفز بريطانيا على إصدار الوعد في هذا الموعد، هي المعلومات التي توالت بأن قيادة أركان الجيش الألماني، ألحت على الأتراك أن يلبوا مطالب الصهيونيين بشأن فلسطين.. وأن الحكومة الألمانية كانت في أيلول 1917 تبذل مساع جدية للاستيلاء على الحركة الصهيونية".





**الصهيونية وليدة المشروع الامبريالي وأداته في المنطقة.. كانت وما تزال!

وجسدت صحيفة "غلاسكو هيرالد" البريطانية بعد صدور تصريح بلفور في 2 تشرين الثاني 1917 مباشرة، عمق هذا التداخل بين الصهيونية والامبريالية عندما سجّلت: "من وجهة النظر البريطانية فإن الدفاع عن قناة السويس يتم على أفضل وجه بإقامة شعب في فلسطين ملتصق بنا، وإعادة اليهود الى فلسطين تحت الرعاية البريطانية."!
ونقل القائد الصهيوني ماكس نوردو ترحيب المنظمة الصهيونية بلعب هذا الدور العميل المعد لها في المشروع البريطاني الامبريالي في المنطقة، فأعلن أمام رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج ووزير خارجيته بلفور في العام 1919:" نحن نعرف ما تتوقعونه منا، تريدون أن نكون حرس قناة السويس، علينا أن نكون حراس طريقكم الى الهند عبر الشرق الأدنى، نحن على استعداد لأن نقوم بهذه الخدمة العسكرية ولكن من الضروري تمكيننا من أن نصبح قوة حتى نقدر على القيام بهذه المهمة "..(ماكس نوردو كتاب "المهمة" ص 57)
إن تتابع اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية عام 1916 ووعد بلفور كآلية لممارستها في فلسطين 1917، وثورة أكتوبر الاشتراكية الكبرى في روسيا التي فضحت مؤامرة سايكس بيكو الاستعمارية السرية لاقتسام المنطقة العربية وتفكيكها وانسحاب روسيا الثورة منها، وصدور صك الانتداب البريطاني على فلسطين في تموز 1921 ومباشرة الانتداب البريطاني على فلسطين وبدء ممارسته في العام 1923 بهدف استعمار فلسطين وتجسيد وعد بلفور في إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، توضح جميعها حقيقة أن إسرائيل لم تنشأ في العام 1948، بل بدأت تتشكل مع تشكل الانتداب البريطاني وتحت رعايته وبالآليات التي وفرها، كجزء من المشروع الامبريالي في المنطقة خلال عشرينيات القرن الماضي، واكتملت ملامحها في العام 1948.
وهذا يوضح أن التناقض الاساسي في القضية الفلسطينية هو التناقض القائم بين حركة التحرر الوطني الفلسطينية وبين الامبريالية ومشاريع هيمنتها.. وبينها وبين الصهيونية بصفتها أداة المشروع الامبريالي ورأس حربته المعنية بالمشروع الامبريالي في منطقتنا والمستفيدة مباشرة منه.
إن تحديد التناقض مع الامبريالية البريطانية والأمريكية لاحقا على أنه التناقض الرئيسي، لا يقلل بأي حال من حدة التناقض مع الصهيونية ومشروعها الاستيطاني العنصري، وانما يضع الصهيونية ومشروعها في سياقه التاريخي والفكري والسياسي الصحيح، كجزء من المشروع الامبريالي وعميل عضوي له.
إن هذا الفهم ينطلق من الاعتراف بالتضحيات العظيمة التي قدمها الشعب الفلسطيني من أجل التحرر والاستقلال، وأن تعثر انتصار قضيته حتى الان نابع عن أن مواجهة الشعب الفلسطيني مع الصهيونية كرأس حربة للمشاريع الامبريالية في المنطقة هي مواجهة مع المشروع الامبريالي ذاته، سياسيا وعسكريا واقتصاديا.
وقد أحسن التعبير عن العلاقة البنيوية المتداخلة بين الصهيونية وبين الامبريالية العالمية، المفكر الماركسي اللينيني والقيادي سابقا في الحزب الشيوعي الاسرائيلي د. وولف إيرليخ، في كتابه "قوة الفكرة" مستخلصاً "أن النشاط الصهيوني يشكل جزءا لا يتجزأ من الاستراتيجية الامبريالية الكونية.. ولا يعني ذلك أنه لا توجد للقيادات الصهيونية ولكبار اصحاب رؤوس الاموال اليهود في البلاد وفي الاقطار الرأسمالية الاخرى مصالح خاصة بهم، كالمصلحة في ترسيخ قاعدتهم المادية في اسرائيل، واستغلال جماهير العاملين في البلاد وسياسة التوسع والاحتلال. ان هذه المصالح الطبقية هي التي توجه نشاط القيادات الصهيونية ومشاريعها. ولكن في نهاية المطاف فإن كل نشاطاتهم وبرامجهم تخضع للإستراتيجية الامبريالية الكونية. وتستطيع هذه البرامج ان تتحقق وتنجح فقط كجزء من الاستراتيجية الامبريالية الشاملة."
هذا هو طابع وعد بلفور ومميزه الاساس وسياقه الفكري والتاريخي، وهذا هو طابع الصهيونية المولودة في رحم الامبريالية والاستعمار، وهو الطابع الذي يتتبعه الكاتب عبر تتبع مفاصل قرن من التآمر على الشعب الفلسطيني والصدام معة لتغييبه وتغييب حقوقه نهائيا.
ان القفز عن نقطة الانطلاق هذه في فهم الصراع مع الصهيونية واسرائيل من شأنه أن يضيع البوصلة وأن يخلط الاوراق، ومن شأنه أن يشوه فهم تاريخ هذا الصراع ومفاصله الرئيسية وتعرجات مشاريع الهيمنة الامبريالية الأمريكية المطروحة اليوم أيضا.
وإذا كانت الامبريالية ومشاريع هيمنتها هي السياق وهي الحاضنة للمشروع الصهيوني، ولوعد بلفور ولنكبة الشعب الفلسطيني وللعدوانية الاسرائيلية المستمرة في المنطقة وللمؤامرات للقضاء على الحقوق القومية للشعب الفلسطيني، ومواصلة الاحتلال والعدوان والقمع، فهل يعول على الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية في هذه المرحلة أن تكون الوسيط الذي يوفر الحل العادل للقضية الفلسطينية ؟!! وهل يعول على الرجعية العربية التي كانت شريكا في المؤامرة على الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني أن تكون حامي القضية الفلسطينية ؟!!




**مفهوم التاريخ عند سعيد مضية يتسع لرصد تضحيات الجماهير الشعبية الثائرة أولا!

وإذا كان الكاتب قد اختزن في كتابه واستعراض كماً هائلاً من التفاصيل والمعطيات والأفكار والأبحاث التي تناولت قضية الشعب الفلسطيني ونكبته ومقاومته والمجازر التي ارتكبت بحقه من زوايا مختلفة عبر قرن من الزمن، وتناولت تورط الحركة الصهيونية في التواطؤ مع أكثر القوى رجعية وعنصرية وفاشية على المستوى العالمي بما فيها النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، وتورط أعتى القوى الامبريالية والرجعية العالمية بما فيها قوىً رجعية عربية، في انتاج وعي زائف ونشر رواية تاريخية مزورة تتبنى الرواية الصهيونية وتروج للمشروع الصهيوني و"الوطن القومي اليهودي" في فلسطين وتبرره، فإن القيمة المضافة في البحث الذي يقدمه الكتاب للقارئ الفلسطيني والعربي تتمثل أولا، بأن مفهوم سعيد مضية للتاريخ الفلسطيني وتاريخ نضال الشعب الفلسطيني التحرري وحركته الوطنية، هو مفهوم يتسع أولا وقبل كل شيء لتضحيات الجماهير الشعبية الكادحة من فلاحين وعمال وفئات شعبية فقيرة، ويؤرخ لبطولاتها ولوعيها المتراكم المناهض على السليقة أحيانا وبالحس الشعبي الصحيح، للامبريالية والصهيونية والرجعية العربية المسئولة جميعها معا وكل واحدة منها على حدة عن نكبة الشعب الفلسطيني وتعثر قضيته.
ويفرد الكاتب في هذا المجال مكانا هاما لدور الانخراط الشعبي الجماهيري في السياسة وفي النضال الوطني التحرري في إحداث التغيير الاجتماعي والقيمي، وخصوصاً عندما يتوقف عند دور المرأة الفلسطينية الكفاحي منذ ثلاثينيات القرن الماضي وسنوات ثورة عام 1936 وأدائها المقاوم، مستندا الى البحث الهام الذي نشرته الباحثة د. فيحاء عبد الهادي حول الأثر الذي تركته تجربة مشاركة "تنظيم رفيقات القسام" في ثورة القسام وفي الثورة الشعبية والفلاحية التي تلتها 1936-،1939 ويتوقف الكاتب عند الفصول التي رصدت أشكال هذه المشاركة النسائية المتميزة في أعمال الثورة والمقاومة، وهو ما يعيد الى الاذهان تجربة المشاركة الثورية الواسعة التي قامت بها المرأة الفلسطينية في الانتفاضة الشعبية الفلسطينية العارمة التي انطلقت في العام 1987 ضد الاحتلال الاسرائيلي، وانعكاس هذه المشاركة على مستوى متقدم من مكانة المرأة ومشاركتها وعلى القيم الاجتماعية التقدمية والثورية كلها. مثبتاً بذلك أن الانغماس الشعبي الثوري الواسع في النضال الشامل هو المصفاة الاجتماعية لكل ما لحق بمجتمعاتنا من قيم رجعية وشوائب اجتماعية عالقة من الماضي.
لقد أتاح لنا الكاتب والمناضل العريق سعيد مضية في كتابه القيم، أن نقرأ التاريخ ليس نحو الماضي فقط، وانما ان ننظر الحاضر بمنظار أوضح، وأن نرى إن الانخراط في المشاريع الامبريالية الامريكية في المنطقة اليوم، وتحالف بعض الانظمة الرجعية العربية مع اسرائيل والتطبيع المجاني معها، والتآمر المهزوم والذي بات مفضوحا وفاضحا على تفكيك سوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان، والتهديد بحرب على المقاومة اللبنانية، واستعداء ايران وتبني خطاب التفتيت المذهبي تشكل جميعها جزءا بائساً من مشروع الهيمنة العدوانية الامبريالية المتجددة بعد مئة عام على وعد بلفور لتفكيك المنطقة العربية ثانية في إطار سايكس بيكو جديد، واستحداث كيانات جديدة ترفرف فوقها الأعلام الاسرائيلية والمحاولات الفاشلة لإجهاض انتصار سوريا والعراق على داعش وجبهة النصرة والحرب الارهابية المعولمة التي شنت عليها، ولكن يبقى بالمقابل، أن طريق الكفاح الشعبي المنظم ضد المشاريع الامبريالية، ومقاومة الشعوب لمؤامرات ثلاثي الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية وحشد التحالفات لمواجهتها، هو أقصر الطرق وأقلها كلفة لنيل الحرية والتطور والكرامة الوطنية والانسانية.