قراءة متمعنة في كتابين -مذكرات هاشم الشبلي- و -محطات سوداء في تاريخ العراق الحديث-


كاظم حبيب
الحوار المتمدن - العدد: 5679 - 2017 / 10 / 25 - 22:05
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات     

الكاتب: هاشم الشبلي
الكتاب الأول: مذكرات هاشم الشبلي (عام 2016)
الكتاب الثاني: محطات سوداء في تاريخ العراق الحديث 1936-2017 (عام 2017)
دار النشر: دار دجلة، عمان - الأردن
(صورة لغلاف الكتابين)
الحلقة الأولى
صدر للكاتب والحقوقي العراقي الأستاذ هاشم الشبلي كتابين في عامي 2016 و2017. وهما كتابان قيّمان يبحثان في وقائع وأحداث ونضالات ونجاحات وفواجع ونكبات العراق الحديث، العراق الملكي وعراق الجمهوريات الخمس المتتالية. كما أن الكتابين يكملان أحدهما الآخر. في الكتاب الأول، الذي يطرح فيه الكاتب مذكراته الشخصية، يمر بسرعة نسبية على الكثير من الأحداث التي عاصرها وعاش مراراتها، ليعود في كتابه الثاني ليركز على أهم تلك الأحداث وأكثرها مأساوية للشعب العراقي كله أو لأجزاء منه، ومنهم الفئة المثقفة التي عانت بدورها وعاشت مخاضات أحداث العراق العصية على الفهم أحياناً لمأساويتها وحجم الفواجع فيها من موت واسع ودمار شامل وخراب ورثاثة، تلك الأحداث المريرة التي تسببت بها النظم السياسية العراقية غير الديمقراطية والاستبدادية، وكذلك دور المجتمع الإقليمي والدولي في التسبب بها أو إشعال فتيل حروب العراق. يصعب فصل الكتابين عن بعضهما، وبالتالي لا بد من قراءة متفاعلة مع الكتابين وبتكثيف شديد.
هاشم الشبلي شخصية حقوقية وسياسية ذات وعي ونهج ديمقراطيين عميقين، نهل من تاريخ العراق الحضاري والفكر النضالي فيه، ومن معين الفكر التقدمي والديمقراطي العالمي، والتزم بهما وبالعدالة الاجتماعية والسلام في مسيرته السياسية المديدة، هذه المسيرة التي بدأت عملياً مع بداية الخمسينيات من القرن العشرين واستمرت حتى الوقت الحاضر، وأتمنى له المواصلة والصحة والعافية وطول العمر.
شارك هاشم الشبلي في نضالات شعبه قبل ثورة تموز 1958 وما بعدها وعانى، هو وأفراد عائلته، الكثير من المشقات والسجون والتعذيب، دون أن يصيبه اليأس أو الإحباط، وحافظ على علاقته الوطيدة بالشعب وأهدافه وطموحاته من جهة، وبالأرض التي ولد عليها وعاش مع عائلته الكريمة والمناضلة ومع اقرانه فيها وتحمل وزر انتماءاته السياسية الوطنية والديمقراطية ومبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والدولة المدنية العلمانية. لم أتعرف عليه عن قرب، ولكني عرفته من خلال اربع وقائع:
أولاً: مقالاته التي كان ينشرها في أعقاب سقوط الدكتاتورية البعثية والصدامية الغاشمة التي تسنى لي قراءتها والاستفادة منها، والتي يمكن العثور عليها في موقع الحوار المتمدن.
ثانياً: نهجه الديمقراطي المستقل وسياساته ومواقفه المميزة حين أصبح وزيراً للعدل في ثلاث وزارات بين 2004-207 ممثلاً عن الحزب الوطني الديمقراطي.
ثالثاً: عبر أحاديثي مع شخصيات ديمقراطية صديقة له، منهم الدكتور عبد الأمير العبود وأستاذي الفاضل نجيب محي الدين والدكتور الطيب الذكر مهدي الحافظ، إضافة إلى ما ورد عنه في كتاب الأستاذ نصير الچادرچي الموسوم "مذكرات نصير الچادرچي" الصادر في العام 2017 عن دار المدى ببغداد والذي تسنى لي الكتابة عنه.
رابعاً: من خلال الكتابين اللذين اسعى لممارسة قراءة نقدية موضوعية لهما والتي اعطتني الكثير من المعلومات المهمة عن شخصيته وأفكاره وممارساته الديمقراطية في مختلف مراحل حياته ومواقفه السياسية.
إن قراءتي للكتاب الأول منحني الثقة بأني أمام كاتب يتسم بالصدقية التامة وبوضوح الرؤية والفكر المستقل القادر على اتخاذ الإجراء والموقف المناسب مهما كانت الأوضاع الحرجة التي يمر بها أو يواجهها، إضافة إلى قناعته العميقة بقدرة الشعب العراقي، رغم كل المرارات التي يعيش تحت وطأتها، على يتجاوزها يوماً، ويغذ السير لبناء العراق الديمقراطي والتقدمي والعلماني الجديد. يتلمس القارئ ذلك من خلال صفحات الكتابين والتي سأحاول تناولهما معاً، رغم صعوبة ذلك. كان بإمكان الكاتب أن ينجزهما في كتاب واحد، ولكن الحصيلة ستكون على حساب المضامين الواسعة للأحداث في الكتاب الثاني الموسوم "محطات سوداء.." أو أن يصبح الكتاب الأول كبيراً جداً بحيث يصعب طبعه في كتاب واحد، وحسناً فعل.
يتضمن الكتاب الأول ثلاثة عشر فصلاً بدءاً من الولادة ومروراً بالدراسة وبواكير العمل السياسي، فثورة تموز 1958، ثم الانقلابات السياسية والعسكرية المتتالية، فالنظم الاستبدادية والحروب، والحصار والدمار واحتلال العراق، الذي انتهى إلى إقامة نظام سياسي طائفي ومحاصصة طائفية مقيتة بالبلاد. أما الكتاب الثاني الموسوم "محطات سوداء في تاريخ العراق الحديث 1936-2017"، وجاء الكتاب في اثني عشر فصلاً، بدءاً من تأسيس الدولة العراقية الملكية الدستورية، ومروراً بالانقلابات المتتالية تفصيلاً، ثم الحروب المتتالية والاحتلال الدولي للعراق بقيادة الولايات المتحدة، والحكومات التي تشكلت خلال الفترة الواقعة بين إسقاط الدكتاتورية الغاشمة واجتياح داعش للموصل ونينوى، فالحشد الشعبي العقائدي، وأخيرا معنى أو مفهوم الوطنية الحقيقية مع مجموعة من الوثائق والصور.
ولد الأستاذ هاشم الشبلي في عائلة بغدادية عريقة برز فيها العديد من الشخصيات الفنية والديمقراطية المعروفة في الأوساط العراقية، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الفنان المسرحي، الممثل والمخرج، حقي الشبلي وشقيق الكاتب الأستاذ المناضل قاسم الشبلي. تهيأت للجيل العراقي الذي ولد في الثلاثينيات من القرن الماضي، وأنا منهم، فرصة العيش في العقدين اللاحقين بشكل خاص أحداثاً كبيرة، منها نهوض النازية والفاشية والعسكرية وإشعال الحرب العالمية الثانية وانهيار مشعليها في العام 1945 ثم بروز المنظومة الاشتراكية على الصعيد العالمي. كما توفرت المزيد من الكتب الحديثة والروايات الديمقراطية والاجتماعية لكتاب بارزين عربياً وعالمياً مثل سلامة موسى وجورج حنا وشبلي شميل وجون شتاينبك وهمنغواي وتولستوي ودستويفسكي وغوغول وغيرهم، التي ساهمت كلها في نشر الوعي التقدمي وفي توفير الأجواء المناسبة لتبلور وبروز حراك سياسي متميز للقوى الديمقراطية العراقية منذ العام 1946، بعد ركود نسبي في أعقاب انقلابين عسكريين بقيادة بكر صدقي العسكري ( من مواليد مدينة عسكر) في العام 1936 وانقلاب رشيد عالي الگيلاني في العام 1941، والذي تجلى في انطلاقة الوثبات والانتفاضات المتتالية لمواجهة سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة في العهد الملكي والتي غيبت الحياة الديمقراطية والحريات العامة وانخراطها في الأحلاف العسكرية. في هذه الفترة بالذات، حيث كان عمر هاشم الشبلي قبل بلغ الثالثة عشر سنة، حين حصلت وثبة كانون الثاني 1948 التي رفضت الأحزاب الوطنية والديمقراطية والقومية، العلنية منها، مثل الحزب الوطني الديمقراطي وحزب استقلال، والأحزاب السرية، الحزب الشيوعي وحزب الشعب وشخصيات مميزة مثل الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري والشخصية الديمقراطية التقدمية عبد الفتاح إبراهيم.. الخ، استبدال معاهدة 1930، التي أطلق الشعب العراقي عليها بـمعاهدة "الاسترقاق"، بمعاهدة بورتسموث، في فترة رئاسة صالح جبر لمجلس الوزراء. وقد شارك الصبي هاشم الشبلي بها، والتي ساهمت في بدء تفتح وعيه السياسي المبكر. وقد كان للدماء التي سالت والرصاص الذي لعلع من بنادق الشرطة في مواجهة المتظاهرين دورها في إدراك طبيعة الحكم القائم بالعراق.

تميزت الفترة الواقعة بين 1948-1952 بنشاط سياسي وثقافي واسعين، إذ يشير في كتابه الأول إلى ذلك بقوله: "كانت تلك الحقبة تمور بنشاط سياسي وفكري وثقافي واسع، تقوده وتحركه الأحزاب الديمقراطية واللبرالية والقومية وفي مقدمتها (الحزب الوطني الديمقراطي) و(الحزب الشيوعي العراقي) و (حزب الاستقلال)، وكانت جريدة (الأهالي) الناطقة باسم -الحزب الوطني الديمقراطي) في مقدمة الصحف التي توجه النقد الشديد لسياسات الحكومات المتعاقبة وتطالبها بإطلاق الحريات العامة وإطلاق سراح المعتقلين والإفراج عن السجناء والسماح بتشكيل النقابات والمنظمات المهنية والعمالية وتحقيق الديمقراطية وإيجاد فرص عمل للعاطلين وخاصة المثقفين منهم." ثم يشير هاشم الشبلي أيضاً إلى مساهمة "نشرات (الحزب الشيوعي) السرية بنقد سياسات السلطة ومطالبتها بإطلاق الحريات العامة والإفراج عن السجناء ومعالجة الأوضاع الاقتصادية التي كانت تزداد سوءاً يوماً بعد يوم". (الكتاب الأول ص 39). فكان من نتائج ذلك، وإصرار الحكم على سياساته الرجعية المعبرة عن مصالح الإقطاعيين وكبار الملاكين ومصالح بريطانيا بالعراق إن انطلقت انتفاضة 1952 التي أجبرت النظام على وضع شخصية عسكرية على رأس السلطة هو الفريق نوري الدين محمود وإعلان الأحكان العرفية (الطوارئ) بالبلاد واعتقال الالاف من المناضلين في سائر أنحاء العراق وزجهم في المعتقلات وإصدار الأحكام القاسية بحق المئات منهم.
كان تنامي الحس الوطني والديمقراطي لدى الشاب هاشم الشبلي قد دفعه إلى الارتباط بالحزب الشيوعي العراقي والانتماء له، إذ رفض من دعاه لدخول حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي كان قد تأسس في العام 1952 ببغداد، إذ كتب يقول: ..، لأنني لم أقتنع بما قرأت من أدبيات الفكر القومي، ووجدته هشاً وضبابياً، وتجاوبت مع الفكر الماركسي والديمقراطي التقدمي،.." (الكتاب الأول ص 41).
وخلال الفترة الواقعة بين 1936-1952 وقعت مجموعة من الأحداث التي يمر عليها الكاتب في كتابه الأول ويبحث فيها في كتابه الثاني، منها انقلاب 1936 وانقلاب 1941 والفرهود ضد اليهود في العام 1941 ومن ثم تقسيم فلسطين والاعتراف بإسرائيل في العام 1947 وحرب فلسطين عام 1948، وقرار إسقاط الجنسية عن اليهود العراقيين في العام 1950 وعواقبه. وسنحاول أن نتناول بعضها فيما يلي:

انقلاب بكر صدقي
يتوقف الكاتب جيداً ويبحث بعمق في أسباب انقلاب بكر صدقي. ففي العام 1936 وقع انقلاب عسكري قاده الفريق بكر صدقي العسكري وبالتعاون والتنسيق مع حكمت سليمان وجماعة الأهالي وجمعية الإصلاح الشعبي. وكانت أفكار جماعة الأهالي (1932)، ومن ثم الإصلاح الشعبي (1934) تنتمي جزئياً إلى الاشتراكية الديمقراطية الإصلاحية، وذات برنامج تقدمي مشترك لخصت فيه الأهداف والمهمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تسعى إلى تحقيقها. وكان حكمت سليمان عضواً في هذا الجماعة. وكان هذا الانقلاب أول تدخل فعلي لفصيل من القوات المسلحة في الحياة السياسية العراقية وبالتعاون مع جماعة وطنية وديمقراطية عراقية مثل جعفر أبو التمن وكامل الچادرچي وعبد الفتاح إبراهيم. وإذ رفض في البداية كل من محمد جعفر أبو التمن وعبد الفتاح إبراهيم استخدام القوات المسلحة للوصول إلى السلطة، إلا إن محمد جعفر أبو التمن قد تراجع عن موقفه ووافق المشاركة في الانقلاب، في حين استمر عبد الفتاح إبراهيم رافضاٌ مبدئياً وعلياً وبإصرار مشاركته ومشاركة الجماعة في تنفيذ الانقلاب، باعتباره خرقاً للدستور وتجاوزا على الديمقراطية ومهمات القوات المسلحة العراقية، إضافة إلى إنها بادرة ستجر بعدها انقلابات أخرى، وكان على حق كبير. علماً بأن حكومة ياسين الهاشمي حينذاك لم تمارس سياسة ديمقراطية بل "ارتكبت أخطاء أساءت إلى الحكومة كالفساد واستغلال النفوذ ورعاية المنافع الخاصة وتفشي المحسوبية والرشوة وإهمال مصالح الشعب واستخدام القوة المفرطة في قمع احتجاجات العشائر المطالبة بحقوقهم وتمرد الآشوريين وزج الجيش في قمع الاضطرابات الداخلة وملاحقة الصحافة والأحزاب والنقابات بإجراءات مخالفة للقانون، لهذه الأسباب فقد عمّ الاستياء والتذمر والملل من الحكومة." (الكتاب الثاني، ص 24). ومع ذلك لم يكن الانقلاب طريقاً سليماً لتغيير الأوضاع. وهو الدرس الذي استفاد منه فيما بعد السياسي العراقي الكبير كامل الچادرچي. لقد شارك في حكومة الانقلاب التي ترأسها حكمت سليمان أربعة من جماعة الأهالي بضمنهم أبو التمن والچادرچي. إلا إن الحكم الفعلي لم يكن بيد الحكومة بل بيد بكر صدقي العسكري، إذ يشير الكاتب "وقد أساء بكر صدقي للشعب وللبلد حيث فرض سيطرته وأساء استعمال السلطة وأصبح الحاكم الفعلي للبلاد"، مما أدى إلى رفض هذه السياسات من قبل القوى الديمقراطية ومن جماعة الأهالي المشاركة في الحكم ومن أوساط عسكرية وشعبية واسعة، إضافة إلى مقاومة أجزاء من الفئات الحاكمة، مما استوجب استقالة وزراء جماعة الأهالي. وقد سقط النظام بعد اغتيال قائد الانقلاب بكر صدقي بالموصل في العام 1937. يشير الأستاذ هاشم الشبلي إلى سياسة بكر صدقي بقوله "ومن الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها الفريق بكر صدقي هو قتل الفريق جعفر العسكري ( وهو من نفس مدينة عسكر التي ولد فيها بكر صدقي العسكرين، ك. حبيب) وزير الدفاع عندما حاول الأخير إيقاف زحف قوات الانقلابيين إلى بغداد حيث اتصل بقائد الانقلاب بكر صدقي وأبلغه بأنه يحمل رسالة من الملك غازي ووزير الخارجية نوري السعيد، إلا إن بكر صدقي وقبل أن يستلم الرسالة أرسل من يقتل العسكري فجردوه من سلاحه وقتلوه، وبهذا فقد ألَّب الفريق بكر صدقي الجيش عليه لأن جعفر العسكري كان شخصية متوازنة وحبوبة ومسالمة ومن مؤسسي الجيش والدولة الحديثة." (المصدر السابق نفسه، ص 25). كما أنه قد مارس ولأول مرة في تاريخ العراق الحديث نهج: الاستبداد والعداء للقوى اليسارية وخاصة الشيوعيين والديمقراطيين، وأسقط لأول مرة أيضاً الجنسية عن شخصيات شيوعية عراقية معروفة عبد القادر إسماعيل وأخيه يوسف إسماعيل وإبعادهما على خارج العراق. ويؤكد الكاتب، وهو شخصية حقوقية ووزير عدل سابق، بأن بكر صدقي قاد "أول انقلاب ضد الشرعية وضد الدستور والقوانين المرعية وضد القيم والمبادئ الديمقراطية التي تستلزم أتباع الطرق والأساليب الديمقراطية والسياسية عند المطالبة بالتغيير.." (الكتاب الثاني، ص 26)، وهو يرفض العنف والقوة للاستيلاء على السلطة.

انقلاب رشيد عالي الگيلاني
عالج الأستاذ هاشم الشبلي بتوسع مناسب انقلاب الأول من مايس/أيار 1941 من حيث العوامل والأسباب التي دعت إلى هذا الانقلاب، والصراعات التي كانت تدور بين قوى المعارضة السياسية والفئات الحاكمة والبلاط الملكي، وانحياز الحكومة في الحرب التي نشبت بين دول المحور والحلفاء الثلاث (المانيا وإيطاليا واليابان) من جهة، والدول الأوروبية المتحالفة مع روسيا والولايات المتحدة الأمريكية من جهة ثانية، إلى جانب التحالف الدولي المناهض لدول المحور، مؤكدا إن الخلاف قد انصب على ثلاثة عوامل:
1) رغبة المعارضة في ألّا يزج العراق في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل؛ و2) رفض إملاءات الدولة البريطانية على الحكومة العراقية وتزايد مطالبها في وضع القواعد العسكرية البريطانية في خدمة الحرب ضد دول المحور؛ و3) تزايد النقمة الشعبية ضد الحكومات العراقية المتعاقبة بسبب تعاونها مع الحكومة البريطانية. لا شك في أن هذه التكثيف للمسألة سليم من حيث مجرى الأحداث بالعراق حينذاك. إلا إني أختلف بعض الشيء مع الأستاذ هاشم الشبلي في تشخيص الموقف وموقف أكثر القوى المعارضة حينذاك، والتي تمثلت بمجموعة القوى القومية العربية العراقية، إذ إن ما ذكره من الأسباب بقدر ما هي صحيحة ليست كافية للتعبير عما حصل بالعراق حينذاك. فعلى وفق قناعتي ودراستي المستفيضة لحيثيات الانقلاب وقواه الفعلية وعلاقاته الداخلية والخارجية، أوكد فعل عوامل أخرى لتنفيذ الانقلاب المذكور، وألخص رأيي بما يلي:
كان القوميون العراقيون العرب حتى ذلك الحين ينتظمون في نادي المثنى الثقافي، ولكنهم كانوا يتحرون عن فرصة مناسبة لتشكيل تنظيم حزبي سري يساعدهم على تحقيق الأهداف التي كانوا يسعون إليها. وراودت هذه الفكرة أذهان العسكريين والمدنيين الذين قادوا الحركة فيما بعد، وخاصة صلاح الدين الصباغ، محمد يونس السبعاوي ومحمد حسن سلمان منذ عام 1937. (راجع: عبد الله الجيزاني، حزب الاستقلال العراقي 1946-1958 التجربة الفكرية والممارسة السياسية. الطبعة الأولى 1994. ص 42). وتكرست هذه الرغبة أكثر فأكثر منذ مجيء الحاج أمين الحسيني، مفتي الديار الفلسطينية، ومجموعة من الفلسطينيين الذين أجبروا على مغادرة فلسطين، إلى بغداد. وتحت تأثيره ودوره المباشر وتأثير الوضع المتأزم بفلسطين حينذاك اتخذت حركة القوميين العرب مساراً جديداً بعدة اتجاهات أساسية، وهي:
1. تشكيل لجنة للتعاون مع البلدان العربية التي ضمت في عضويتها "رشيد عالي الگيلاني وناجي شوكت وناجي السويدي ويونس السبعاوي والعقداء الأربعة والعقيد إسماعيل حقي من العراق، وشكري القوتلي وعادل أرسلان وزكي الخطيب من سورية، ويوسف ياسين وخالد الهود من العربية السعودية". (راجع: عبد الرزاق الحسني، الأسرار الخفية في حركة السنة 1941 التحررية، ص 9). وهي لجنة علنية اعتبرت قاعدة لنشاطها العلني بين الأوساط العراقية ولتعزيز تحركها الشرعي على الأقطار العربية الأخرى.
2) تأمين غطاء حزبي سري ينظم ويوجه العملية السياسية بالعراق لصالح أهداف الجماعة. وفي ضوء ذلك تقرر في شهر شباط من عام 1941، وقبل تسلم رئاسة الوزراء من قبل رشيد عالي الگيلاني، تشكيل حزب سياسي سري باسم حزب الشعب، كما منح كل عضو في هذا الحزب اسماً حزبياً سرياً. (المصدر السابق نفسه، ص 109). وأعطيت القيادة لمفتي الديار الفلسطينية الحاج أمين الحسيني (مصطفى)، كما كان في عضويته كل من رشيد عالي الگيلاني (عبد العزيز) وصلاح الدين الصباغ (رضوان) ويونس السبعاوي (فرهود) وفهمي سعيد (نجم) ومحمود سلمان (فارس) وناجي شوكت (أحمد). (ناجي شوكت. سيرة وذكريات…. الجزء الثاني. مكتبة اليقظة العربية. بغداد. 1990. ص433/434 و510-514).
وضم الحزب أيضاً المجموعة التالية من الأعضاء: محمد علي محمود وداود السعدي ومحمد حسن سلمان وعثمان حداد. وكانت المجموعة، التي أقسمت اليمين على الإخلاص للقضية التي تناضل من أجلها وللحزب الذي أسسته سراً حتى النهاية، تجتمع باستمرار لاتخاذ القرارات المناسبة، وهي التي قررت تنفيذ الانقلاب الذي وقع في الأول من مايس عام 1941. وشكل الحزب القومي السري جناحاً عسكرياً ضم في عضويته صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد ومحمود سلمان وغيرهم. (عبد الله الجيزاني، مصدر سابق، ص 42). وهي أول بادرة في حزب مدني عراقي يشكل جناحاً عسكرياً فيه. ولا شك في أن جماعة الأهالي قد ربطت بها بعض العسكريين من قادة الانقلاب، ولكنها لم تشكل منهم جناحاً عسكرياً تابعاً للحزب. كما إن الحزب الشيوعي العراقي كان يضم في صفوفه ضباطاً وجنوداً، ولكنه لم يشكل حينذاك تنظيماً عسكرياً خاصاً وتابعاً للحزب، رغم وجود دعوات لتشكيل مثل هذا التنظيم ومنه الرفيق زكي خيري، عضو اللجنة المركزية حينذاك. وجدير بالإشارة إلى أن المجموعة المدنية من هذه التشكيلة القيادية والأعضاء، وهم رشيد عالي الگيلاني، ناجي شوكت، علي محمود الشيخ علي، يونس السبعاوي، محمد علي محمود، داود السعدي، والدكتور محمد حسن سلمان، قد قدمت طلباً رسمياً في أعقاب القرار السري الذي اتخذ بتشكيل الحزب ولجنته السرية، أي بتاريخ 27 آذار/مارت من عام 1941، إلى وزارة الداخلية لتكوين حزب سياسي باسم "حزب الشعب" قبل استقالة وزارة العميد طه الهاشمي دون أن يجاب الطلب. (راجع: عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات، الجزء الخامس، ص 194). ويلاحظ بأن الأسماء التي غابت عن طلب التأسيس الرسمي هي الجماعة العسكرية والمفتي الحاج محمد أمين الحسيني، أي احتفظوا بالكادر العسكري سرياً.
3) وعلى غرار كتائب الشباب الهتلرية عمد قادة حزب الشعب السري أو اللجنة السرية، وفي خضم تنامي السيطرة على السلطة، إلى تأسيس "كتائب الشباب" لتأخذ على عاتقها تعبئة الشباب وراء الحركة ودعم حكومة الگيلاني ومساعدتها في قبول متطوعين لمواجهة التعبئة العسكرية البريطانية وعملياتها العسكرية بالعراق، وضمان تقديم المساعدة لأسر الشهداء والجرحى. "وكان نواة كتائب الشباب، كما يشير إلى ذلك السيد عبد الجبار حسن الجبوري وفق الوثائق المتوفرة، طلاب كليتي الحقوق والطب ودار المعلمين" وكان يشرف على هذه الكتائب "محمد درويش المقدادي (الرئيس) وإبراهيم شوكت وواصف كمال وسليم محمود الأعظمي وعبد الرحمن البزاز وعباس كاشف الغطاء وحسن الدجيلي وعبد الكريم كنونة وعبد المجيد القصاب". (عبد الجبار حسن الجبوري، الأحزاب والجمعيات السياسية في القطر العراقي 1908-1958. مصدر سابق. ص 106). وقامت الحكومة بإرسال ضابط عسكري للقيام بتدريب أفراد الكتائب، وهو الرئيس الأول سامي عبد القادر.
4) انتهاج سياسة مناهضة بالكامل لبريطانيا وحرمانها قدر الإمكان من تعاون العراق معها في الحرب ضد ألمانيا ودول المحور الأخرى، (الصباغ، صلاح الدين، فرسان العروبة، ص 130/131)، رغم أنها كانت تشير في أدبياتها العامة إلى ضرورة المحافظة على العلاقات التقليدية الطيبة مع بريطانيا. وفي الوقت ذاته إقامة الروابط المستمرة مع ألمانيا وإيطاليا واليابان لصالح استقلال الدول العربية ووحدتها. وكان الحاج أمين الحسيني قد أقام قبل ذاك علاقات سياسية مع ألمانيا وساهم في إرسال صحفيين عرب يشاركون في العمل في إذاعة برلين الهتلرية الموجهة ضد الحلفاء ومن أجل تحريض العرب لدعم ألمانيا، إضافة إلى تحريض العرب ضد النظم السياسية القائمة فيها، وخاصة ضد تلك الدول المتحالفة مع بريطانيا وضد قطع علاقاتها الدبلوماسية مع ألمانيا وإيطاليا بناء على طلب بريطانيا. (راجع: نجم الدين السهروردي، التاريخ لم يبدأ غداً، حقائق وأسرار عن ثورتي رشيد عالي الگيلاني 41 و58 بالعراق، ط 2، شركة المعرفة، بغداد_ 1989، ص 220).
5) ربط المصلحة العراقية بالمصلحة الفلسطينية والانطلاق منها في تحديد سياسة العراق إزاء بريطانيا.
6) العمل على تسلم السلطة بالعراق وإزاحة المتعاونين مع بريطانيا كلية.
ويشير ناجي شوكت إلى ما يلي: "وقد أقسم أعضاء اللجنة السرية السبعة على أن يعملوا كل ما في وسعهم من قوة وإيمان خالص لإنقاذ العراق وسائر البلدان العربية من الاستعمار وأذناب الاستعمار، وتحقيق الاستقلال لها على أن تراعي ما يلي:
1. المحافظة على الوضع الراهن، وعدم التعرض للمعاهدة العراقية - البريطانية في الوقت الحاضر، حتى ينجلي الموقف نتيجة تطور الأحداث العالمية، والسير في الأمور بروية وتبصر.
2. إذا كان لا بد من قطع علاقات العراق السياسية بإيطاليا، فيجب أن يستند القرار في ذلك إلى موافقة مجلس النواب بحرية كاملة.
3. يجب السعي لإبعاد أذناب الاستعمار وعملاء الإنكليز، أمثال نوري السعيد، وجميل المدفعي، وعلى جودت، وأمثالهم إلى خارج العراق بتعيينهم كسفراء في لندن، وواشنطن، والقاهرة، وغيرها، وذلك للتخلص من شرورهم في هذه الحرب الطاحنة.
4. تعديل الدستور العراقي في أول فرصة ممكنة لتحديد صلاحيات الوصي واستصواب أحلال مجلس وصاية بدلاً منه". (ناجي شوكت، سيرة وذكريات، الجزء الثاني، مصدر سابق. ص 434/435).
وقد أضاف صلاح الدين الصباغ أهدافاً أخرى لمهمات اللجنة السرية للحزب السري، كما وردت في كتابه المعروف "فرسان العروبة"، والتي اعتبرها ناجي شوكت قضايا غير جوهرية. ويؤكد صلاح الدين الصباغ إلى أن القرار الذي تضمن النص التالي: "لما كان الإنكليز قد أقدموا بتشجيع أذنابهم على فرض مطالب مجحفة تتوخى زج العراق في الحرب، وإرغام باقي الأقطار العربية على السكوت وعدم المطالبة بحقوقها، فأن عزم طه (والمقصود طه الهاشمي، ك. حبيب) على قطع العلاقات السياسية مع إيطاليا بصورة فجائية وبدون استشارة المجلس النيابي أو الجيش لن يرضي الإنكليز، ولن يقعدهم عن تحقيق غاياتهم كاملة. لذلك، فأن الإنكليز سيعملون على إقصاء قادة الجيش المخلصين، ليسيطروا عليه ومن ثم ينقاد العراق لهم كما يشاءون". (صلاح الدين الصباغ، فرسان العروبة، مذكرات الشهيد العقيد الركن صلاح الدين الصباغ. تقديم ومراجعة سمير السعيدي. ط1، تانيت للنشر، الرباط، المغرب، 1994، ص 267).
وبصدد الملك غازي فان المعلومات المتوفرة لا تشير إلى إنه كان عنصري النزعة أو نازي الفكر أو مناهض لليهود العراقيين. ولكن ربما كرهه الشديد للإنجليز هو الذي كان قد دفعه للتنسيق مع أعداء بريطانيا والنخبة الحاكمة العراقية المتعاونة والمساندة للوجود البريطاني بالعراق. وعلينا هنا أن نشير إلى التعاون بين يونس بحري، وهو ضابط بدرجة رائد في الـ "أس أس „SSباسم يوحنا بحري، وبين الملك غازي قد استند إلى موقف الملك غازي من مسألتين أساسيتين هما:
أ‌. كراهية الملك غازي للبريطانيين باعتبارهم مستعمرين للعراق ومسيطرين ومتحكمين بسياسة البلاد من جهة، وإنهم لم يلتزموا بما وعدوا به العرب وجده الحسين بن علي شريف مكة بتحقيق الوحدة وإقامة الدولة العربية الواحدة من جهة أخرى، إضافة إلى استعمارهم للكويت ومطالبته الصريحة بكون الكويت جزءاً من ولاية البصرة التي هي جزء من العراق. وقد تبنت إذاعته في قصر الزهور هذه المواقف من جهة ثالثة، وربما كان يعتقد بأن البريطانيين قد أجهزوا على والده في سويسرا حين كان تحت المعالجة الطبية من جهة رابعة.
ب‌. ويحتاج أمر آخر إلى مزيد من التحري والتدقيق في الوثائق الألمانية والبريطانية حول مدى العلاقة التي كانت احتمالاً تربط بين الملك غازي بالألمان عبر يونس بحري وصحيفته "العقاب" التي نسق إصدارها مع غوبلز منذ العام 1931 وعاد لهذا الغرض إلى العراق وبمهمة محددة. وهل كانت هناك علاقة تنسيقية بين يونس بحري والوزير المفوض الألماني فرتز غروبا مع الملك غازي بشأن الموقف من بريطانيا. علماً بأن فرتز غروبه قد لعب دوراً كبيراً في تعزيز العلاقات بين نادي المثنى ومن ثم حزب الشعب بالنظام النازي بألمانيا وإرسال الكثير من فرق الكشافة إلى المانيا ودعوة المحاضرين لإلقاء محاضرات في نادي المثنى.
كما لا بد من الإشارة إلى أن يونس بحري كان قد عين مسؤولاً عن الجواسيس الألمان من العرب الذي يرسلون إلى الدول العربية للتجسس على القوات البريطانية وعلى أوضاع البلاد العربية وقواها السياسية. لقد كان ليونس بحري ثلاثة مسؤولين عملياً من قيادة النظام النازي الأول هو غوبلز المسؤول عن الدعاية النازية، والثاني هو المسؤول عن جهاز الأمن الألماني الـ "أس أس" هاينريش هملر، والثالث هو المسؤول عن "الغستابو" هيرمان غورينغ.
وباختصار شديد فأن الحركة القومية العربية كانت حينذاك ذات طابع يميني متشدد ومتأثرة بالفكر النازي القومي الذي روج له بعض السياسيين القوميين من خلال وجودهم المشتركة في نادي المثنى بن حارث الشيباني، الذي تأسس عام 1935 ببغداد، ومنهم ساطع الحصري وسامي شوكت وأبرز الشخصيات التي كانت تعمل في نادي المثنى. وإذا كان سامي شوكت قد أهتم بشكل خاص في الجانب العملي، فأن ساطع الحصري قد أبدى اهتماماً أكبر بالتثقيف الفكري، إذ ألقى سلسلة من المحاضرات حول القضايا القومية والوطنية والموقف من الكوسموبوليتية، ومن ثم من الأممية ومعاداته للأممية والشيوعية والفكر الاشتراكي. وقد استقى، كسلفه سامي شوكت، الكثير من أفكاره من ترسانة الفكر القومي الألماني ومن فكر الفيلسوف الألماني "يوهان غوتليب فيخته (1762–1814)" على نحو خاص، واعتمد على الأول في تبيان أهمية القومية والتعصب القومي. ففي محاضرة له برّز وقيَّم عالمياً أفكار فيخته بهذا الصدد حيث كتب يقول: "إن خُطب فيخته تنم عن روح وطنية متأججة، وتدعو إلى نزعة قومية متعصبة. ولا سيما الخطبة الختامية، فأنها تعتبر آية من آيات التحميس والاستنهاض: يوجه فيخته في خطبته هذه بعض الكلمات إلى الشباب، ثم إلى الكهول. ثم إلى رجال الدولة والمفكرين والأدباء، وأخيراً إلى الأمراء، مصدراً كل واحدة من هذه الكلمات بقوله: "إن خطبي تستحلفكم وتبتهل إليكم …". وبعد ذلك يضطرم حماسه فيقول لهم جميعاً: "إن أجدادنا أيضاً يستحلفونكم معي ويضمون صوتهم إلى صوتي"، ويأخذ في تصوير صوت الأجداد بأسلوب حماسي جذاب. ثم يعقب ذلك بقوله: "أن أخلافكم أيضاً يتضرعون إليكم …". (الحصري، أبو خلدون ساطع. الأعمال القومية لساطع الحصري. القسم الأول. في ثلاثة أقسام. مركز دراسات الوحدة العربية. سلسلة التراث القومي. الطبعة الثانية: بيروت. 1990. ص 49). ثم ينهي ساطع الحصري خطبة فيخته بالمقتطف التالي: "… ولو تجاسرت، لأضفت إلى كل ما تقدم، قائلاً: "إن القدرة الفاطرة أيضاً تستحلفكم وتستنهضكم. لأنه لم يبق على وجه الأرض أمة حافظت على بذور قابلية التكامل البشري بقدر ما حافظت عليها أمتكم المجيدة فإذا سقطت الأمة الألمانية، سقط معها الجنس البشري، ولا يبقى له أدنى أمل في السلامة". (المصدر السابق نفسه). وكان هذا هو الفكر الذي يروج له ساطع الحصري ليقترب من نفس الفكر الذي تحدث به ألفريد روزنبيرغ، مفكر وفيلسوف النازية وموجه الدولة الهتلرية فكريا، الذي تجلى في كتابه الشهير الموسوم "الدم والشرف - نضال من أجل إعادة بعث ألمانيا-" الصادر في ألمانيا/ ميونيخ في عام 1934، وهي عبارة عن خطب ألقاها في الفترة الواقعة بين 1919-1933.
، (Rosenberg Alfred. Blut und Ehre. Ein Kampf fuer deutsche Wiedergburt. Reden und Aufsaeze von 1919-1933. Zentralverlag NSDAP).،Frz. Eber Nachf.،Muenchen. 1934.
كما أنها تصب في بعض الاتجاهات الفكرية التي دعا لها نيتشه وهيردر وتشمبرلن في ألمانيا. وهي الأفكار التي تبنتها المجموعة القومية النازية بالعراق، ومجموعة غير قليلة من تلك القوى التي شاركت في حركة شباط-مايس 1941 أيضاً، إذ لم يكن كل من شارك في هذه الحركة من أتباع أو مؤيدي الفكر النازي الألماني أو الفاشي الإيطالي على الصعيدين العراقي والعربي. ومن كتاب ألفريد روزنبيرغ المشار إليه وكتاباته الأخرى استقى ميشيل عفلق، وبقية القيادة البعثية حينذاك، فكرة واسم حزب البعث العربي الاشتراكي وشعاراته الأساسية مثل "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" و"شعب واحد، وطن واحد، وجيش واحد"، وكذلك الدعوة إلى "الاشتراكية الوطنية" النازية، التي سميت في العالم العربي بالاشتراكية العربية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن يونس السبعاوي، الذي كان على اتصال وثيق بنادي المثنى, كان من بين المعجبين بتجربة هتلر ونشاطه ومواقفه من رجال المعارضة والمخالفين له في ألمانيا, كما قام بترجمة كتاب هتلر المعروف "كفاحي" إلى العربية عن الإنكليزية لأول مرة في البلاد العربية. ثم بدأ بنشره على شكل مقالات متسلسلة في جريدة العالم العربي ابتداءً من تشرين الأول/نوفمبر 1933. (راجع: العمري, خيري، يونس السبعاوي سيرة سياسي عصامي، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، الجمهورية العراقية، سلسلة الأعلام المشهورين 12، دار الرشيد للنشر، بغداد. 1980. ص 41). وكتب في مقدمة هذه المقالات ما يلي: "… الهتلرية حركة تشغل العالم اليوم , أظهرها في ألمانيا الضيق ونشاط الشبان , فكانت حركة قوية اندفعت بين صعاب عظيمة فشقت طريقها واستطاعت أن تأخذ بزمام الأمور في البلاد. وجدير بالعالم ولاسيما في بلادنا أن يعرف كنه هذه الحركة ومراميها , ونحن لا نجد محدثاً صادقاً عنها مثل موجدها وحامل لوائها أدولف هتلر زعيم ألمانيا اليوم , ونحن نعرب لقراء الكتاب الذي وضعه عن مبادئه وكفاحه...". (المصدر السابق نفسه). ولنتذكر أيضاً بأن يونس السبعاوي أطلق على نفسه اسم (فرهود) السري كاسم حزبي له في حزب الشعب، وهو الفرهود الذي حصل في العام 1942 ضد المواطنين والمواطنات العراقيين من اليهود.
ويفترض الإشارة في هذا الموقع إلى أن أغلب القوى السياسية الديمقراطية العراقية لم تشجب في حينها الانقلاب العسكري الجديد بسبب كراهيتها للاستعمار البريطاني وسياسات الحكومة البريطانية بالعراق، بل أيدته، إذ لم تتوفر في حينها المعلومات الكافية عن العلاقات التي نشأت حينذاك بين الجماعة القومية العربية بالعراق والنظام النازي بألمانيا، علماً بأن الحزب الشيوعي العراقي قد اتخذ موقفاً أخر وقدم مذكرة إلى حكومة رشيد عالي الكيلاني بسبب السياسات القومية المتشددة التي اتخذت في حينها، ولاسيما ضد اليهود. لقد كان نوري السعيد حينذاك رئيساً للوزراء وكان حليفاً مخلصاً لبريطانيا يستند في ذلك لا إلى عمالة مباشرة لها بقدر ما كان يلتقي معها في الفكر والسياسةً والمصالح، رغم أن المستفيد الأول من كل ذلك كانت بريطانيا والمتضرر الرئيسي في مثل هذا التحالف والطريقة التي كانت تتم بها هو الشعب العراقي. واتخذ نوري السعيد موقفاً محدداً من الحرب مناهضاً لدول المحور، أي ضد ألمانيا ومن ثم إيطاليا واليابان من جهة، ومسانداً لبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى. وفي هذا كان على خلاف شديد مع بعض أعضاء وزارته الذين انقسموا إلى مجموعتين إحداهما تؤيده والأخرى تناهضه وتريد أن يكون الموقف العراقي حيادياً في الحرب وتنفذ المعاهدة على وفق ما كانت تراه في الصالح العراقي. ومع أن موقف نوري السعيد كان صائباً بشكل عام، وبعيداً عن تفاصيله، من الحرب ومن تأييد بريطانيا وفرنسا، وفيما بعد الاتحاد السوفييتي، في الحرب ضد ألمانيا الهتلرية وبقية دول المحور، فأن هذا الموقف كان مرفوضاً من جانب الشارع العراقي وكل القوى القومية والغالبية العظمى من القوى الوطنية العراقية بسبب مواقف بريطانيا من القضايا العراقية والعربية. لقد كان الموقف الرافض لمساندة بريطانيا ينطوي على موقفين، رغم كونهما كانا يدعوان إلى الحياد في الحرب، أي موقف القوى القومية التي كانت تدعو إلى الحياد، ولكنها كانت تريد الوقوف عملياً إلى جانب دول المحور، وموقف الحزب الشيوعي العراقي وبعض القوى التقدمية التي كانت تدعو إلى الحياد أيضاً وكانت تعنيه فعلاً، إذ أن الحزب الشيوعي العراقي اعتبر الحرب، قبل دخول الاتحاد السوفييتي الحرب ضد ألمانيا الهتلرية، بمثابة حرب استعمارية تستهدف إعادة تقسيم مناطق النفوذ لا غير. إلا أن هذا الموقف قد تغير بعد دخول الاتحاد السوفييتي إلى جانب الحلفاء في الحرب ضد الهتلرية بعد أن غزت جحافل النازيين اراضي الاتحاد السوفييتي، رغم الاتفاقية التي وقعتها حكومة ستالين مع حكومة هتلر في عام 1939 في ميونيخ. لقد غير الحزب الشيوعي العراقي موقفه في ضوء التبديل الذي أجرته الأممية الشيوعية (الأممية الثالثة) على موقفها إزاء الحرب والدولة النازية بعد دخول الاتحاد السوفييتي طرفاً في الحرب.

محنة اليهود العراقيين سنة 1941 (الفرهود)
قلة نادرة من الكتاب العراقيين الديمقراطيين الذين نشروا سيرهم الذاتية كتبوا شيئاً عن فاجعة اليهود التي وقعت في يومي الأول والثاني من حزيران/يونيو ،1941 أو بحثوا في قانون إسقاط الجنسية عن يهود العراق الذي صدر عن وزارة توفيق السويدي في العام 1950. ومن هؤلاء القلة يأتي أسم الأستاذ هاشم الشبلي، حيث شخص طبيعة المسألتين، الفاجعة والقانون، والموقف منهما وأدانهما بشدة. فقد كتب بشكل مكثف عن فاجعة الفرهود ببغداد يقول: "هاجمت مجموعات من الأوغاد والرعاع بيوت ومحلات اليهود فنهبتها وقتلت ساكنيها واغتصبت نساءها وفتياتها ولم يتركوا لهم شيئا، وجرى كل ذلك في اليوم الثاني لتكليف السيد المدفعي بتشكيل حكومته في 2/6/1941 واستمر القتل والنهب والاغتصاب يومين ولم تقف الأعمال الإجرامية إلا بعد تدخل الجيش للقضاء على هذه العصابات الإجرامية." (الكتاب الثاني، ص 39). والصحيح إن الجرائم التي ارتكبت في الفرهود قد بدأت في اليوم الأول من حزيران واستمرت في اليوم الثاني من حزيران أيضاً، حيث تدخل الجيش لإيقاف تلك الجرائم البشعة، بعد أن تم تشكيل الحكومة الخامسة للسياسي العراقي جميل المدفعي، الذي كان من بين المناهضين للانقلاب وضد "حكومة الدفاع الوطني" التي ترأسها رشيد عالي الگيلاني، كما إنه هرب إلى البصرة والتحق بالوصي على العرش عبد الإله بن علي الذي كان ذد هرب هو الآخر إلى البصرة واحتمى بشيوخها. والمعلومات المتوفرة تشير إلى أن الجماعات التي شاركت في هذا الفرهود لم تكن من الرعاع والأوغاد فحسب، بل كان بينهم جمهرة من الجنود المقهورين في الحرب ضد القوات البريطانية وكذلك مجموعة من "كتائب الشباب" التي شكلها يونس السبعاوي، وكذلك من منظمة "فدائيي السبعاوي"، إضافة إلى أولئك العنصريين الحاقدين على اليهود ممن ترسخت في أذهانهم الدعاية النازية التي انتشرت بشكل واسع جداً في النصف الثاني من العقد الرابع من القرن العشرين. ورغم التباين في تقدير عدد القتلى من اليهود في فاجعة الفرهود، فقد ثبت بأن عددهم بلغ 144 شهيداً عدا الجرحى وحالات الاغتصاب ونهب الأموال والأثاث والسلع من البيوت والمحلات. (كاظم حبيب، يهود العراق والمواطنة المنتزعة، دار المتوسط، إيطاليا، 1915). وتؤكد بعض المصادر و المعلومات المتوفرة أن السفير البريطاني كنهان كورنواليس حينذاك، ورغم علمه بما كان يحصل من فرهود في شوارع وأزقة بغداد ضد العائلات اليهودية المسالمة، لم يتخذ أي إجراء لوقف هذه المجزرة البشعة ورفض دخول الجيش البريطاني، الذي كان عند أبواب بغداد، من الدخول إليها وزجه في الدفاع عن العائلات اليهودية وانقاذها من براثن الأوغاد والعنصريين والنهابة. كتب الباحث الدكتور سلمان درويش في كتابه الموسوم "كل شيء هادئ في العيادة" يقول: "بدأت مذبحة الفرهود في يوم 1 حزيران في باب الشيخ من قبل الأكراد الشيعة الفيلية بعد أن دس المفوض الألماني فريتز غروبه سمومه النازية وحرض ضد اليهود وبث دعايته العنصرية بين أفراد الشعب والجيش العراقي خلال عدة أشهر مما هيأ الأجواء للإيقاع بهم. ثم جاء اندحار الجيش العراقي، الذي ضمّ بعض الأطباء والضباط اليهود، أمام القوات البريطانية ورفض "مختار محلة الكريمات" السفير البريطاني السر كنهام كورنواليس السماح للجيش البريطاني المحتل بدخول بغداد وإن كانت تقع على عاتقه مسؤولية الحفاظ على الأمن فيها. (راجع: سلمان درويش، كل شيء هادئ في العيادة، منشورات رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق، رقم 2، مكتبة الدكتور داود سلمان- سالا لمؤلفات يهود العراق، 1981، ص 60-62).
أما بصدد قانون إسقاط الجنسية فقد أكد الكاتب وبتشخيص وتقدير سليم ما يلي: "وقبل أن ينسى اليهود أثار هذه الجرائم، (ويقصد بها فاجعة الفرهود في مدينتي بغداد والبصرة، ك. حبيب)، قامت الحكومة العراقية بإصدار قانون إسقاط الجنسية عن اليهود في سنة 1950 الذي تم بموجبه إسقاط الجنسية العراقية عن اليهود ومصادرة أملاكهم وممتلكاتهم وأموالهم وتسفيرهم إلى الخارج حيث سفّر أغلبهم إلى إسرائيل وبعضهم الآخر إلى دول أخرى." (الكتاب الثاني، ص 39). وكان للكاتب تقديره الصائب حين أكد بأن هذا الإجراء غير الإنساني بحق يهود العراق قد "قدم خدمة لإسرائيل لا مثيل لها وذلك لأنه كان من بينهم علماء وأدباء وصحفيون وأساتذة ومصرفيين خسرهم العراق واستفادت منهم إسرائيل". (المصدر السابق نفسه). لقد ارتُكبت جريمة ضد الدستور العراقي وضد الإنسانية وتم تنفيذها بمؤامرة ثلاثية اشتركت فيها حكومات ثلاث دول هي بريطانيا وإسرائيل والعراق وبدعم كثيف من جانب الولايات المتحدة الأمريكية. وكان الأستاذ الشبلي على حق كبير حين أكد بصواب ما يلي:
اليهود في العراق ليسوا لاجئين أو مستوطنين وإنما هم من سكنة العراق منذ آلاف السنين وكان لهم دور مشهود في بناء حضارة وادي الرافدين وفي الحضارة العربية الإسلامية وفي بناء العراق الحديث" (المصدر نفسه، ص 39).
كان بودي أن يتوسع في البحث في هذه القضية المهمة، ولاسيما في هذه الفترة من تاريخ العراق المعاصر، حيث يتهدد نفس المصير، ولو بأساليب أخرى أكثر همجية وعدوانية، إذ أن هناك مخططاً بشعاً يراد به إفراغ العراق من القوميات وأتباع الديانات الأخرى بالبلاد، كما هو حاصل منذ سنوات ما بعد سقوط الدكتاتورية البعثية وإقامة النظام السياسي الطائفي بالعراق، ضد المسيحيين والصابئة المندائيين والإيزيديين على سبيل المثال لا الحصر، والذين هم ليسوا لاجئين ولا مستوطنين بل هم من أصل أهل البلاد ومنذ آلاف السنين أيضاً. فقد هُجّر من العراق قسراً عبر أسقاط الجنسية عن اليهود، على وفق التقارير الرسمية 118,000 يهودي ويهودية من العراق، وفي الواقع بلغ العدد أكثر من 130,000 نسمة من أتباع الديانة اليهودية. أما في السنوات الأخيرة ومنذ العام 2003 حتى الوقت الحاضر ارتفع عدد المهجرين قسراً من مسيحيي العراق ومن مناطق وجود المسحيين بالبصرة وبغداد والموصل وسهل نينوى وإقليم كردستان العراق ما يتراوح بين 800,000 -1,000,000 نسمة، كما هُجّر من الصابئة المندائيين ما يزيد عن 50,000 نسمة ولم يبق منهم بالعراق غير عدد يتراوح بين 10,000-15,000 نسمة. كم إن أعداداً غفيرة جداً من الإيزيديين والإيزيديات قد نزحوا إلى الإقليم أو غادروا البلاد وعانوا من إبادة جماعية مرعبة. لقد كانت وما تزال مخاطر جمة تهدد المزيد من العائلات العراقية، لا بسبب عصابات داعش وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها ضد هذه المجموعات السكانية العراقية بعد اجتياح الموصل وسهل نينوى فحسب، بل وتلك الجرائم التي ارتكبتها المليشيات الطائفية المسلحة في الوسط والجنوب وبغداد، وكذلك قوى القاعدة الإرهابية وتنظيمات إرهابية أخرى معادية لأتباع الديانات والمذاهب بالعراق، وما يمكن أن يحصل في الفترة القادمة.

انتهت الحلقة الأولى وتليها الحلقة الثانية.