ندبات قدبمة


حمدى عبد العزيز
الحوار المتمدن - العدد: 5673 - 2017 / 10 / 19 - 21:50
المحور: سيرة ذاتية     

كانت مطاردات جهاز مباحث أمن الدولة للمنتمين لتيار اليسار المصري لاتتوقف فقط علي الأنشطة السياسية والعامة والنقابية والثقافية من اجتماعات وندوات نقاشية واتصالات بالناس وخلافه
بل تمتد إلي ماهو أبعد من ذلك من مجرد المطاردة والتعقب لأنشطة الملتحقين بالعمل العام إلي مايتعلق بمطاردتهم في أوضاعهم الوظيفية والإنسانية الحياتية الخاصة
ولي تجربتي الخاصة وهي غير متفردة إذ أنني أعرف أن الكثيرين ممن جايلتهم أو عايشتهم يمتلكون تجارب أعمق وأفدح كثيراً مما واجهت ...
بما يجعل من تجاربي في ذلك الأمر شيئاً ضئيلاً وأكثر قزمية مما واجهوه بجسارة وشجاعة تسجل بفخر في تاريخ نضالات اليسار المصري خلال القرن الماضي
كنت طوال حقبة الثمانينيات نقابيا (عضواً منتخباً في إحدي مجلس إدارات المنظمات النقابية التابعة للإتحاد العام لعمال مصر) وكنت أخوض معارك انتخابية شرسة في مواجهة الإدارة وبعض القيادات النقابية الصفراء
لكنني كنت أعرف أن كلاً من الإدارة والقيادات النقابية ماهما إلا آدوات في يد أمن الدولة..
ومع ذلك نجحت في الفوز بعضوية مجلس إدارة لجنتي النقابية والتي تغطي مواقع وأفرع للعمل بمحافظة كاملة ولدورتين نقابيتين من 1982 حتي 1990
وكنت بالتوازي مع نشاطي النقابي انخرط في نضال سياسي يومي ضمن صفوف حزب التجمع التقدمي
كذلك فقد كنت متواجداً بشكل فعال في الكثير من التجمعات الجماهيرية
ومع كل ذلك كان لي اتصالي بالنشاط الثقافي والإبداعي عبر هيئات قصور الثقافة الجماهيرية
وكان طبيعياً أن اتعرض مثلي مثل المئات من الكوادر اليسارية النشطة في ذلك الوقت إلي عمليات السجن والإعتقال والمراقبة والتضييق وخلافه من أدوات الديمقراطية المصرية ذات الأنياب والأظافر
وإن كنت قد نلت أقل القليل من الضرر مقارنة برفاق من الكوادر الأكثر أهمية وحتي بالمقارنة برفاقي من الكوادر الوسيطة والقاعدية
في حين لم أكن أنا كادراً معروفاً وربما لم أكن استحق كلمة "كادر"
ماعلينا
فقد كانت المراقبة والمتابعة الأمنية علي مستوي الأنشطة السياسية والحزبية والنقابية وحتي الثقافية أمراً يمكن فهمه علي ضوء قراءة النظام للمخاطر التي تهدد الدولة علي أنها مخاطر العزف المنفرد عن إشارة عصا المايسترو التي يمسك بها الزعيم القائد الرئيس ، والنغمة الناجمة عن عزف السلطة السياسية وكتابها ومناصريها
واعتقد أن تلك الأجهزة لم تتخلص من ذلك الفهم وتلك الثقافة حتي تاريخه
لم تكن أجهزة أمن الدولة تتوقف وقتها عند ذلك الحد
ناهيك عما كانت تفعله بالتدخل في أعمالنا الوظيفية ومصادر أرزاقنا فقد كانت هناك ترقيات مستحقة تتوقف للكثيرين بسبب أنشطتهم السياسية وتعرض كثيرون لحالات نقل تعسفي إلي جهات بعيدة عن مقار سكنهم وما إلي غير ذلك من المضايقات السخيفة الثقيلة الضرر والوطأة
كانت تلك الأجهزة بثقافتها التي تري أن الصوت المعارض ينبغي إسكاته بأي طريقة كانت حتي لو كانت غير أخلاقية ولو بتشويه أوتدمير سمعة صاحب هذا الصوت
فكانت تمد متابعتها ومراقبتها إلي مايتعلق بصميم الحياة الشخصية لأغلبنا ..
وسأحكي بعض من مفارقات تجربتي ا لخاصة مع تلك النماذج من الرقابة والمتابعة التي أمتدت إلي محاصرتنا والتضييق علينا في أخص خصوصيات حياتنا
ففي آواخر الثمانينيات قررت أن أتزوج كأي شاب يريد أن يتزوج ويبني حياته الزوجية الخاصة كلما تقدمت لفتاة كانت لديها موافقة مسبقة علي الإرتباط الرسمي بي ، وما أن ذهبت لأسرتها وحصلت منهم علي الموافقة المبدئية علي أن تجتمع الأسرتين لاحقاً لإتمام الإجراءات المتعارف عليها للخطبة
ماأن مرت ثلاث أيام علي ذلك حتي أرسلت أسرة الفتاة لي رسولاً طلب الجلوس معي مخبراً أياي بأن أحد مخبري أمن الدولة قد أبلغ تلك الأسرة أن الشاب الذي سترتبط أبنتكم به له ملف مسجل في مباحث أمن الدولة وهو خطر ويمكن إلقاء القبض عليه في أي وقت
وبالفعل كان هذا أحد مرات فشل أحد مشاريع الإرتباط المتكررة إلي أن قابلت في بداية التسعينيات زوجتي وأم أولادي التي كانت عضوة في التنظيم النسائي في التجمع وبالتالي لم تكن لديها مشكلة هي أو أسرتها في الإرتابط
ولكن هناك تجربة أخري وقصة أخري قبل هذا الزواج
كنت قد تعلمت من الدرس بعد محاولة الإرتباط الفاشلة التي أشرت إليها مسبقا
، وبناء علي نصيحة استاذي الجميل الراحل حسين عبدربه قررت أن يكون أحد موضوعات التقدم للخطبة في المرة القادمة هي الحديث المفصل عن المخاطر التي تنتظرني جراء العمل السياسي
وإن قبل أهل المراد خطبتها كان خير وإن لم يقبلوا فالخير أكثر
وبالفعل اتبعت ذلك
وكانت النتيجة هي "الخير الأكثر"
إلي أن تمت خطبتي لفتاة ما علي خير ، وأقيم حفل الخطوبة ، وكانت سعيدة بي وكنت سعيداً بها وبدأت في الإستعداد للزواج
مرت شهور علي ذلك استأجرت فيها شقة (بعد دفع مقدم "خلو رجل" وتعاقدت علي موبيليا حجرات الصالون والسفرة والنوم
إلي أن جاء يوم زارني فيه خال خطيبتي الكبير بصحبة أحد أشقائها وأخبراني أنهم حضروا إلي بعد جلسة مع فلان الفلاني مسئول مباحث أمن الدولة بالقسم الذي نتبعه وأنه أبلغنا بمدي خطورتك وإنك شيوعي وأردف قائلاً (يعني مش مسلم ذينا)
والآن عليك أن تختار بين ماأنت عليه وبين أن تترك أبنتنا
- ولكن ياعمي أنا اخبرتكم بكل تفاصيل نشاطي السياسي
قلت ذلك وانبريت متحدثاً عن أن حزب التجمع ليس شيوعياً وأن الشيوعية لاتعني الإلحاد
وما إلي ذلك من كلمات كنا ندافع بها عن أنفسنا في مواجهة ماكرسه أنور السادات وأجهزته الأمنية وماكينته الإعلامية وكتبته وحلفائه الإخوان والسلفيين لدي عامة المصريين
لكن الرجل وأشقاء خطيبتي لم يتزحزحوا عن طلبهم كل الجديد أنه أضاف
- وف حالة مابتختار بنتنا هاتجيبلنا صوره من استقالتك من الحزب وهاتيجي معانا لأمن الدوله نقدمهالهم وتتعهد بالبعد عن السياسه
طبعاً كان ردي - عند الوصول لهذه النقطة من النقاش - هو الرفض الحاسم والقاطع لهذا الكلام وللنقاش لحين سماع رأي خطيبتي الذي أخبرتهم - ساعتها - أنها الطرف الوحيد المعني بالأمر بالنسبة لي وعلي ذلك كان انصرافهم من عندي ووداعي لهم بكل احترام وبمزيج من التوتر والتجهم الذي لم استطع أن أخفي دلائله من وجهي
في اليوم التالي قابلت خطيبتي في طريقها إلي العمل دعوتها للنقاش كان الإحباط والإستسلام للأمر الواقع بادياً في عينيها المجهدتين علي أثر بكاء جف دمعه حديثاً وتركت عكارتها في حواف حباتيهما
سألتها عن رأيها
أخبرتني بأنها تناقشت مع أهلها دون فائدة وأنهم معذورون حتي لو كانت تختلف معهم
وعندما بادرتها بسؤالي المحبط
- طيب وانتي شايفه إيه؟
- أنا متمسكه بيك لكن دول أهلي وأنا مش هااتجوز غصب عنهم
وانت ممكن تعتبر الطلب اللي طلبوه منك ده تضحيه بتقدمها عشان نستمر مع بعض
- هوه أنتي شايفه إني لوقدمت التضحيه اللي مطلوبه دي هاافضل راجل في نظرك
ولوبقيت ده ف نظرك انتي
أنا هابقي ف نظر نفسي إيه؟
أجابتني بعد فترة صمت غلفها شرود عينيها البائستين
- طيب وأنا ممكن أعمل إيه؟
جاوبت بكل رغبة في إشعال مقاومتها :
- تقاومي وترفضي منطقهم وتقوللهم أنا مش هاارضي إنه ينفذ طلبكم لأنه بعد كده هايصغر ف نظري ومش هاابقي سعيده معاه
ردت بحسم يجسد صراخاً داخلياً موشكاً علي الوقوع في هوة الإنكسار والهزيمة
- مقدرش
وكررتها بتتابع متصاعد مرتين
ثم صمتت
ثم قالتها بهدوء من خلال شفتين مختلجتين ووجنتين متوترين وجفنين يرتعشان لإيقاف خيط مفاجئ من الدموع
- مقدرش ياحمدي
وتناولت منديلها الورقي لتمسح عيونها منتهية بعصر أنفها بالمنديل ثم ناولتني دبلة الخطوبة بعد أن خلعتها من اصبعها
وانتهي ماكان لايجب أن ينتهي
وانتهت قصص أخري مماثلة
وربما كانت هناك عشرات القصص التي خلفت ندبات في ذاكرة الكثيرين مايمكن روايته منها
، ومالايمكن