مصيبة الشعب الكردي


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 5673 - 2017 / 10 / 18 - 22:17
المحور: القضية الكردية     

غداة ما أسميناه استفتاء «الاستقلال الوهمي» الذي نظّمه مسعود البارزاني يوم 25 أيلول/سبتمبر في إقليم كردستان العراق كما في المناطق التي درجت تسميتها «المتنازع عليها»، جاء هذا المقال الأسبوعي بعنوان: «انتهت السكرة وبدأت الفكرة». وقد باتت الآن الحصيلة فاقعة أمام أعين الجميع، تؤكد أن المناورة السياسية التي قام بها رئيس الإقليم مدغدغاً مشاعر الشعب الكردي القومية المشروعة، إنما انقلبت ضرراً جسيماً على القضية الكردية وعلى أفق الاستقلال الكردي بعينه.
وقد حمل التقرير الذي نشرته صحيفة «فايننشال تايمز» يوم أمس عنواناً بليغاً أعلن أن «أحلام الاستقلال الكردي تحطمت عندما دخلت الدبابات العراقية كركوك». واستشهد التقرير بباحث كردي يقول «فقدَ الكرد كركوك إلى الأبد»، مضيفاً «لم نعد فقط إلى حدود ما قبل 2014، بل نحن في طريق العودة إلى حدود ما قبل 2003». وهو يقصد أن السلطات الكردية في طريقها ليس فقط إلى فقدان «المناطق المتنازع عليها» التي استولت عليها قوات البيشمركه قبل ثلاث سنوات وهي تتصدّى لاقتحام الأراضي العراقية من قِبَل تنظيم داعش وتنتهز فرصة انهيار الجيش العراقي هلعاً أمام ذلك الاقتحام، بل أن السلطات الكردية في طريقها إلى فقدان ما أحرزته من تقدم ومكاسب في ظلّ الاحتلال الأمريكي.
والمعروف أن كردستان العراق التي ازدهرت تحت حماية أمريكية/تركية بعد الحرب الأمريكية الأولى على العراق سنة 1991 والتي تمكّنت من تعزيز قدراتها العسكرية تحت إشراف أمريكي طوال السنوات السابقة لاحتلال عام 2003، كانت قد نعمت بمعاملة مميّزة في ظلّه بحيث جمعت بين التمتّع باستقلال فعلي في الشؤون الرئيسية والتمتّع بفوائد الانتماء إلى دولة عراقية تحت وصاية أمريكية. وعلاوة على ذلك، كانت تستفيد من علاقات طيبة مع جارتيها الإيرانية والتركية من خلال العلاقات التي نسجها كل من الطرفين الكرديين الرئيسيين مع كل من الدولتين: جماعة بارزاني (الحزب الديمقراطي) مع تركيا وجماعة طالباني (الاتحاد الوطني) مع إيران.
وبعد خروج القوات الأمريكية من العراق في آخر عام 2011، تاركة وراءها بلداً خاضعاً لنفوذٍ إيراني لم يَنِ يتصاعد منذ ذلك الحين حتى بات العراق أشبه بولاية إيرانية يدير شؤونها وكيل لطهران اسمه نوري المالكي، جاءت غزوة «أبو بكر البغدادي» في صيف 2014 لتقدّم فرصة جليلة لواشنطن وللقوات الكردية. فقد انتهزت واشنطن فرصة احتياج الدولة العراقية لدعمها الجوّي ولمعونتها في إعادة تسليح جيشها المركزي، انتهزت تلك الفرصة لتصرّ على استقالة المالكي الذي حلّ محلّه حيدر العبادي.
ومن جهتها، انتهزت القوات الكردية فرصة الانهيار عينه لتوسيع انتشارها، لا سيما في مدينة كركوك ذات القيمة الرمزية العالية بالنسبة للكرد وفي محافظتها الغنية بالنفط.
وإزاء تحريك الطرفين الأمريكي والكردي أحجارهما على رقعة الشطرنج العراقية بما بدا بمثابة «كش ملك» لإيران، قامت طهران بتحريك مضاد لأحجارها لتدارك الأمر. فانتهزت بدورها فرصة محاربة عصابات داعش كي تصّعد وصايتها على العراق بشكل خطير من خلال تطويرها للقوات الطائفية التابعة لها، وأغلبها منضو تحت لواء «الحشد الشعبي»، وكذلك تدخّل رجالها السافر على أراضي جارتها. هذه السنوات ذاتها شهدت انتقال رجب طيّب أردوغان إلى إشعال الحرب على الحركة الكردية في تركيا بعد سنوات عديدة من الهدنة والتقدّم في صيغة التعايش، مستغلاً العصبية القومية التركية في وجه تراجع انتخابي ساهمت فيه الحركة الكردية بصورة بارزة، بينما كان نجم حليفتها في سوريا يتصاعد، مستفيدة هي الأخرى من الفرصة التي قدّمها أبو بكر البغدادي.
ولمّا أشرفت عصابات داعش على الاندحار بصورة كاملة واقترب موعد التفاوض على «المناطق المتنازع عليها» مع سلطة بغداد، ظنّ البارزاني أنه يستطيع إصابة هدفين بحجر الاستفتاء الواحد: تعزيز سيطرة الإقليم على المناطق المذكورة، ولا سيما كركوك، وتعزيز فرصته بالفوز بالانتخابات التي كان إجراؤها في إقليم كردستان العراق مزمعاً بعد شهرين (ومن المرجّح أن تؤجّل الآن). أو ربّما حسبَ بصورة مكيافيلية أن منافسيه الطالبانيين سوف يتحمّلون مسؤولية خسارة كركوك، حيث أنهم المشرفون على الانتشار الكردي فيها، بما يعزّز غايته في ضمان حكمه للإقليم. وأياً كان حساب مسعود بارزاني، فقد جاءت نتيجته كارثية عليه وعلى الشعب الكردي.
فلم تصطدم مناورته برفض بغداد وطهران وحسب، بل أدّت إلى قطع الجسور بينه وأنقرة، التي كانت ترعاه حتى قراره إجراء الاستفتاء، كما وإلى تنصّل واشنطن منه وتأييدها لاستعادة السلطة العراقية المركزية سيطرتها على المناطق التي خسرتها من جرّاء الغزوة الداعشية. لا بل انسحبت القوات التابعة لجماعة الطالباني أمام تقدم قوات بغداد الرسمية ومعها القوات الطائفية، ملقية اللوم على بارزاني. وقد بدأ تبادل التهم بين الطرفيين الكرديين بما يُنذر بتجدد القتال بينهما مثلما حصل في التسعينيات، عندما انتهى بارزاني إلى الاستنجاد بقوات صدّام حسين نفسه! وهذه المرّة وبينما ستتلقّى جماعة طالباني دعماً من طهران وبغداد، لن يجد بارزاني من ينقذه وقد دعت أنقرة بغداد إلى استلام نقاط الحدود بين تركيا وإقليم كردستان.
إن مصيبة الشعب الكري التاريخية أن قياداته بدل التعويل على استراتيجية طويلة المدى تقوم على كسب دعم الشعوب الثلاثة المحيطة بكردستان، العربي (العراقي والسوري) والإيراني والتركي، إنما راهنت دائماً على هذا أو ذاك من الحكام المستبدّين بهذه الشعوب والمساهمين جميعاً في اضطهاد الأمة الكردية. وقد دفع الشعب الكردي ثمناً باهظاً في كل مرة وسوف تستمر هذه المأساة طالما لم يفرز قيادات مختلفة نوعياً عمّا عرف حتى اليوم.