بسم الله الرحمن الرحيم 3


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5671 - 2017 / 10 / 16 - 21:35
المحور: الادب والفن     

التحليل السردي تحليل مرن، لا يكلف النص أكثر مما يقترح، ومنفتح، لا يجعل منه تحليلاً أوحد، قراءته للنص قراءة بين قراءات، لأن رواية النص رواية بين روايات، فالمعنى هو المعنى الذي تقترحه كل رواية، كيفية سردها، وأثرها على القارئ. انطلاقًا مما سبق، سأحلل سورة المسد: تَبَّتْ يدا أبي لهب وتَبْ. ما أغنى عنه ماله وما كسب. سيصلى نارًا ذات لهب. وامرأته حمالة الحطب. في جيدها حبل من مسد.

الوقائع

هلاك أبي لهب في الآية الأولى. الوضع الاجتماعي لأبي لهب في الآية الثانية. الوضع العقابي لأبي لهب في الآية الثالثة. الوضع الشخصي لامرأة أبي لهب في الآية الرابعة. الوضع العقابي لامرأة أبي لهب في الآية الخامسة.

التقديم

يبدأ التقديم بالدعاء على أبي لهب في الآية الأولى، ثم يصف التقديم وضعه الاجتماعي من زاوية التقليل من أهميته في الآية الثانية، في محور الحاضر. في الآية الثالثة، يضع النص أبا لهب في محور هلاكه، وكيف سيكون، في محور المستقبل. في الآية الرابعة، ينتقل التقديم إلى امرأة أبي لهب واصفًا إياها بحمالة الحطب، وصف هو في الوقت نفسه تبرير لمصيرها، مصير زوجها. في الأية الخامسة، تفاصيل هذا المصير.

الكلمات والصور

الكلمات هي في الوقت نفسه الصور، كلمة تَبَّتْ هي صورة الهلاك، في الآية الأولى. كلمة أغنى هي صورة الغنى، في الآية الثانية، وكلمة كَسَبْ صورة الكَسْب. في الآية الثالثة، الشيء نفسه بخصوص يَصلى. في الآية الرابعة، كلمة وصورة حمالة تتحددان بالإضافة، إضافة الحطب، بينما كلمات الآية الخامسة بمجموعها ترسم الصورة.

سرد الوقائع

تُسْرَد الوقائع بطريقة لا حيادية، فالشخصيتان أبو لهب وامرأة أبي لهب مدانتان منذ الكلمة الأولى "تَبَّتْ"، وتُسْرَد هذه الوقائع من عيني السارد، ومن عيني السارد نرى وضعي الشخصيتين الاجتماعي والشخصي، ونرى المصير الذي ينتظرهما. زد على ذلك، لا يترك ما يرويه السارد أيَّ مجال للسارد إليه (للقارئ) كي يُقَدِّر الوقائع بنفسه، ويُصدر الحكم، فالحكم ينطق السارد به منذ الكلمة الأولى "تَبَّتْ"، ولا يعطي السارد إليه (القارئ) أقل فرصة للحكم. لكن يتميز السارد، كمفهوم في الأدب، عن المؤلف الحقيقي، عن المؤلف التاريخي، وفي القرآن، عن الله. إنه جبريل، السارد الملائكي، تحت صوت المجهول، تمامًا كما هو عليه السارد الأدبي، السارد الكلي العلم، السارد الذي يعلم كل ما يسرد، بخصوص الشخصيات، أفعالهم، أفكارهم، مصائرهم، يعلم كل ما يسرد حتى بخصوص الله. غير أن السارد الملائكي يقدم للقارئ كل ما يجعله يفهم من سرد يسرده، فلا يشك القارئ فيه، ولا يظن أنه يخدعه.

السارد والسارد إليه

لا يشك السارد إليه، أي القارئ، في السارد، منذ الكلمة الأولى للآية الأولى "تَبَّتْ"، فهو يدعو بالهلاك، ب "تَبَّتْ"، وينفذ الدعاء ب "تَبْ"، دون أن يترك أي مجال للشك. منذ الآية الأولى، يجد السارد إليه (القارئ) نفسه في عالم السارد، الذي هو عالم الشخصية الرئيسية أبي لهب، وينغلق باب هذا العالم عليه. للوقوف على أبعاد هذا العالم، يعرض السارد الوضع الاجتماعي لأبي لهب من زاوية "التحدي" الذي يغدو تحديًا للسارد إليه (للقارئ)، في الآية ما أغنى عنه ماله وما كسب. يكتفي السارد بملامسة وضع أبي لهب الاجتماعي ملامسة للثقة المتبادلة بينه وبين المرسل إليه (القارئ)، وللرؤية الواحدة، فلا يدخل في تفاصيل الصراع بين وضع عم الرسول الاجتماعي وبين وضع الرسول الاجتماعي، ولا يدخل خاصة في تفاصيل الصراع بين دين أبي لهب وبين دين ابن أخيه، كل شيء محسوم سلفًا، كل شيء مُسَلَّم به سلفًا، لا نعرف عن دين أبي لهب غير ما نعرفه في أدبيات أديان الجاهلية، فتفعل معرفة التلقين فعلها في معرفة اليقين. لهذا، ما ينقله السارد في الآية الثالثة عندما يسرد قائلاً سيَصلى نارًا ذات لهب، لا يُبقي لدى السارد إليه (لدى القارئ) أقل شك فيما يسرد، وقد انتهى الأمر بالسارد إليه (بالقارئ) إلى اليقين، ولتأكيد اليقين باليقين جاءت الآيتان الرابعة والخامسة عن امرأة أبي لهب. هنا، السارد إليه (القارئ) ككل سارد إليه (ككل قارئ) لن يكون سلبيًا، وإلا لما أمكن السارد أن يسرد، ولبقي السرد في كلماته ميتًا. لكن ما يختلف بين السارد للنص الديني وبين السارد للنص الروائي، كل استراتيجية التوصيل لدى السارد للنص الديني ليست ذات فائدة إذا لم يثق به أحد، إذا لم يعتبره أحد دليل فهمه للآيات. بالكلام السيميائي، فهم السارد إليه (القارئ) لسورة المسد (ولكل سور القرآن) هو فهم يساق إليه بإشارات يتركها السارد في الآيات، وهذه الإشارات على السارد إليه (على القارئ) أخذها بعين الاعتبار إن هو أراد الدخول في عالم النص القرآني، وجَعْل قيم النص القرآني قيمه.