بسم الله الرحمن الرحيم


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 5666 - 2017 / 10 / 11 - 17:38
المحور: الادب والفن     

وسائل الاتصال

كانت وسائل الاتصال ولم تزل وسائل اتصال بين الثقافات، والقرآن كالإنجيل كالتوراة، عند الحديث عن الأديان، وسائل اتصال ليست معزولة عن غيرها من وسائل الاتصال الإنساني، كالرواية والقصيدة والمقالة وباقي الأجناس الأدبية. تتناقل المجتمعات عبرها عاداتها وتقاليدها، وتتطور بعاداتها وتقاليدها بأفعالها كأفراد تصارع من أجل العيش، وتتصارع. وعندما أقول المجتمعات تتناقل عبر وسائل الاتصال أعني أن كل ما نقرأه عبارة عن بحث عن "دلالة الفعل الإنساني"، مثلما يؤكد عالم السيميائيات الروسي بروب، عبارة عن بحث عن معنى الفعل الإنساني، عن القصد الكامن من ورائه، والقرآن، في هذا السياق، المشتق كمفردة من فعل اقرأ، خير مثال. بناء على ذلك، سأقوم بتحليل سردي لسورة الفاتحة، وكيف تمت بَنْيَنَتُهَا حول معناها.

بنية سورة الفاتحة

تُبنى سورة الفاتحة حسب مستويين، مستوى "الحمد" (الحمد لله رب العالمين) ومستوى "الهداية" (اهدنا الصراط المستقيم). إذن للسردية هناك لحظتان متعاقبتان، لا فصل بينهما، فالحمد لأجل الهداية. لكن ما يبدو وصلاً هو في الوقت نفسه فصل بين مطلب الحمد من أجل الهداية، هداية الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، وبين مطلب الحمد من أجل اجتناب صراط المغضوب عليهم والضالين، وبفضل الفصل هذا، بين مطلبين هما في أصلهما واحد، تصبح للحمد قيمة التمني، وللتمني صورة الذي منه نتمنى وله نحمد، الله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. وهي صورة لسلطة عبرت عنها هذه المنطوقات، وإن شئت هذه الآيات، لتحدد واجب وفعل العباد المتمثل بمنطوقة إياك نعبد وإياك نستعين. لهذا، عن طريق الفصل بين مطلب الحمد ومطلب الهداية يتم تحديد المؤمن غير المغضوب عليه وغير الضال من غير المؤمن المغضوب عليه والضال، ومع التحديد يكون التحويل في السورة: الإسلام تحت استعارة الصراط المستقيم، واليهودية فالنصرانية تحت استعارة المغضوب عليهم والضالين، ومن حول ثيمة الذين أنعمت عليهم ، تدور كافة آيات سورة الفاتحة، وكأن سورة الفاتحة عبارة عن برنامج للفعل الإنساني في حمد الله وعبادته والاستعانة به والتنعم بإرادته.

البرنامج السردي لسورة الفاتحة

سارد السورة هم العباد، وهم بسردهم ينقلوننا إلى عالم خيالي، لنقل إلى عالم سماوي، عالم الله رب العالمين، فيقيمون تقييمهم للوجود حسب مبدأ التعارض بين شخصية الله الكلي العلم الكلي الوجود وبين العالَم (العالمين) الذي هم جزء منه. لهذا، العالم في مفهومهم ليس العدم، وإلا أطاحوا بمطلب الهداية، وأعدموه. ولهذا، اتسموا بصفة مشتركة فيما بينهم وبين أنفسهم، عبادة الله (إياك نعبد)، وفيما بينهم وبين الله، الاستعانة بالله (وإياك نستعين)، وذلك لأجل تضمين بنيوي هائل، الله قادر على هدايتهم قدرته على الذين أنعم عليهم (صراط الذين أنعمت عليهم)، وفي هذا تأكيد لشخصية الله في عالمه السماوي، وبالتالي وجود هذا العالم، في نفس الوقت الذي فيه تأكيد للشخصية الجماعية للمؤمنين، بكلمات أوضح للمسلمين من عباده، وبالتالي لشخصيتهم في عالمهم الأرضي، وبتالي التالي لوجود هذا العالم الأرضي المرتبط بوجود العالم السماوي، وفي هذا يكمن التحريك الأساسي لبرنامج سورة الفاتحة السردي، القائم على العلاقة الهرمية بين المرسل (الله) والمرسل إليه (العباد)، الله كفاعل أعلى للفعل والإرادة (يرحم يملك يهدي ينعم) والعباد كفاعل أدنى للفعل والواجب (يحمدون يعبدون يستعينون يهتدون)، مما يعني الطاعة الفعالة، أشدد على الفعالة لا العمياء.

البرنامج السردي المضاد للسورة الكريمة

يكون البرنامج السردي المضاد في سورة الفاتحة بكون المغضوب عليهم والضالين، وعلى عكس ما يتوقع المرسل إليه، أي المؤمن، أي المسلم، اليهود والنصارى هنا هم شخصيات فاعلة، تُدَيْنِمُ (من دينامية) النص، وجودها ليس لطبيعة عنصرية، لطبيعة عدائية، وجودها لطبيعة دلالية، تعمق من ثيمة الحمد والهداية، وتجعل منها شخصيات حيوية، لأن شخصيات الخير وشخصيات الشر تتعارضان بين الذين أنعم الله عليهم والذين لم ينعم الله عليهم، وهنا تمتد الرقعة امتداد الإنسانية بمن فيها المسلمون أنفسهم، وليس بالضرورة حصرها بنصارى ويهود.

النظرة التعددية إلى المقروء المقدس وغير المقدس

للتوتر الموجود في النص الفاتحي صفة التوتر في الاتصال الإنساني، في الدال اللغوي قبل المدلول، لتعقيد العالم الذي نعيش فيه ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًأ. لهذا، تجدني أؤكد تأكيد عالم السيميائيات الفرنسي غريماس أن الفرد منا فرد دلالي، لأن عليه المشاركة في بناء معنى الحياة اليومية. وتجدني أرى ما تراه الباحثة الكندية ماريا لورد آرس أن الكلمات، الأفعال اليومية، الصور، الهندسة، كل هذا عليه أن يكتسب معنى مشتركًا بدءًا من علاقاتنا، في سياق محدد، في حالة محددة، وليس في سياق منعزل، في حالة منعزلة، ليس في شكل منعزل، فكل شيء محكوم ببنى تكون، تساعد على إعطاء معنى. القرآن كبنية، وعلى التحديد سورة الفاتحة كبنية، حاولت من خلال تحليلي السيميائي تحديد مجموعة القوانين التي تحكمها، والتي هي، أي القوانين، تشكل فيها جزءًا من العنصر الأساسي لحياتنا اليومية، إلى جانب قوانين أخرى في بنى أخرى لنصوص أخرى. بهذه الطريقة التعددية في النظر إلى المقروء المقدس وغير المقدس نعمق معنى العالم، ونقوي دورنا فيه.