علاج فانوني لعقدة الإنتساب إلى لآخر لدى بعض المغاربيين


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 5664 - 2017 / 10 / 9 - 21:16
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير     

علاج فانوني
لعقدة الإنتساب إلى الآخر لدى بعض المغاربيين


البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-





لعل أكبر مشكل هوياتي تعانيه منطقتنا هو سعي تيارات أيديولوجية يغلب عليها البعثيون المتسترين في بعض الأحيان بالدين الذي يعادونه في المشرق العربي، ويدفعون شعبنا إلى رفض الإنتساب إلى الأرض التي عاش فيها أجدادهم، ويفضلون الإنتساب إلى آخرين، وهو ما يثير مشاكل هوياتية خطيرة، بل يتبنى هؤلاء "وهم عرقي"، ويروجون له، ويعملون ضد الهوية الأصلية للأرض التي يعيشون فيها، ويزورون تاريخها ويطمسونه، بل يقزمون أجدادهم، ويقللون من قيمتهم، لدرجة ترديدهم نفس ماكانت تردده، وتروجه الأيديولوجية الإستعمارية المحتقرة لتاريخ شعبنا وطمس كل إنجازاته الحضارية، وهو ما يطرح سؤال: لما يتصرف هؤلاء بهذا الشكل ويحتقرون ذاتهم؟
فبالرغم أن هذه النقاشات اليوم تجاوزها الزمن، ويعيش العالم في دول المواطنة التي تعامل كل مواطنيها على أساس المساواة في الحقوق والواجبات دون أي تمييز ديني أو عرقي أو لغوي وغيرها، لكن لازال بقايا البعثيون وبعض الإسلامويين عندنا يثيرون دائما مسائل الهوية والأصل وغيرها، ويريدون فرض هوية وممارسة دينية قهرا على كل الجزائريين والمغاربيين، بل يريدون فرض عليهم "وهما عرقيا" أخترعوه، وكل مرة يغيرونه، فتارة ينسبوننا لعرب الجزيرة أو اليمن ثم تارة أخرى يقولون "نحن فنيقيين"، وتارة أخرى "نحن أتراك"، ولعل سيأتي يوما فيقولون نحن فرنسيين، فماهؤلاء في الحقيقة إلا أعداء للأمة الجزائرية، ويحتقرون كل ما هو جزائري، وولاءهم لم يكن يوما للجزائر، رغم أنهم يعيشون بيننا، فقد كتب أحد كبار قادة الثورة والإتجاه الإستقلالي حسين آيت أحمد رحمه الله في كتابه "مذكرات مناضل" "أن هناك جزائريون يفضلون جزائر فرنسية على أن تكون أمازيغية"، ولمح زميله في النضال بن يوسف بن خدة وآخرون إلى نفس المقولة تقريبا، وما يجعلنا نشك في هؤلاء هو أنه كلما سعى الجزائريون إلى الوحدة وتشكيل جبهة واحدة لمواجهة سواء الإستعمار في الماضي أو الإستبداد والإستغلال اليوم أثاروا لنا هذه المسائل مستغلين وسائل التواصل الإجتماعي لزرع التفرقة والكراهية بين أبناء شعبنا، وعادة ما يتحركون بقوة ضد البعد الأمازيغي الذي يشكل بعدا أساسيا لهوية المغاربيين والجزائريين إلى جانب كل من الإسلام والعربية، فيثيرون بذلك ردود فعل مقابلة لهم، مما يمكن أن يهدد وحدتنا، فلصالح من يعمل هؤلاء؟ ألا يحق لنا أن نشك، بأنهم في خدمة أجندة لقوى دولية كبرى تستهدف تفتيت دولنا على أساس أوهام عرقية وطائفية؟.

فهل من المعقول أن لاينجز شعبنا شيئا بالرغم من أن هذه الأرض المغاربية عامة والجزائرية خاصة كانت مهد الإنسانية، ووجد فيها أقدم هيكل عظمي هو إنسان تغنيف الذي يتجاوز عمره نصف مليون سنة؟، أليس هناك إرادة من تيارات أيديولوجية تحطيم شعبنا نفسيا في المدارس بطمس تاريخه ومنجزاته الحضارية ونسبها للآخرين، ومنها حتى منجزاته في الحضارة الإسلامية؟، ألا يردد هؤلاء نفس الأيديولوجية الإستعمارية الفرنسية التي روجت لفكرة أن هذه الأرض فارغة، فجاءها الفنيقيون والرومان والأمويين والأتراك وغيرهم، ثم جاءوا هم، ولم يكن هدف الإستعمار الفرنسي من ترويج هذه الأفكار إلا إيجاد شرعية بأنهم جاءوا مثل الآخرين، وأهملوا الجزائريين والمغاريين في هذا التاريخ، كما يهمله هؤلاء اليوم، وكأن هذه الأرض هي "دار عمي موح"، وهو نفس طرح الصهيونية التي قالت عن أرض فلسطين أنها "أرض بلا شعب لشعب بدون أرض"، وما انجر عنه محو الشعب الفلسطيني وحضارته وتهويد الأرض، فيجب أن نبرز بأن هذه الشعب الجزائري، خاصة والمغاربي عامة عريق وأنجز الحضارات، وحارب كل الغزاة بداية بالرومان مرورا بالأمويين وصولا إلى الإستعمار الفرنسي الإستيطاني.

كما يروج بقايا البعثيين وبعض حلفاءهم الإسلامويين لأكاذيب حول مسألة اللغة، فليعلم الجزائريون خاصة، والمغاربيون عامة أنه رغم الطمس التاريخي، فإن أجدادهم كانوا من الأوائل الذين أخترعوا حروفا للكتابة متمثلة في التفيناغ، والتي تعني بالأمازيغية "كتابتنا" مما يدل على مدى قدرتهم على التجريد، وهي سمة الشعوب المتحضرة، بالرغم من أن بعض أعداء تاريخ أمتنا في الداخل والخارج الذين ينسبون أمجادنا إلى الأجانب والغزاة ويسعوا لطمس هذه الحقيقة، وروجوا لأكذوبة أنها حروف إخترعها الفنيقيون، لكن لنسألهم هل الفنيقيون الذي كانوا مجرد تجار يتنقلون في سواحل البحر الأبيض المتوسط لتسويق سلعهم في السواحل وصلوا إلى الصحراء والهوقار، وكتبوا بهذه الحروف في العديد من الجداريات كعين الصفراء وغيرها من المواقع العديدة رغم كل محاولات عدم لفت الإنتباه إليها بتأثير تيارات أيديولوجية تعادي تاريخنا وثقافتنا وقيمنا الأصيلة؟، بل عمد بعضهم مؤخرا إلى محاولة محو جدارية عين الصفراء بطلائها امام سكوت السلطات، وهذا يعد جريمة بحكم القانون.

كما أثبت التاريخ الطويل لشعبنا تعامله البرغماتي والمنفعي مع مسالة اللغات، فبالرغم من وجود الأمازيغية التي بقيت صامدة، وهي الثابت الوحيد الذي أستمر رغم كل محاولات الإستعمارات المختلفة والأعداء الأيديولوجيين لأمتنا لطمسها ومحوها، لكنها لم تمنع شعبنا عبر تاريخه من إستخدام عدة لغات حضارية إلى جانب الأمازيغية بشكل متفتح وبراغماتي، أي حسب الفائدة التي يجنيها، فقد أنتج مثلا لغة جديدة لتسهيل تبادل السلع بالمقايضة مع التجار الفنقيين، وهو ما يدل على القوة الحضارية لشعبنا، وبأنه منتج للسلع، فظهرت البونيقية في الألف الأول ق م لأهداف تجارية بحتة، وهي خليط من أمازيغية وفنيقية، وأنتشرت في السواحل، فهل هذا الأمر يحولهم إلى فنقيين، فحتى الأمازيغية والعربية الدارجة الجزائرية اليوم تحمل الكثير من الكلمات الفرنسية والتركية والإسبانية وغيرها، فهل هذا يسمح بنسبتنا إلى أحد هذه الشعوب؟، فهذه الظاهرة تنطبق على كل شعوب ولغات العالم، فكل اللغات تتفاعل مع الأخرى، وتعطيها كما تأخذ منها، وهو ما يسمى بعملية التثاقف، وقد تعامل الجزائريون في القديم أيضا بالأغريقية، فهل هم أغريق؟، وهل تعاملنا اليوم بالفرنسية معناه نحن فرنسيون؟، وهل حديث شعوب كالسنيغال والكاميرون وغيرها من الشعوب في العالم بالفرنسية أو الأنجليزية معناه أنهم فرنسيون أو أنكليز مثلا؟، أكيد أن الجزائريين قد أنتجوا بكل من الأمازيغية والأغريقية والبونيقية وغيرها، لكن طمس مختلف الإستعمارات هذا الإنتاج، وعرضته للإتلاف خاصة من الرومان،


لكن السؤال المطروح لما يصر البعض من المغاربيين على الإنتساب إلى الآخر، فهناك عدة تفسيرات لذلك تطرقنا لها في العديد من مقالاتنا، لكن هناك تفسير آخر أهمله البعض، ويحتاج إلى دراسة أعمق، ويتمثل في وجود عقدة نقص لدى هؤلاء نتجت تاريخيا من إنبهار وإعجاب بعض الأمازيغ بالعرب لأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم منهم، وأعتقدوا أنهم الأوائل الذين حملوا رسالة الإسلام التي جاءت من الله سبحانه وتعالى، فتبنوا اللغة العربية بصفتها لغة الإسلام ولغة الحضارة آنذاك، ووصل أمر هذا الإعجاب إلى درجة إنكار الكثير من الأمازيغ لأصولهم وتبني أصلا عربيا ولو بإختلاق أوهام، ولتوضيح ذلك جيدا نستند على فرانز فانون الذي وضع مفتاحا يفسر لنا ظاهرة التحولات الثقافية والإضطهادات العنصرية عبر التاريخ في كتابه القيم "بشرة سوداء، قناع ابيض".

نعتقد أن هذا الكتاب هو أهم كتاب لفانون على الإطلاق في نظري، والذي لم يلق إهتماما كبيرا، ففي هذا الكتاب قام بتحليل نفسية الإنسان الزنجي بسبب الإضطهاد العنصري والثقافي والإستعماري الذي مارسه ضده الإنسان الأبيض، ومايثير الإنتباه في تحليل فانون لظاهرة الزنوجة وعلاقة الزنجي بالأبيض هي عقدة النقص القاتلة التي خلقت لدى الزنجي رغبة ملحة في التخلص من زنوجته والتشبه بالإنسان الأبيض، وهو نفس ما يسميها بن خلدون "المغلوب مولع بالغالب"، لكن لاحظ فانون وهو الطبيب النفساني، بأن رغبة الزنجي في التخلص من زنوجته هي مستحيلة بسب إستحالة تغيير جلده، ولهذا فهو يرغب لو تمكن من إستبدال ذلك بقناع أبيض، وهو ما قام به الفنان مايكل جاكسون منذ سنوات أدت إلى وفاته، فهو ما يعني عند فانون أن عقدة الإنسان الزنجي مركبة، ومن الصعب جدا حلها.
لكن لم يذهب فانون في كتابه "بشرة سوداء، قناع أبيض" أبعد من مسألة الزنجي، ولم يطرح مسألة كل الشعوب المغلوبة، والتي تعرضت للإضطهاد العنصري والثقافي عبر التاريخ، والتي تتشابه نسبيا في السحنة واللون مع المضطهد، مما يعني تشبهه بالمضطهد والتخلص من ذاته ليس أمرا صعبا ومعقدا كما هو الحال في علاقة الزنجي بالإنسان البيض، ففي حالة التشابه النسبي في السحنة واللون، فمن السهل على المضطهد سياسيا وثقافيا وتمييزيا التشبه بمضطهده، لأن ماعليه إلا التخلص من هويته وثقافته ولغته، ويتبنى أصل وهوية المضطهد له، فيصبح مثله شريطة تغيير المكان الذي يعرفه فيه الناس، وهنا نطرح أسئلة أليس هذا هو ما حدث في العديد من البلدان عبر التاريخ أين اصطدم جنسين متشابهين نسبيا في السحنة واللون؟ أليس ماطرحه فانون يعد مفتاحا هاما في يد المؤرخين وعلماء الإجتماع لفهم العديد من المظاهر والتحولات الثقافية والإقتصادية والسياسية عبر التاريخ، ومنها بلادنا المغاربية خاصة بعد إصطدامهم بالأمويين وجرائمهم ضد شعبنا.

يمكن نقل تفسير فانون لعلاقة الزنجي بالأبيض إلى علاقة الأمازيغي بالعربي بعد إصطدامه بجرائم الأمويين وعنصريتهم التي تشبه عنصرية الأبيض ضد الزنجي وممارساتهم الإضطهادية التي مارسوها ضد شعبنا قبل أن يطردوهم شر طردة بعد ثورتين أمازيغيتين، فكما قال فانون عن الزنجي الذي كان يتمنى لو يحول لون بشرته إلى اللون الأبيض، لكنه لايستطيع، ويعبر عنها فانون بعبارة" بشرة سوداء، قناع أبيض"، لكن سهل ذلك الأمر على الأمازيغي لأن بشرته وسماته وسحنته القريبة من بشرة العربي، أي لا تعرقله في تغيير هويته على عكس الزنجي تجاه الأبيض الذي يشترط عليه تغيير لون بشرته كاملا، وهو ما يفسر لنا إعتقاد الكثير من الأمازيغ بأنهم عرب، وهو ليس صحيح لأن دخول الأمازيغ في الإسلام لم يحدث تغيييرا كبيرا في البنية السكانية، بل أحدثها في البنية الثقافية بتبني الأمازيغ عن حب وطواعية للدين الإسلامي واللغة العربية، بل تبنى البعض منهم الجنسية العريبة كما وضحنا ذلك من قبل .
ونضيف أن إعتقاد البعض بأن جدهم فلان أو علان من العرب وبأنها قبائل عربية هو بهتان آخر، لأننا يجب أن نفهم عملية هامة في هذا التاريخ الإستعماري الأموي، حيث كان بإمكان أي قائد عسكري أموي أن يضمن ويحمي قبيلة أو مجموعة من السكان من الإضطهاد، أي كان حاميا لهم، فأعتقد هؤلاء فيما بعد أنهم ينحدرون من هذا القائد العسكري الأموي، وهي ظاهرة تحتاج إلى بحث أعمق من المؤرخين.
ففي الأخير نقول انه لايكفي دحض الزيف التاريخي الذي روجته كل الإستعمارات لأرضنا، ومنها خاصة الأيديولوجية الإستعمارية الفرنسية التي يرددها اليوم البعثيون والبعض من الإسلامويين، بل يحتاج الكثير من هؤلاء الذين ينسبون أنفسهم إلى الآخر إلى علاج نفسي لعقدتهم النفسية، ولعل البعض ورثها عن أجداده، والتي أشرنا إليها آنفا، وبتعبير آخر نحتاج إلى أطباء نفس مثل فرانز فانون لعلاجهم، كما كان يعالج فانون ذاته في مستشفى البليدة الذي يحمل أسمه اليوم بعض المرضى الجزائريين الذين عانوا مما أسماها أمراض نفسية نتجت من علاقة الجزائري بالمعمر أو المستعمر الأوروبي، وهو نفس الأمر الذي تطرق له التونسي ألبير ميمي في كتابه "صورة المستعمر".
وفي الأخير نعلم أن هذه المقالة ستجلب لنا كل الشتم والسباب والتشويه والتهجم على شخصنا بإختلاق الأكاذيب من هؤلاء، كما يفعلون مع كل من يسفه أكاذيبهم وأراجيفهم، وكما يفعلون معنا منذ أن سفهنا علميا وبالدليل القاطع طروحات البعثي عثمان سعدي وترهاته ( أنظر مقالتنا: ردا على طروحات عثمان سعدي- من أجل نقاش علمي حول المسألة الأمازيغية-، الحوار المتمدن عدد12/06/2014)، لكن لايهمنا شخصنا بقدر ما يهمنا غرس الروح الوطنية والولاء لأمتنا فقط في نفسية الجزائري خاصة، والمغاربي عامة، ولايتحقق ذلك إلا بالإعتزاز بذاته وحضارته وتاريخه عبر كل مراحله دون أي إقصاء لأي مرحلة، فأين نحن من الملايين من شهدائنا الذين ضحوا بالنفس والنفيس دفاعا عن أرضنا ضد كل الغزاة عبر تاريخنا الطويل الممتد على آلاف السنين؟.


البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-