ثقافة القطيع الإسلاموية


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 5662 - 2017 / 10 / 7 - 02:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

لا يمكن للإنسان أن يصلح ذاته ويتذوق طعم الحرية والكرامة الإنسانية طالما كان سلوكه في الحياة يجري بموجب طرق وأساليب محددة سلفًا من قبل الآخرين ، بحيث يلزمونه أو يلزم نفسه باتباعها . الطريق الوحيد الذي يحقق له ذلك هو إدراكه للأسباب التي تحتم عليه أن يسلك هذا المسلك أو غيره، وقناعته الشخصية بأن أحدًا لا يمكنه القيام به نيابة عنه، بمعنى أن يختار أسلوب حياته بوعي وحرية، ودون تأثير من أحد، مع افتراض أن يكون مبدأ: عدم إيذاء الآخرين والتسامح ، أحد أشد الأخلاقيات صرامة لديه.

فالإنسان على عكس الكائنات الحية الأخرى، يشكل بذاته كينونة فاعلة مؤثرة ولها دورها الإيجابي في الوجود، ولا يقبل فكرة أن ينقاد لغيره، أو أنه بمجرد إتباعه لغيره سيتحقق له إصلاح ذاته. وذلك لأن المسؤولية الفردية أو الشخصية تنتفي تمامًا عندما يكون الشخص خاضعًا ومطيعًا لأوامر الآخرين ومنفذاً لها؛ حينها يصاب بالعجز وانعدام الضمير، فلا يستطيع أن يقرر عمله أو يحدد سلوكه بنفسه وبحريته الذاتية، ويصبح في حالة من العجز التي تولد المجتمعات العاجزة.

في فيلم «الاجتياح» ، وهو صناعة عروبية خالصة ، من إنتاج المركز العربي للإنتاج الإعلامي - الأردن، ويوثق لفترة الاجتياح الإسرائيلي لمدينة رام الله وحصار كنيسة المهد في بيت لحم ومدينة جنين ومخيمها في عام 2002، يقول الجندي الإسرائيلي : « انهم هم الذين يقولون لي اعمل كذا أو كذا، فالعمليات تدار من مكان آخر ، أنا لا أفعل شيئاً سوى قيادة آلية ثقيلة ، بقوة 460 حصان، من أجل هدم جدار أو مبنى، حتى أنني لا أرى الكثير من داخل مركبتي ولا أرى الجثث ، ولا أقرر بنفسي ما أعمل . ويستطرد قائلًا : لا أعرف شيئًا عن الدمار ، ربما لم أقم به أنا ، لم أقتل أحداً، ربما أحد غيري قام بذلك. وفي إجابته عن سؤال المخرج حول الحل الممكن أمامه من أجل عدم المشاركة في هذه الأعمال الوحشية، قال؟ لا فائدة من ذلك، إذا لم أقم أنا بالعمل فغيري سوف يقوم به».

هنا نجد أنَّ مُعِدِّي الفيلم قد استنطقوا الجندي الإسرائيلي بما يدور في خلدهم، ولكن المشكلة ليست خاصة بأي جندي مهما كانت جنسيته أو ثقافاته أو عقيدته ، لأن مهمته في الأساس هي ان يقتل ويرتكب أفظع الجرائم دون أن يسأل عن الدوافع والأسباب، وأن يكون مرتاح الضمير وبلا إحساس بالمسؤولية الفردية وكأنه هو وآلة التدمير التي بين يديه شيء واحد! ، بل هي مشكلة الإنسان العادي وانقياده لأي قطيع من نوع ما، حيث تتوزع المسؤولية على الجماعة من أجل تخفيف أو إزالة مسؤولية الفرد . فعندما يكون الشخص منفذاً لأوامر الآخرين ؛ تنتفي مسؤوليته الشخصية ويقل عذاب ضميره ، لأنه ليس هو من يقرر هذا العمل، بل الآخرون.

ديانة العربان الإسلاموية رائدة في هذا المضمار، خاصة وأن أوامر الكذب والقتل والسلب والنهب والاغتصاب والحرق والتدمير وغير ذلك من الأفعال الاإنسانية صدرت من قوة إلهية خفية، صنعتها نفوس مريضة وعقول هزيلة لتتبنَّاها السلطات السياسية الفاشية والدينية الغاشمة وتحكم وتعمل بمقتضاها، بحيث لا يمكن لأحد أن يسأل عن دوافعها وأسبابها ، فضلا عن مخالفتها أو الاعتراض عليها أو محاسبتها. فلا مجال هنا لعمل الضمير أو المشاعر الإنسانية، إذ لا تتاح للشخص المتأسلم أية فرصة كي يدرك الفرق بين التصرف وفق معتقداته الشخصية وقناعاته الذاتية وبين تصرفه كرضوخ لسلطة دينية أو دنيوية !

في يوليو 1961، وبعد ثلاثة أشهر تقريبًا من بدء محاكمة مجرم الحرب النازي وقائد الجستابو السابق “أدولف أيخمان Adolf Eichmann” في القدس، وفي محاولة منه لفهم حجم وكمية العنف الذي مارسته البشرية إبان الحربين الأولى والثانية، أجرى عالم النفس الاجتماعي “ستانلي ميلجرام Stanley Milgram” تجربة نفسية اجتماعية في قاعة Linsly-Chittenden في “جامعة ييل Yale University”، ليوضح على ضوئها سيكولوجية الانصياع والطاعة، وكيفية انصياع الناس للسلطة الفاشية الغاشمة، حتى وإن تناقض الانصياع والطاعة مع مبادئهم الشخصية وضمائرهم الذاتية، كان السؤال الذي طرحه ميلجرام في تجربته تلك هو عما إذا كان هناك إحساس مشترك بأخلاقية تلك الجرائم عند الذين تورَّطوا في تنفيذها ، وقياس مدى استعداد البشر لإطاعة الأوامر بتنفيذ أعمال لا أخلاقية ، بمعنى هل دورهم لا يتعدى تنفيذ الأوامر؟ أم أنهم شركاء في الجريمة؟

وبينت التجربة أن الطاعة كثيراً ما ترتبط بالجماعات ، حيث يتم تقسيم العمليات الاإنسانية مثل التعذيب و الإبادة المنظمة وغيرهما بين أعضائها، الأمر الذي ينجح بشكل كبير في تحقيق طاعة الفرد وتنفيذه للأوامر بلا ضمير أو رادع شخصي، لأنه عندما يقوم بجزء فقط من العمل يخف الشعور بالمسؤولية لديه، مما يضمن المزيد من التعاون من قبل أعضاء الجماعة، ويؤدي إلى تنفيذ المهام على أكمل وجه. وبذلك يصبح عدد الاشخاص الذين على استعداد لمقاومة السلطة ورفض أوامرها اللا أخلاقية أقل بكثير ممن هم على استعداد لطاعتها العمياء وتنفيذ تلك الأوامر؟

يقول ميلغرام : «النتائج كما تابعتها في المختبر، مقلقة، إنها ترجح أن الطبيعة البشرية غير جديرة بالاعتماد عليها لتبعد الإنسان عن القسوة، والمعاملة اللا إنسانية. ان نسبة كبيرة من الناس على استعداد لتنفيذ ما يؤمرون به عندما يتلقون الأوامر من قبل سلطة فاسدة ، دون أخذ طبيعة الأمر الصادر اليهم بعين الاعتبار، و بدون حدود يفرضها الضمير، ما دامت الأوامر صادرة عن سلطة شرعية ويشترك معه في تنفيذها العديد من الأفراد».

وذهب ميلغراما إلى أن « العقائد الفاشية سياسية كانت أو دينية لا تنمو الَّا مع تخلي البشر عن المسؤولية الفردية . بينما لا تنمو الديموقراطية إلا عند تمسكهم بالمسؤولية الفردية كحقيقة تختلط بالتنظيم الذاتي لوظائف الحب والعمل والمعرفة ببينهم . عندئذ يتصرف كل منهم بحسب ما يمليه عليه ضميره وليس بحسب ما تمليه سيكولوجيا القطيع ، وهو أن يتخلى عن حريته ويتْبَع ما يريده ويمليه الآخرون عليه دون تساؤل».

إن ديانة العربان الإسلاموية قائمة في صلبها وجوهرها على ثقافة الحشد الفكري الجماعي وتوصيلها إلى المتأسلم حتى غرف نومه ومن ثم جعل القطيع معبَّأً بالنفور والكراهية وجعل الفرد في حالة دائمة من التبعية والانقياد، مما يبعده تدريجيًّا عن التعرف على طبيعته التلقائية وإدراكه الإنساني لكيفية استجابته الفطرية التي تمنحه قدرًا من المناعة الذاتية ، كي تخرجه من أخطار الانقياد الأعمى للسلطات الدينية والسياسية. وكنتيجة حتمية لهذا الحشد الفكري لا يشعر المتأسلم بالاطمئنان إلَّا ضمن القطيع ، ولا يمكنه أن يتخيل نفسه خارج القطيع، فلا قيمة له إلَّا داخله، إذ يشعر خارج القطيع بأنه عديم الهوية والإرادة، سهل الافتراس من الأعداء المزعومين ، الذي يحيكون له ولقطيعه المؤمرات ويدسون له ولقطيعه الدسائس .

إن وجود الإنسان وسط حشد من أقرانه أو مجرد إحساسه بالانتماء إليه يحقق له قدرا كبيرًا من الأمان وعدم الخوف ، فتبدأ مشاعره العدوانية المكبوتة في الظهور دون التفكير في عواقبها حيث تسود العاطفة على العقل وغالبا ما تكون هذه المشاعر هستيرية كي تنتشر بين باقي القطيع كالنار في الهشيم وبسرعة خيالية ، فهو ينفعل ويتحرك داخل كتلة صلبة أو في حمايتها، فيخاف على نفسه من الخروج عنها ثقافيًّا أو فكريًا أو عمليًا. ولذلك غالبًا ما تكتسب تلك الكتلة الصلبة زخمًا كبيرًا وينضم إليها دائمًا شخصيات بارزة ومؤثرة في المجتمع.

يقول الفيلسوف والأديب والمربي الفرنسي إميل كارتييه Emil Chartier (1868 ـ 1951) المعروف باسم آلان Alain في كتابه " أحاديث عن التربية": إن "القسوة تتضاعف بفعل الحشد (القطيع) ولذا يَمضي أفراده لحضور عذابات يخافون منها. ويصبح لديهم خوف هستيري وعدم الثقة بكل ما يرونه جديدا من الأشياء والكائنات الأخرى".

ثقافة الحشد أو سيكولوجيا «الغوغاء» و«عقلية القطيع» الإسلاموية تحمل المرء على التصرف بلا عقلانية أو بلا أساس منطقي ارضاءً لغريزة القطيع التي تجعله يهتف له بلا وعي مع الحشد ويهلل له ويدافع عنه . فالقطيع لا يملك قدرة التمييز بين الصديق والعدو، النافع والضار، بين الخطر الحقيقي وما يُشبهه، فسلوكه يَخلو دوما من التمييز. ومع ذلك فدائما ما يكون هناك أقلية داخل القطيع واعية ورصينة تحافظ على هدوئها.

يقول «جوستاف لوبون» مؤلف ومؤسس «سيكولوجية الجماهير»، إن العقل الفردي يختلف عن العقل الجمعي في التفكير، فالأول قد يصل إلى قرارات منطقية، ولكنه إذا انجرف مع العقل الجمعي فقد يتصرف بصورة سلبية، «يمكن أن توجد هوة سحيقة بين عالم رياضيات شهير وصانع أحذيته على المستوى الفكري، ولكن من وجهة نظر المزاج والعقائد الإيمانية فإن الاختلاف معدوم غالبا، أو قل: إنه ضعيف جد»، لوبون.

إن مفتاح شخصية الجماهير في المجتمعات الإسلاموية متاح لكل شخص حيث أنه يتردد كل يوم فى ثقافتها التراثية بشكل مكثف وملفت للنظر معتمدًا على حديث عن كبير الدجالين عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سمع نبيهم يَقُولُ « كُلُّكُمْ رَاعٍ وكلكم مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».

فعلى مدى مراحل التاريخ يطلق لفظ " الرعية " على الشعوب العربية والإسلاموية ، واللفظ مأخوذ من بيئة العربان ( الرعوية بشكل خاص ) حيث يكثر مشهد الراعى الذي يمسك عصًا ويهش بها على غنمه ليقودها إلى مواطن العشب والكلأ ، ويحميها من الذئاب ، ومن التفَرُّق والضياع. والأغنام عادة ما تطأطئ رأسها إلى أسفل لتأكل العشب أو تشرب الماء ، ولا ترفع رأسها إلَّا للحظات قصيرة كعلامة على انتشاء الشبع . وهي تتحرك فى مجموعة يشكلها الراعى تبعًا لما يراه، وإذا شردت منهم واحدة يردها بإشارة أو ضربة من عصاه أو يطلق عليها الكلاب. ولا يتصور أن يكون لهذه الأغنام رؤية أو إرادة أو اختيار ، وللراعى الحق كل الحق فى بيع بعضها وذبح البعض الآخر دون مساءلة من أحد . هذا هو مشهد عملية الرعى التى اشتقت منها الكلمة ، وقد ينزعج البعض من بشاعة هذه المشهد إذا تخيلنا نقله بدقة إلى عالم البشر أو قلنا إن مجموعة من الناس يتبعون هذا النمط ، مع أنه هو الذي يشكل جذور السلوك وبنيانه في المجتمعات المتأسلمة من خلال تتبع معانى ودلالات التسمية والتى رسخت واستقرت بفعل الثقافة الدينية المسيطرة فى طبقات عميقة من الوعى العربى العام فشكلته ودمغته. قد يبدو هذا المفهوم موجعا أو جارحا خاصة إذا نقله أى شخص من المشهد الرعوى الحقيقى إلى المشهد الإنسانى دون تحويرات لازمة تتصل بطبيعة البشر ، ولكن من المؤكد أنه حتى إذا تمت هذه التحويرات يبقى للفظ دلالاته وتأثيراته العميقة والتى نستطيع تتبعها - بوجه خاص - فى شكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم فى كثير من مراحل التاريخ العروبى الإسلاموي ، فقد كانت السلطة دائما فى يد الحاكم ( الراعى ) الذى يرى ويوجِّه ويجمع ويفرِّق ويعطى ويمنع ويحمى ويبدد ويحيي ويميت، ولم يكن ثمة دور للرعية ( أو الرعايا ) إلا الإستجابة ( رد الفعل ) للراعى . وهذا المفهوم الرعوي يدعمه مفهوم أخلاقى آخر وهو فكرة المجتمع الأبوى الذى ترى فيه صورة الأب خفاقة عالية وصورة الأبناء صغيرة تابعة متطفلة . وهذا المفهوم الرعوى - الأبوى يجعل الرعية دائما فى حالة تبعية وتسوُّل ، فهم لا يعتقدون أن لهم حقوقًا وإنما ما يحصلون عليه هو هِبَة من الراعى أو من الأب إن شاء أعطاهم إياها وإن شاء منعها عنهم ، وهذا يفسر مانراه من ظاهر النفاق والرياء والتزلف والإسترضاء والتسوُّل والتوَسُّل والدعاء بطول العمر للراعى أو للأب المانح القادر . وقد تعجب أنك فى كثير من المجتمعات العربية حين تقدم لأحد خدمة معينة فى حدود وظيفتك أو عملك تجده يكثر لك من الدعاء وكأنك قدمت له شيئا لم يكن يستحقه ، فى حين أن هذا لا يحدث فى المجتمعات الصحية التي تستشعر أن لها حقوقا تأخذها بكرامة وهى رافعة الرأس شاكرة بموضوعية وأدب ، إذ أن هناك فرقًا كبيرًا بين شكر الأحرار ودعوات المتسولين . فما نجده فى بلاد العربان المتأسلمين هو أشبه بدعوات المتسولين لمن قدموا لهم عطاءً ، تلك الدعوات التى تظهر فقط أمام صاحب العطاء لتستبدل بعد غيابه عن أعينهم بأشياء أخرى كثيرا ما تكون مناقضة وفيها الكثير من السب واللعن.

على الإنسان الفرد ان يستخدم عقله وفكره ويحَكِّم ضميره ويبحث عن الدوافع والأسباب ، ولا ينقاد للقطيع انقيادًا أعمى وألَّا يسمح لاحد بالسيطرة على اغلى ما يملك الا وهو حريتة الشخصية . النضج الكامل للفرد هو الهدف الاسمى لحياته الإنسانية ، لأن تطوير المجتمع بحاجة الى تطوير الفرد وليس من يقوده ، فالافراد العاجزون يولدون المجتمعات العاجزة.