مقالات حول جدلية الدين والسياسة(4)-محاولات تنظيرية وتطبيقية لحل المشكلة-


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 5657 - 2017 / 10 / 2 - 21:08
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

مقالات حول جدلية الدين والسياسة (4)
-محاولات تنظيرية وتطبيقية لحل المشكلة-

لم يع الكثير من الباحثين المسلمين إلى حد اليوم أخطار ما كتبناه في المقالات السابقة حول التأثير السلبي لإستغلال الدين لأغراض سياسية وسلطوية على إستقرار البلدان الإسلامية، وهو ما جعل الكثير من هذه البلدان لاتتقدم إلى الأمام، وتدور في دائرة مغلقة، كما وضح ذلك فريدريك أنجلس مستخدما -حسب ما يبدو- الطرح الخلدوني.
لكن ما يؤسف له أكثر هو عدم إتخاذ مواقف شجاعة من هذه المسألة سواء من السلطة أو المعارضة رغم إدراك مهالكها، ويعود ذلك إلى الخوف من إغضاب الشعب الذي جزء كبير منه لم يضع قطيعة مع العصبيات الدينية واللسانية والقبلية والجهوية وغيرها التي أنشأتها عصور إنحطاط الحضارة الإسلامية، والتي لازالت سائدة إلى حد اليوم، وقد لمح إليها بن خلدون في حينه.
فعندما اكتشف المسلمون تخلفهم في القرن التاسع عشر بعد الإصطدام بأوروبا لم يسعو إلى فهم أسباب التخلف، بل انبهروا بأوروبا، ورأوا أن إتباع نموذجها هو الكفيل بإخراجهم من هذا التخلف، لكن هذا الإتباع، يطرح أمامنا مسألة مكانة الإسلام في ذلك، فظهرت محاولات لإعطاء صبغة دينية لقوانين ومؤسسات وأفكار وأنظمة نقلت من أوروبا، ويبرز لنا مثلا رفاعة الطهطاوي الذي قال أن مارآه في فرنسا من مؤسسات دستورية وأنظمة وقوانين هي من صميم الإسلام، ولا تختلف عنه، بل ذهب الطهطاوي إلى حد القول أن قوانين نابليون هي من صميم مذهب الإمام مالك بن أنس، ونجد نفس الشيء تقريبا عند محمد بن أبي ضياف في المغرب الأقصى، وكذلك خير الدين التونسي في تونس.
كما أدى الإصطدام بأوروبا إلى ظهور حركات الإصلاح الديني على يد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده التي أرادت دخول المسلمين العالم المعاصر بإستيراد ما أنتجته أوروبا من مؤسسات وأنظمة وشرائع، لكن بقيامهم بتوفيق ذلك كله مع الإسلام، أو بتعبير آخر القيام بعملية تأويلية للإسلام تتماشى مع طرحها، وهو أمر معقول، لأن في الحقيقة حتى أوروبا ذاتها، ومنها مفكروها ومنظروها وفلاسفتها أستندوا في الكثير من المرات على تأويل تنويري وتقدمي لنصوص الكتاب المقدس، أي الأنجيل سواء في عهده القديم أو الجديد، لكن وجد هؤلاء الإصلاحيون المسلمون معارضة شديدة من بعض الذين يمكن تسميتهم بالمتشددين المسلمين، كما وقع لمحمد عبده في الأزهر أو بن باديس في الجزائر، وعادة ما كانت تتحكم في هذه المواقف مصالح سياسية ومادية وسلطوية، ومنها بالأخص البحث عن نفوذ ديني الذي يعد شكل من أشكال السلطة، لكن هذا يخص قادة صناعة الرأي العام، وليس عامة الناس الذين عادة ما يتأثرون بهذا أو ذاك حسب درجة الثقافة في الكثير من الأحيان .

وظهرت في نفس الوقت أطراف في العالم الإسلامي تطالب بإتباع أوروبا في كل شيء دون الأخذ بعين الإعتبار العامل الديني، لكن ظهر هؤلاء متأخرين، وكانوا في البداية من مؤيدي حركات الإصلاح الديني، لكنهم تطرفوا فيما بعد كرد فعل منهم على بعض المتطرفين الدينيين الذين يرفضون أي عملية إصلاحية وتجديدية للدين.

فانقسم بذلك العالم الإسلامي بين ثلاث تيارات فكرية للخروج من التخلف، وتتحدد موقف كل تيار حسب البعد أو القرب من الإسلام، فنجد المتزمتين الذي يرفضون أي تغيير أو تجديد، ويدعون للعودة إلى ما يعتبرونه أنه الإسلام النقي-حسب فهمهم طبعا-، ونجد ضمن هؤلاء الحركة الوهابية في الجزيرة العربية التي أدت إلى ظهور المملكة العربية السعودية، ومعها الكثير من الدول على شاكلتها، وهناك تيار إصلاحي يأخذ محاسن أوروبا، ويعطيها صبغة إسلامية، وهو ما نجده في الكثير من الدول الوطنية التي جاءت بعد الإستقلال في العالم الإسلامي، ونجد تيار ثالث وضع قطيعة مع كل ما هو ديني، ويعتبره تخلفا، ودعا إلى لائكية على النمط الفرنسي المعروفة بعدائها لكل ماهو ديني لأسباب تاريخية سنتطرق إليها في مقالات قادمة.

فنجد من ضمن هؤلاء الكثير من المفكرين في العالم الإسلامي، يتبنون هذا الطرح الأخير معتقدين أن أوروبا لم تتقدم إلا بإبتعادها التام عن الدين، ودعوا إلى لائكية على النمط الفرنسي، خاصة أن التأثير الفكري والتاريخي للثورة الفرنسية كبير جدا على الكثير من النخب، خاصة العربية منها، ونجد من ضمن الدعاة إلى هذه اللائكية في القرن التاسع عشر شبلي شميل وفرح أنطون، ثم جاء آخرون في القرن العشرين مثل فؤاد زكريا وجلال العظمة في سوريا الذي اعتبر أن التمسك بالدين هو سبب هزيمة 1967 أمام إسرائيل.

وكرد فعل على هذا الطرح ظهرت الحركات السياسية الدينية، ونمت بشكل كبير حيث رفعت شعار "الإسلام دين ودولة"، لكن تختلف هذه الحركات، كما يختلف منظريها في رؤيتهم لتطبيق هذا الشعار، وكيف سيكون مكانة الدين في الدولة التي ينشدون إقامتها، والتي هي مجرد حلم بإعادة إنتاج دولة المدينة أو ما يعتبرونها إستعادة أمجاد الخلافة الإسلامية، ومن أشهر هذه الحركات في العالم الإسلامي نجد:
-حركة الإخوان المسلمين في مصر التي أنشأها حسن البنا في1928 الذي يضع في علمها السيف والقرآن، وهو ما يدل على مدى سيطرة ذهنية العنف على المنخرطين في الحركة، كما تأثروا في أساليب تدريباتهم على تنظيمات النازية الألمانية آنذاك، ونجد هذا التأثير النازي والفاشي على الكثير من التنظيمات التي ظهرت في ثلاثينيات القرن20 سواء كانت دينية أو لائكية، ومنها حتى الكتائب اللبنانية مثلا أو مصر الفتاة وغيرها.
-الجماعة الإسلامية في الباكستان بقيادة أبوالأعلى المودودي في 1941الذي أثر في سيد قطب في مسألة الحاكمية وإعتبار مجتمعاتهم المسلمة أنها تعيش في جاهلية، وقد وضحها المودودي بالتفصيل في كتابه "المصطلحات الأربعة" أين أعطى مفهومه لمصطلحات الإسلام والجاهلية والحاكمية والجهاد معتمدا على تأويل خاص به للنصوص الدينية الإسلامية، وقد كتب المودودي كتابا حول النظرية السياسية للإسلام، يمزج فيها بين مؤسسات الديمقراطية الغربية ومايراه حاكمية اهام، وبتعبير آخر تمييز بين سلطة الأمة التنفيذية فقط للسلطة الإلهية، أي أحكام الشريعة، وقد أطلق عليها ديموثيوقراطية، أي مزج بين حكم الشعب وسلطة اه .
-الحركة الإسلامية في إيران وفكرة ولاية الفقيه، فقد عرفت فترة من العنف على يد نواب صفوت في الخمسينيات من القرن،20 وقبل الثورة الإسلامية في إيران في 1978 وضع زعيمها آيات اهبع روح اه ي الخميني كتيب بعنوان "الحكومة الإسلامية" يحدد فيه نظرية سياسية جديدة اسماها "ولاية الفقيه" أي تولي فقيه أو مجموعة فقهاء دينيين كبار نوع من الرقابة على التشريعات في الدولة، ورفض كل ما يعارض ما يعتقد عندهم أنها شريعة إسلامية، وقد رد عليه عالم ديني عراقي يدعى جواد مغنية رافضا هذه الفكرة، كما رفضها شريعة مداري وغيرهم من علماء دين الشيعة، ولازال النقاش حولها موجود إلى اليوم، خاصة بعد ما تم الإنحراف عن هذا المفهوم لولاية الفقيه في إيران، حيث أصبح والي الفقيه قائدا أعلى للثورة والحاكم الفعلي والأوحد في كل قضايا الدولة لمدى الحياة.
-الحركة الإسلامية في تركيا، وعلى رأسها السعيد النورسي، لكنها تطورت شيئا فشيئا متأثرة بمدرسة كمال أتاتورك الحداثية، مما أنتج اليوم حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان.
-الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية المعروفة بتطرفها وتمسكها بالنص الحرفي للنصوص الدينية، خاصة الأحاديث النبوية، ومنها إعتبارها السنة النبوية معناها إتباع ما يعتقدون أن الرسول (ص) يقوم به خاصة في الأمور الشكلية مثل إطلاق اللحى والملبس دون أن يعوا أن حتى أبوجهل كان يطلق لحيته مثلا، كما أحتوت كتب محمد بن عبدالوهاب الكثير من النصوص التكفيرية للمخالفين له، فقد وصلت هذه الحركة إلى السلطة بواسطة العنف أو ما يعتبرونه جهادا في شبه الجزيرة العربية.

فقد أنتجت بعض هذه الحركات إرهابا بإسم الدين عاشته العديد من الدول، ومنها جزائر التسعينيات، مما جعل البعض يرى في تلك الأحداث عملية قيصرية وحتمية سيولد منها قطيعة تامة مع ما يعتبرونه الإنحطاط والتخلف بإسم الدين، ونجد من ضمن هؤلاء تلميذ محمد أركون ومترجم أعماله السوري هاشم صالح، لكن خفي عنه أن هذه الظاهرة العنفية بإسم الدين ليست جديدة، بل تتكرر عبر تاريخنا الطويل، كما أشرنا إليها عند حديثنا عن بن خلدون وتكوين وسقوط الدول في بلادنا المغاربية مثلا.
لكن أكثر من هذا دخلت إلى جانب هذه الحركات كل من الأنظمة القائمة التي وظفت الدين لخدمة سلطويتها، وكذلك القوى الكبرى التي وظفته أيضا لتحقيق أهدافها الإستراتيجية الدولية، وهو ما يطرح أمامنا مسألة دور الدين وتوظيفه السياسي في العالم المعاصر.


تتبع بمقالة خامسة عنوانها : التوظيف السياسي للدين في العالم العاصر



البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-