الإنقلاب الإتصالاتي وبداية أفول الإعلام الرسولي


حمدى عبد العزيز
الحوار المتمدن - العدد: 5657 - 2017 / 10 / 2 - 03:36
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر     


من إيجابيات هذا العالم الإتصالي (مواقع التواصل الإجتماعي وعلي رأسها الفيسبوك)
ذلك الإنقلاب الكبير الذي حدث علي صعيد العملية الإعلامية ذات الطبيعة المركزية التقليدية التي تتكون من طرف أعلي (رسول مركزي) يتمثل في المذيع أو الكاتب أو قارئ النشرة أو مدير الحوار المرتب حول موضوعات النشرة أو بعض الموضوعات الثقافية والفنية لضيوف تحددها تلك المنصة الإعلامية المركزية أو ذاك

وطرف آخر هو (عموم المستقبلين) والعلاقة بين الطرفين كانت قبل ظهور مواقع التواصل الإجتماعي كعلاقة الإمام بالمصلين في خطبة الجمعة أو علاقة المصلين بالقس في القداس الكنائسي

إذ غير مسموح للمستقبل أن يناقش أو يختبر صحة أو عدم صحة مايقوله الإمام أو القس طبقاً للقداسة التي تحيط بهذه المناسك

في الإعلام التقليدي ليس ممكناً أو متاحاً بحكم آليات ذلك الإعلام وتمفصله عن المجتمع باعتباره منصة تتطل عليه من أعلي

يكتب الكاتب
ولايستطيع أحد من القراء مناقشته بشكل مباشر
، ويذاع الخبر
ولايستطيع أحد ما من المستقبلين للخبر مناقشة صحته أو مقابلته بزاوية نظر تصحح وقائعه

ربما علي هامش كل هذا يتم عمل بعض البرامج الحوارية لكنها لاتغير من تلك الطبيعة المركزية الفوقية والسلطوية التوجيهية للإعلام المركزي فهي تتم كأمور محددة وهامشية وفي سياق تأكيد هيمنة المنصة الإعلامية الفوقية

لذلك فعبر عقود طويلة شهدنا ظاهرة الكاتب النخبوي والمبدع النخبوي والمثقف النخبوي الذي ينتقل من مكانة اجتماعية تحتية إلي مكانة إجتماعية فوقية ليصبح قريباً من الإنضمام للصفوف (الإجتماعية) المهيمنة علي عموم المجتمع إن لم يكن قد قدم أساساً من تلك الصفوف المهيمنة

ودائماً بحكم هذه الوضعية وبحكم كون هذا الإعلام التقليدي كمنصة فوقية لها تمفصلها الخاص عن المجتمع ...

وبحكم أن آلياته لاتسمح بالإتاحة المباشرة اللحظية للتفاعل والحوار والنقاش علي النحو الذي تسمح به مواقع التواصل الإجتماعي ولكون هذا الإعلام التقليدي ينأي بنفسه عن ذلك استبقاءً لذلك التميز المركزي الذي يعني تميزاً اجتماعياً

وبحكم كل ماسبق فهو دائماً يصلح كأداة للهيمنة الطبقية وللسلطة السياسية المعبرة عن تلك الهيمنة والتي تبقي بدورها علي فوقيته ومركزيته وعلي وضعيته المقدسة كرسول يرسل رسالته إعلاماً لمستقبلين عليهم أن يستقبلوا الرسالة الإعلامية باستجابة لايصحبها تداخل أو نقاش
أو أي فحص واختبار مباشر لصحة تلك الرسالة اللهم أن يتم ذلك لاحقاً علي مستوي النقاش والجدال التحتي المتجرد من إمكانات وأدوات التواصل الفعالة

وذلك غالباً مايكون عبارة عن نقاش وصراخ وآنين تتكفل به في النهاية آدوات القمع والإحتواء التي تحوذها الطبقات المهيمنة وسلطتها

وبغض النظر عن الكثير من المظاهر السلبية التي تصاحب استخدام الكثيرين لمواقع التواصل الإجتماعي
فإن جوهر الثورة التي أحدثتها مواقع التواصل الإجتماعي هو أنها أنزلت الكاتب والمفكر السياسي "الرسول" من منصته الفوقية وجعلته مجرد طرف مبادر للحوار الذي قد ينتهي بتوالد كثير من الأفكار المهمة حول ماطرح مما قد يقوض فكرته من الأساس أو يطورها

ولم تعد هناك حصانة لكاتب مهما علت قيمته في مواجهة التناول والنقاش والجدل من الملايين من مستخدمي الإنترنت المرتادون لمواقع التواصل

ولم تصبح - في سياق هذا العالم الإتصالي - هناك قداسة لفكرة أو قلم
فكل الأفكار مطروحة للنقاش بلاحرج أو قيود

بل أصبح أمر الكتابة والنشر مباحاً متاحاً أمام المئات والألآف والملايين من الموهبين وغير الموهبين من أصحاب المواهب الفنية والإبداعية والكتابية وأصحاب الأراء السياسية وغير السياسية

واصبح من الممكن طرح أفكار وأشكال إبداعية أدبية أو فنية دون معاناة مع دوريات ودور النشر ومنصات العرض الموسساتية التي تتحكم فيها المركزيات الإعلامية التجارية

لايوجد رسول وأتباع رسل حتي وإن حاول البعض استخدام آدوات هذا العالم في ذلك

عبر آدوات هذا العالم الإتصالي إذا لم يعجبني موضوع أو لم تعجبني فكرة أو مادة منشورة لن أدير المؤشر لأنني استطيع أن أعبر عن رفضي واستيائي من ذلك وأن أفضح ماآراه زيفاً وبطلاناً حسب ثقافتي وقناعاتي الخاصة

واستطيع كذلك أن أدعم مايتوافق مع قناعاتي وأن أضيف إليه وأن أسهم في تطوره

صحيح أن الكثير من آليات المتابعة والمراقبة السلطوية وعمليات الحجب يتم التقدم بها داخل هذا الميدان لكنها فضلاً عن صعوبتها ستتعثر بفعل اتساع مستخدمي هذا العالم الإتصالي عبر دول العالم والفاعلية التي تنجم عن ذلك علي أرض واقع المجتمعات المختلفة

باختصار لكل الحكاية
الإعلام التقليدي يشكل إتصالية رسولية سلطوية الطابع

بينما عالمنا الإتصالي الذي بدأ في إزاحة هيمنة منصات الإعلام التقليدي هو يتشكل كعملية إتصالية تشاركية صراعية حيوية ذات نبض لحظي طازج وحي

_________
حمدى عبد العزيز
29 سبتمبر 2017