الرُّوهِينْغَا: مِنَ الدَّلاي لامَا ودِيزمُونْد تُوتُو إِلَى أُونْقْ سَانْ سُو!


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 5646 - 2017 / 9 / 21 - 23:35
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

(1)
وسط الغضب الإنساني العارم الذي ما ينفكُّ يتفجَّر، رويداً رويداً، عبر كلِّ الآفاق، ممزوجاً بالأسى العميق وبالألم الحرَّاق، إزاء ما تتعرَّض له أقليَّة الرُّوهينغا المسلمة في ميانمار (بورما) من حرق، وشنق، وسحل، وسلخ جلود، وبقر بطون، وبتر أطراف، وتفتيت عظام، تبرز حيرة بالغة الضَّخامة من بين كلِّ سحائب الغموض التي تتكاثف حول السَّبب الحقيقي وراء هذه المذبحة غير المسبوقة؛ أفيعقل أن يكون هذا السَّبب كامناً، بالفعل، في وجود بعض المتطرِّفين وسطهم؟! أم السَّبب هو لونهم الدَّاكن، ودينهم المختلف، كما تذهب إلى ذلك بعض التَّفسيرات المجنونة لهذا الاضطهاد المنظَّم يطال مئات الآلاف من أفراد هذه الأقليَّة، رجالاً ونساءً، أشياخاً وأطفالاً، لا يكفُّون عن الركض عبر الحدود الدَّوليَّة، كأفراخ نعام مذعورة، إلى خارج البلاد، ترميهم تايلاند في البحر، وتضيق بنغلادش بهم رغم الأواصر، نيران الرَّشَّاشات خلف الظهور، ورعب الألغام تحت الأقدام، و(حكومات) العالم لا تملك لهم سوى قرارات لا تُنفَّذ، وتوصيات ليس ثمَّة مَن يحفل بها، دَعْ الحكومات التي تكاد أصابعها تنغمس بكليَّاتها في عجين التَّواطؤ ضدَّهم، كالبريطانية، والألمانيَّة، والنِّمساويَّة، والإيطاليَّة، والهنديَّة، وغيرها.
فعلى سبيل المثال ظلت الحكومة البريطانيَّة توفِّر التَّدريب لجنود النِّظام الميانماري قبل أن تضطر لإيقافه، الأسبوع الماضي (20 سبتمبر 2017م)، بعد أن بلغ السَّيل الزُّبى. كذلك لم تستشعر حكومتا ألمانيا والنِّمسا مثقال ذرَّة من الحرج إزاء حرارة استقبالهما لرئيس هيئة أركان الجَّيش الميانماري ووفده الزَّائر، خلال أبريل 2017م، وفتحهما أبواب مخازن سلاحهما، على مصاريعها، أمامهم، ولعابهما يسيل لمخايـل الصَّـفقة التي يمكـن لهمـا إبرامهـا معهـم، وهمـا عالمـتان بالأهـداف التي ستُسـدَّد إليهـا فوهـات هـذا السِّلاح!
أمَّا (شعوب) العالم، فثمَّة حملات نبيلة بدأت تتسابق في تنظيمها وسطهم شبكات مدنيَّة عالميَّة، كشبكة (آفاز)، مثلاً، للضغط على هذه الحكومات كي تكفَّ عن مساندة جزَّاري ميانمار، مذكِّرة بنموذج رواندا، حيث لم ينتبه العالم للمأساة إلا بعد أن بلغ عدد القتلى 800,000 ؛ فضلاً عن أن هذه الشُّعوب لا يفتأ يتصاعد دويُّ احتجاجاتها التي يغلق أذنيه عنها المجلس العسكـري الحاكـم، الممسـك بجمـيع السُّـلطات، والمسـؤول الأوَّل والأخـير عـن استمـرار تردِّي أوضـاع الحـريَّات، وعن مواصلة سياسـات الإفـلات مـن العقـاب، وعن اكتظاظ السُّـجون بمـا يربو على 2100 سجـين سياسـي، ومـا إلى ذلك مـن مظاهـر العسـف الشُّـمولي.
ولئن كان ملايين النَّاس، في عشرات البلدان حول العالم، يرزحون تحت ألوان من هذا العسف، فإنه يتجاوز، في ميانمار، سائر الانتهاكات العاديَّة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، ليبلغ، في حالة الرُّوهينغا بالذَّات، أقصى مستويات (التَّطهير العرقي) و(الإبادة الجَّماعيَّة). ففي 2016م أعلنت السُّلطات، هنا، نتائج إحصاء سكاني خاص بالدِّين والعرق كانت أجرته عام 2014م، ليكشف عن أن المسـلمين المسـجَّلين يقـدَّرون بـ 1,147,495 نسمة، من إجمالي تعداد سكان البلاد البالغ 51.5 مليون نسمة، حيث تراجعت نسبتهم من 3.9%، كما في تعداد سابق عام 1983م، إلى 2.3%، علماً بأن الإحصاء الأخير لم يشمل زهاء 1.2 مليون نسمة من المسلمين.

(2)
أُونْقْ سَانْ سُو زعيمة معارضة سابقة لنظام الحكم في ميانمار، ولطالما سطع نجمها، بهذه الكيفيَّة، في سماء العالم. لكنها تشغل، حالياً، بقدرة قادر، وفي نفس النِّظام، منصب مستشار الدَّولة الذي يعادل منصب رئيس الوزراء، كأول من شغله، بناء على ما لجأ إليه النِّظام من( إصلاحات) جزئيَّة لم تغيِّر من طبيعته شيئاً!
حصلت أونق، عام 1969م، على البكالوريوس في الاقتصاد والسِّياسة من أوكسفورد. وعملت في الأمم المتَّحدة بنيويورك لثلاثة أعوام. وفي 1985م حصلت على الدكتوراة في العلوم السِّياسيَّة من جامعة لندن. وعادت إلى بورما عام 1988م، لتصبح الأمين العام للرَّابطة الوطنيَّة من أجل الدِّيموقراطيَّة، أهمِّ قوى المعارضة، فوُضعت، منذ 1989م، قيد الإقامة الجَّبريَّة بمنزلها.
خلال ذلك نالت أونق جائزة سخاروف لحريَّة الفكر عام 1990م، وجائزة نوبل للسَّلام عام 1991م من أجل دعمها للنِّضال السِّلمي، وجائزة جواهر لال نهرو من الحكومة الهنديَّة عام 1992م، بالإضافة إلى عدد آخر من الجَّوائز العالميَّة في هذا المجال؛ كما قرَّر مجلس الشِّيوخ الأمريكي بالإجماع منحها ميداليَّة الكونغرس الذَّهبيَّة، أرفع تكريم مدني في الولايات المتَّحدة، مصدِّقاً على قرار مجلس النُّواب بهذا الخصوص.

(3)
غير أن كلَّ ذلك التَّقدير تحوَّل، الآن، إلى أمر مثير للجدل، بل مشكوك فيه. فحتَّى الدَّلاي لاما، الأب الرُّوحي للبوذيين، استبشع محنة الرُّوهينغا، معبِّراً عن حزنه إزاءها، وعن قلقه من تصعيد العنف الذي أفضى إلى فرار ما يربو على الثَّلاثمائة ألفاً منهم إلى خارج البلاد ذات الأغلبيَّة البوذيَّة؛ كما استشعر بأن أونق قد تكون، للغرابة، في حاجة إلى من يذكِّرها بضرورة إيجاد حلٍّ سلمي للأزمة، فبعث إليها برسالة يناشدها فيها العمل على التَّواصل مع كلِّ قطاعات المجتمع، والسَّعي لاستعادة العلائق الوديَّة بين جميع السُّكَّان بروح السَّلام والمصالحة، مضيفاً أن بوذا كان، في مثل هذه الظروف، سيساعد، قطعاً، هؤلاء المسلمين المساكين (ذا هندوستان تايمز؛ 12 سبتمبر 2017م).
أمَّا في الكثير من الحالات فقد انقلب ذلك التَّقدير إلى الضِّد تماماً، بل إلى عداء جهير! فوسط تصاعد المحنة دعت المنظمة الإسلاميَّة للتَّربية والعلوم والثَّقافة (إيسيسكو) لجنة نوبل لسحب جائزتها للسَّلام من أونغ؛ كما تكاد الحملات لا تهدأ على مواقع التَّواصل الاجتماعي لنفس الغرض، حيث ينقم الكثيرون من (بطلة) الحريَّات والدِّيموقراطيَّة صمتها الذي لا يعني لديهم سوى تواطئها في قمع الرُّوهينغا!

(4)
مِن أبرز الذين أصابهم هذا الصَّمت بألم مضاعف رجل الدِّين المسيحي الجَّنوب أفريقي ديزموند مبيلو توتو، النَّاشط العالمي الحائز، في 1984م، على جائزة نوبل للسَّلام لتبنِّيه نهج النِّضال السِّلمي، وفي 1986م على جائزة البرت شويزير الإنسانيَّة ـ جائزة الحريَّة، وفي فبراير 2007م على جائزة غاندى للسَّلام ـ جائزة رئيس الهند. وكان توتو قد بدأ حياته العمليَّة مدرِّساً في مطلع خمسينات القرن المنصرم، قبل أن يدرُس اللاهوت ليصبح قِسَّا تابعاً للكنيسة الانجليكانيَّة في 1961م. وفي 1966م حصل على إجازة في اللاهوت من جامعة كينغز كولج بلندن؛ ثمَّ تولى تدريس علوم اللاهوت بجامعة فورت هار التي كانت جامعة السُّود الوحيدة في جنوب أفريقيا. وفي 1972م عاد إلى بريطانيا نائباً لرئيس صندوق التَّعليم الدِّيني بمجلس الكنائس العالمي. وفي 1976م أصبح أسقفاً بمملكة لوسوتو التابعة لجنوب أفريقيا؛ ثمَّ أصبح، في 1978م، أوَّل رئيس أسود لمجلس الكنائس بجنوب أفريقيا.
وفي سبعينات القرن الماضي إنضمَّ توتو إلى (حركة الوعي الأسود) الدَّاعية لحقوق السُّود في جنوب أفريقيا. لكن بقدر معارضته لسياسة (الأبرتهايد) كان يرفض تعامل السُّود الانتقامي معها. وفي 1995م تولى رئاسة (لجنة الحقيقة والمصالحة) التي شكلها الرَّئيس نيلسون مانديلا، والتي يُعتبر تقريرها النِّهائي أحد أهمِّ أركان (المصالحة الوطنيَّة) في جنوب أفريقيا، مِمَّا أهَّله، بعد ذلك، للمشاركة في تأسيس (المركز العالمي للعدالة الانتقاليَّة) بنيويورك.

(5)
وفي السَّابع من سبتمبر الجَّاري تداولت الصَّحافة والإعلام العالميَّين، نصَّ رسالة مؤثِّرة بعث بها، من جانبه أيضاً، ديزموند توتو إلى أونق، قائلاً:
"عزيزتي أونق سان سو كيي،
مع أنني، الآن، شيخ كهل، وقد تقاعدت قبل سنوات طوال، إلا أنني أجدني مضطراً لأن أنكص عمَّا عاهدت نفسي عليه من نأي عن الخوض في القضايا العامَّة، وذلك بسبب حزني العميق لما تعانيه أقليَّة الروهينغا المسلمة في بلادك.
لقد ظللتِ تتبوَّأين، في سويداء قلبي، مكانة الأخت العزيزة الحبيبة، وظللتُ، لسنوات، أحتفظ بصورة فوتوغرافيَّة لك على منضدة مكتبي لتذكرني بما قاسيتِ من ظلم جرَّاء حبك لشعبك، شعب ميانمار، والتزامك بقضاياه، وما بذلتِ من تضحيات لأجله، حتَّى صرتِ رمزاً رائعاً للاستقامة الأخلاقيَّة. وقد ابتهجنا في 2010م بإطلاق سراحك من الإعتقال المنزلي، مثلما احتفلنا، في 2012م، بانتخابك زعيمة للمعارضة. إن ظهورك في الحياة العامَّة أنعش آمالنا بقرب انتهاء العنف الممارس ضد الروهينغا. غير أن الظاهرة التي أسماها البعض بـ (التطهير العرقي)، وأسماها آخرون بـ (الإبادة الجَّماعيَّة البطيئة)، قد تفاقمت، مؤخَّراً، وتسارعت خطاها، وأضحى مجرَّد تخيُّل صور البطش الذي يعانيه الروهينغا يملأنا رعباً وفزعاً.
إننا متأكِّدون من أنك تدركين، تماماً، أن البشر قد يبدون مختلفين، أو حتَّى يتعبَّدون بشكل مختلف، وقد تكون لدى بعضهم أسلحة أكثر فتكاً مِمَّا لدى غيرهم، ومع ذلك ليس فينا من هو أعلى أو من هو أدنى. وحين ننفذ إلى ما تحت سطح القشرة الخارجيَّة، فإننا نكتشف كم نحن متساوون، أبناء عائلة واحدة، عائلة الإنسانيَّة، دون أيِّ فوارق بين بوذيين ومسلمين؛ وسواء كنا يهوداً أو هندوساً، مسيحيين أو ملحدين، فلقد ولدنا لنتحاب بلا أيِّ أحكام مسبقة. إن التَّفرقة لا تقع بشكل طبيعي، وإنَّما بالتَّعلم.
أختي العزيزة، إذا كان صمتك هو الثَّمن السِّياسي لارتقائك إلى أعلى المناصب في ميانمار، فمن المؤكد أن هذا الثَّمن ينحدر بك، في الواقع، إلى أسفل سافلين. إن البلاد غير المتصالحة مع ذاتها، والتي تعجز عن تقدير كرامة أبناء شعبها، واحترام قيمهم أجمعين، لا يمكن أن تكون بلاداً حرَّة قط. وإنه لمن المستغرب، حقَّاً، أن يتزعَّم بلاداً كهذه مَن يُعتبر مِن رموز الاستقامة. إن هذا لممَّا يضاعف من الأسى والألم.
والآن، بينما تجري مشاهد الرُّعب اليوميَّة هذه أمام أعين العالم، فإننا نصلي من أجل أن تستعيدي شجاعتك، وتستردي جرأتك، وتطلقي، مجدَّداً، دعوتك الجهيرة للعدل، وحقوق الإنسان، ووحدة شعبك؛ نصلي من أجل أن نراك تتصدِّين، كما كنت دائماً، لوضع حدٍّ لهذه المحنة المتصاعدة، ومن أجل أن يصطفَّ، خلف قيادتك، مرَّة أخرى، أبناء وبنات شعبك، في المسيرة القاصدة على طريق النَّزاهة والاستقامة.
وإذ أسأل الرَّب لك التَّوفيق، تقبَّلي خالص محبتي
كبير الأساقفة مدى الحياة/ ديزموند توتو
هيرمانوس ـ جنوب أفريقيا".
***